ترجمة وتحرير نون بوست من الفرنسية
في غمرة إعادة التشكيل، يقف الفريق الحكومي الصومالي الجديد أمام تحديات هامة من بينها إعادة إحلال السلام في بلد تمزقه الحرب الأهلية منذ عشرين سنة، أو بعبارات أوضح التحدّي هو كسب الحرب ضد حركة الشباب المتطرفة، الخصم الأبرز للنظام، وهو تحد مصيري تدخله الحكومة بحظوظ ضعيفة بسبب الفساد المستشري وضعف الشرعية وعدد من العوامل التي تزيد من هشاشة الحرب على الإرهاب.
يوم السبت، العاشر من يناير 2015، اجتمع في مقديشو وزراء خارجية كل من كينيا وأثيوبيا وجنوب السودان وجيبوتي لمناقشة سيناريوهات حل الصراع الصومالي، اجتماع يُعدّ الأول من نوعه منذ ثلاثين سنة، الأمر الذي جعل وزير الخارجية الصومالي المؤقت عبد الرحمن بايله يفتخر بكون مقديشو آمنة لدرجة احتضان مثل هذا الاجتماع، رغم أن هذا الأمان احتاج لوجود مكثّف لدوريّات الأمن وتطويق للمدينة وتوقيف للنشاط التّجاري.
ورغم أن حركة الشباب تكبّدت هزائم هامة من بينها خسارة قيادات مهمة في الحركة، فإن قدراتها العملياتية لم تضعف، فعلى إثر مقتل زعيمها أحمد عابدي غودان في ضربة جوية في السادس من سبتمبر 2014 ردّ أنصارها بعد يومين بعملية انتحارية في شمال العاصمة.
التطرف والتدخل
الهدف المُعلن لحركة الشباب هو إنشاء “دولة إسلامية” في الصومال، وهي مصنّفة كمنظمة إرهابية من قِبل كل من الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة وكندا والنرويج ونيوزيلاندا وفرنسا، ويقدّر عدد أعضائها ببضعة آلاف قادمين من ميليشيات اتحاد القبائل التي كسبت وزنًا ونفوذًًا منذ مطلع سنة 2000.
هذه الميليشيات هي اتحاد قبائل تقول إنها تعتمد “الشريعة كقانون يحقق العدالة ويعوض غياب الدولة”، ويقر مراقبون بأنها نجحت في تحقيق الاستقرار بعد خمس عشرة سنة من الحرب الأهلية؛ وهو ما جعل منها قوّةً غامضة وخطيرة موازية للدولة وغير قابلة للإخضاع ، وتلى ذلك الغزو الأمريكي الأثيوبي الذي اُعتبر تهديدًا إرهابيًا داخل أعضاء اتحاد القبائل الإسلامية وهو ما دفع بعدد منهم للجنوح أكثر نحو التطرف، والمستفيد الأبرز من ذلك كان حركة الشباب.
بالنسبة لرولان مارشال، الباحث بالنزاعات المسلحة في أفريقيا جنوب الصحراء بالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، ظهرت حركة الشباب خلال هذا التدخل العسكري، وهو ما يشير إلى فداحة مواجهة الشر بالشر، كما يشير مارشال إلى صعوبة التفاهم بين نموذجين للحكم وثقافتين مختلفتين مما يعصف بحسابات الطرفين.
ورغم سهولة إلقاء اللّوم على الأمريكيين، فإنه من المهم جدًا عدم عزلهم، فهذا الخيار العسكري الذي أغرقهم في حرب بلا نهاية على “الإرهاب” هو في الحقيقة خيار مجموعة معينة من الجهات المتنفذة.
فبالنسبة لأثيوبيا تنظيم القاعدة يتحكم في اتحاد القبائل عبر حركة الشباب، وحتى وإن كان هذا التنظيم يشكل أقلية فإن أثيوبيا قررت التدخل عسكريًا لاجتثاث اتحاد القبائل كليًّا؛ وبناءًا على ذلك استفاد الأثيوبيون الذين ترتبط مصالحهم بمصالح الأمريكيين من الدعم الأمريكي الذي تضاعف 17 مرّة بين سنتي 2001 و2004، كما استفادت من الحصول على تدريبات على أيدي مستشارين أمريكيين وعلى معدات جويّة لفائدة الجيش الأثيوبي، حتى انهار اتحاد القبائل في ربيع سنة 2007 بسبب الغزو الأمريكي الأثيوبي وبسبب الانقسامات الداخلية.
ولكن حركة الشباب خرجت قوية بعد هذه الهزيمة واتخذت منحًا أكثر تطرفًا مع نجاحها في تعبئة الناس على الرغم من أخطائها الإستراتيجيّة، وبقيت شعبيتها مرتبطة بمناطق معينة مع تواصل سيطرتها على جزء كبير من التراب الصومالي ومنافستها للحكومة، وحسب الانطباع الأولي يمكن القول إن الحركة تسعى إلى تطبيق “الشريعة” حسب رؤية سلفية متشددة.
الأسطورة العقدية والوحدوية
“ليندا نشي” هو اسم العملية العسكرية التي أطلقتها كينيا منذ أكتوبر 2011 في الصومال بعد فترة طويلة من عدم التدخل في الحرب الأهلية الصومالية، وبسبب هذا التدخل الكيني تعرضت نيروبي لهجوم انتقامي من قبل حركة الشباب في سبتمبر 2013، ولكن هذا العنف القاتل أدى إلى انقسامات داخل قيادات حركة الشباب حول الرد المناسب على هذا التدخل الكيني، فرغم إذعان القيادة للشق المطالب بالعنف داخلها، كان هناك آخرون ينصحون بالامتناع عن مهاجمة كينيا والمحافظة عليها كقاعدة خلفية للدعم اللوجيستي.
استخدام العنف مثير للجدل دائمًا، ومن السذاجة الاعتقاد أن هناك إجماعًا مطلقًا حول اعتماد هذا الأسلوب، ويمكن أن نلاحظ عكس هذا عبر متابعة طرق إدارة المناطق التي تسيطر عليها حركة الشباب، حيث تظهر اختلافات فيما يخص تطبيق الشريعة ومعاملة السكان، فعلى الرغم من الصورة الإعلامية التي تقدمهم كقتلة، فإنهم ليسوا مجرد مجموعة إرهابية، وإنما هم مجموعة تمارس الحكم وتستخلص الضرائب وتوزّع جزءًا من الثروة على عامة الناس.
ويقول رولان مارشال: “ربما لا نستطيع القول إن حركة الشباب هي الآن أقوى من أي وقت مضى خاصة وقد فقدت زعيمها، ولكن من جهة أخرى من غير الواقعي أن نعتقد أن هذه الحركة ستنهار في الغد القريب، ما نشاهده هو أنه كلما فقدت الحركة بعض كوادرها الهامة كانت هناك ردود أفعال من خلال هجمات إرهابية موجعة”.
لطالما أدت سياسات التدخل الخارجي إلى ميل الناس للوحدة العقدية، هذه الوحدة العقدية سببها هو اعتقادنا الخاطىء أن هذه المجموعة لها قلب وجهاز يتلقى التعليمات من القلب، بمعنى أنه إن قتلنا القلب قضينا على الجسم، وهو الهدف المعلن من الضربات الجوية، حيث أكدت وزارة الدفاع الأمريكية أن المستهدف من الضربات الجوية في ديسمبر الماضي هو قيادي بارز في حركة الشباب، ورغم أن الضربة حققت أهدافها مما أسفر عن مقتل المسؤول الجديد لمخابرات الحركة، فعلينا ألا ننسى أنّ موت غودان أيضًا كان ينظر إليه كانتصار حاسم، وهذه الإستراتيجية تبدو ساذجة نظرًا لتعدد المعارضين لها.
هذا التماسك الموجود على عدة مستويات يستمد وجوده من العمل العسكري، فالضحايا يميلون دائمًا للتجمع، ولكن ليس بالضرورة حول الأحزاب الأكثر راديكالية للمعارضة، ولكن إذا تمكنت هذه الأخيرة من التأثير إيجابيًا على حالة انعدام الأمن التي يعانيها المواطنون يوميًا فمن المرجح أن تزيد شعبيتها، حركة الشباب لقيت مقاومة شعبية في الماضي ولكن مع الغزو الخارجي وانعدام العدالة وارتفاع الضرائب سيميل جزء من الشعب إلى جانبها.
يقول رولان مارشال إن “اعتماد أسلوب تنظيم القاعدة نجح في تحويل تنظيم مكون من مجموعات صغيرة إلى قوة تسيطر على ثمانين في المائة من الأراضي وسط وجنوب الصومال وتحكم عددًا كبيرًا من السكان”.
الوحدوية مردها أننا نعتقد بوجود شبكات إرهابية مرتبطة مع بعضها البعض، مثل لوحة زيتية ضخمة، ولكن الواقع هو أن حركة الشباب هي في حد ذاتها منقسمة من حيث رؤيتها لأسلوب الكفاح في سبيل الإسلام، فهي مجموعة منقسمة إلى عدة فصائل معادية لبعضها البعض، وذلك بالإضافة إلى جانب الطموح الشخصي لكل فرد، فإنه هناك انقسام بين أنصار “ثورة إسلامية عالمية” ومن يركزون على هدف وطني، في يونيو 2013، اثنان من القادة التاريخيين، إبراهيم حاجي جامة ميد وعبد الحميد حاشي أولهايي قتلوا على أيدي أفراد من المجموعة، وحتى صلات الحركة مع تنظيم القاعدة هي أيضًا مشكوك فيها، فأسامة بن لادن رفض لمدة طويلة التقارب بين تنظيمه وحركة الشباب متهمًا إياها بأنها متطرفة جدًا في طرقها.
إلا أن الزعيم الجديد لتنظيم القاعدة أيمن الظواهري استجاب في عام 2012 لمطالب التقارب مع حركة الشباب، ومع ذلك، لازال هذا الولاء محلاً للتساؤل مرة أخرى، فالبعض داخل الحركة الآن يفضل التحالف مع الدولة الإسلامية، كما يوجد أشخاص كثيرون عاطفيون وطموحون ولكن أيضًا عن دراية وتخطيط تقوم عليهم المجموعة.
ويُعد استسلام رئيس مخابرات حركة الشباب، زكريا إسماعيل أحمد هيرسي، في ديسمبر الماضي مؤشرًا على تفوق النزعة الفردية على المنطق الجماعي داخل المجموعة، ولئن حاولت حركة الشباب التقليل من أهمية هذا الحدث على اعتبار أنه تصرف فردي، فإن هذا التعبير يمسّ الصورة التي تريد حركة الشباب رسمها لنفسها كمجموعة قويّة وموحّدة.
الشرعية المستوردة
منذ سنة 2006 أصبحت الصومال رسميًا مسرحا للحرب على الإرهاب، وشرعية التحرك أصبحت مستمدة من الخارج ومعتمدة على مجريات الأحداث العالمية، وتقارب المصالح مع السكان المحليين لا يوجد إلا في إطار العلاقة مع النخبة، فهنالك فجوة بين ما ترى الحكومات أنه شرعيّ وما يعتقده السكان المحليون، دون ذكر الفساد الذي يلتهم ثلث الميزانية العامة المتأتية من الدعم الدولي، فحتى لو لم تحظ الحكومة الفيدرالية المحلية بدعم شعبي فهي تحظ بدعم من الأطراف المانحة على الصعيد الدولي.
وقد أشارات هيومن رايتس ووتش إلى التناقضات الإعلامية والدبلوماسية التي تندد ببربرية حركة الشباب وتتغاضى عن تصرفات الجيش خلال حرب 2006-2007.
التهديد الإرهابي بعيد المنال
تتميز ديناميكية التدخل بغلبة قوية لخيار العسكرة، فالإرهاب عن طريق العنف الذي يبدو أنه يضرب بشكل “عشوائي” يدفع بسهولة ضحاياه إلى مخابئهم، على المستوى الفردي الإرهاب يولد العاطفة، وعلى المقياس الدولي، الإرهاب هو تهديد، يجب توقعه والتعامل معه، ومع ذلك، لم يعد الإرهاب احتمالاً إحصائيًا بسيطًا نبحث له عن حل منطقي، فبسبب صعوبة الوصول إليه أو التنبؤ به، يمكن تبرير جرعات السياسات الأمنية التي نخدر بها سياستنا.
بينما نحن نتملص من السؤال حول دوافعه وعقلانيته وشرعيته وأساليب عمله وتنظيمها وتنفيذها، وهي الاشياء التي تحاول الاستخبارات أحيانًا توقعها للتنبؤ بالخسائر لكن من خلال أساليب عمل عفى عنها الزمن، كيف يمكننا حماية أنفسنا إذا كنا لا نعلم من أين يأتي التهديد والأسوأ هو إن كنا لا نعرف من هو التهديد أصلاً، مسألة السياسة الأمنية والخيارات ترتبط كليًا بزاوية رؤيتنا لهذه المسألة، وهو ما يؤدي غالبًا بشكل طبيعي وإنساني – ولكن خبيث – إلى التفكير في تدمير التهديد قبل أن يتحول إلى خطر.
الحرب العادلة
حتى اليوم يطغى منطق الدفاع الشرعي على المنطق الأمن والعدالة، فمفهوم الحرب الغير متكافئة يفسر ذلك، هذا المفهوم تم التنظير له قبل أحداث 11 سبتمبر وهو يُعرّف هذه الحرب على أنها حرب بين دولة القانون وعدو غير شرعي ولا إنساني، ولا يتم إعطاء أي شرعية لتحركات أو ردود أفعال هذا العدو ولا يتمّ التفاوض معه، حتى إنه في السادس من ديسمبر 2006 سمحت الولايات المتحدة للاتحاد الأفريقي بالتدخل في الصومال بناءًا على القرار 1725 رغم أنه كان يفترض استئناف المفاوضات بعد عشرة أيام، فالطابع المروع للإرهاب يعطي مبررًا للتدخل العسكري لفرض “الخير”، ورغم أن هذه الرؤية هي الأوضح سياسيًا، فإن مفهوم “العدالة” يطرح عدة إشكاليات.
أسطورة “الأمن مهما كان الثمن”
بعد 11 سبتمبر وبالتزامن مع “الحرب على الإرهاب”، خيّم منطق السيناريو الأسوأ تدريجيًا على القرارات الاستراتيجية في مجال مكافحة الإرهاب، ظهر مفهوم “الحق في الأمن” الذي يتم اعتماده اليوم كمعيار فيما يسمّى بالعالم “الحر”، القبول المشترك لمقولة “كلّما كنا في أمان أكثر كنّا في سعادة أكثر” هو خطأ، فالتضحية بالحرية على مذبح المخاوف الأمنية الجماعية هي في حدّ ذاتها أمر مخيف، فنحن نروّج لخطاب ينبع من المخاوف الخاصة بنا مقتنعين بأن ما ينطبق علينا لا ينطبق على الآخر وكأن الآخر ليس إنسانًا ولا يتستجيب لنفس التعقيد الاجتماعي.
الرأي، هو أن الجميع يلعب دورًا في اختيار إستراتيجيات الدفاع، بما في ذلك مكافحة الإرهاب، والحاجة إلى قرارات سريعة من المرجح أن تؤدي إلى اتخاذ تدابير على المدى القصير تكون عادة مدفوعة باقتراب الاستحقاقات الانتخابية، الديماغوجيا تأخذ بزمام الأمور ويتوقّف دور المؤسسات الديمقراطية: ننتخب أناسًا نريدهم أن يقرروا لنا، ثمّ نأمل أن يتفاعلوا كما كنّا نحن لنتفاعل مع الأحداث.
في المجتمعات التي يعتبر النشاط الديني فيها “بدعة” بسبب العلمانية التي وضعتها القوى الأجنبية، بعض النّاس لا يرون أي وسائل أخرى للتعبير غير استخدام العنف، ويتخذون هذا الخيار على حساب بدائل أخرى، فخيار عسكرة النضال هو واحد من بين عدة خيارات، والعمل يمكن أن يكون إرهابيًا ولكن المجموعة ليست كذلك، فمن خلال الربط بين العمل ومرتكبه، وربطه بفكر إسلامي متطرف، نتجنب مواجهة حقيقة أن العمل الإرهابي يمكن أن يكون عن قناعة واختيار، لمجموعة من الأسباب المحتملة، رغم أن الإرهاب هو خطأ إستراتيجي واضح، فإن العقلانية تفرض علينا ألا نقع في خطأ أكثر وضوحًا وهو مواجهة الشر باستعمال الشر.
المصدر: لو جورنال