إذا كانت شخصية دون كيشوت إسبانيا – التي ظهرت ملامحها أثناء سجن مؤلفها ثيربانتس – شخصية رجل خمسيني ريفي نبيل رومانسي أصولي متمسك بالأحلام والمبادئ، انتهى به الحال مع حصانه الضعيف روسينانتي وجاره البدين سانشو لقتال طواحين الهواء في معارك لا طائل لها، فإن دون كيشوتنا يشبه شخص نظيره الإسباني كثيرًا، إلا أنه يملك جيشًا جرارًا وآلاف المقاتلين والكثير من العتاد، بدل روسينانتي وسانشو، فلم انتهى به الحال مقاتلاً طواحين الهواء في معارك لا طائل لها ولا تخطيط كذلك؟
زهران علوش، خمسيني من دوما في ريف دمشق، من نبلائها وشخصياتها السلفية المعروفة بعد والده، اعتقل بتهمة السلفية في سجن صيدنايا، وهناك أثر وتأثر بالمعتقلين معه في تلك الفترة – وأبرزهم أبو عبد الله الحموي رحمه الله قائد ومؤسس حركة أحرار الشام الإسلامية – ثم خرج من صيدنايا مع بداية الثورة لتشكيل سرية الإسلام، التي أصبحت لواء، ثم أصبحت – مع ما يقال عن الدعم السعودي – جيشًا، ثم انضم إلى الجبهة الإسلامية على مستوى سوريا، والقيادة العسكرية الموحدة للغوطة الشرقية على مستوى الغوطة، ليصبح جيش الإسلام أبرز فصيل مقاتل في ريف دمشق، مع سيطرته على دوما، المدينة الرئيسية في الغوطة الشرقية والريف الدمشقي، ويصعد نجم زهران علوش كشخصية فارقة على مستوى الثورة السورية ككل.
علوش معروف بشخصيته وكاريزميته وعلمه من ناحية، ويظهر ذلك بكونه كالقيادي الأول في دوما والغوطة الشرقية، وبإثارته للجدل واتهامه بالسلطوية والاحتكار من ناحية ثانية، ولعل أبرز الاتهامات له هي قضية اختفاء ناشطي دوما الأربعة – أبرزهم رزان زيتونة -، والأسئلة والاتهامات حول عدم تحركه – مع الدعم البشري والمادي العالي الذي يتفاخر به جيش الإسلام – لتحرير المناطق القريبة أو تقديم الدعم لمن يحتاجه، وآخرها، وهي ما يهمنا هنا، معركة طواحين الهواء: قصف مدينة دمشق.
معركة طواحين الهواء
أعلن زهران علوش الجمعة الماضية على حسابه على تويتر “إمطار دمشق بمئات الصواريخ يوميًا”، وهذا ما حصل بالفعل إذ قُصفت دمشق بعشرات الصواريخ، محققة بعض الأهداف العسكرية للنظام، لكنها في نفس الوقت أدت لمقتل سبعة مدنيين، بينهم ثلاثة أطفال وامرأة – بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان -، وخسارة الثورة كثيرًا من خطابها الأخلاقي والاجتماعي والسياسي في هذه الحركة.
بأي ناحية نظرت لقصف دمشق فهو خاطئ، استهداف المراكز المدنية بقصف بأسلحة غير عالية الدقة، هو قصف عشوائي بمعنى الكلمة، وهذا يعني استخفافًا وتفريطًا بدم وأرواح أبناء المجتمع الذي ثرت لأجله قبل كل شيء، وبالتالي خسارتك لقاعدتك الاجتماعية بينهم، وفعاليتك السياسية والشرعية منهم، وخسارة فرصة كبيرة للأمام، مقابل مكسب إعلامي وما أسماه علوش: “ردعا” رمزيًا لا قيمة له أمام هذه الخسائر، في تكرار كامل غبي، بالمقدمات وبالتالي للنتائج، لما حصل عندما قصف “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام” دمشق بنفس الطريقة كذلك.
لا يؤدي قصف دمشق لهذه الخسائر الأخلاقية والمادية وحسب، بل يعكس بنية فكرية ونفسية وسياسية وعسكرية مليئة بالإشكالات والأمراض لجيش الإسلام، وربما على مستوى الثورة ككل.
العدمية واليأس؛ هذا هو العنوان النفسي الأبرز لقصف دمشق، إذ إنها معركة “بلا أمل بالنصر”، كما يقول ممدوح عدوان في “رحلة دون كيشوت الأخيرة”، فقد تحول الجنود والعتاد وقودًا لمعارك بلا غايات نهائية لها ولا استراتيجيات، يرافقها حالة إحباط مسكوت عنها، تتجلى في قلة التخطيط للمعارك تكتيكيًا، وغياب التنسيق بين الفصائل والمناطق المختلفة، والدخول في معارك غير محسوبة، بحثًا عن انتصارات رمزية إعلامية، بدل بذل المزيد من الجهود للتخطيط والتنسيق ومن ثم التنفيذ.
وللأسف، فلعل هذه الحالة هي حالة متجاوزة على مستوى الثورة وسوريا ككل، بسبب قلة الانتصارات وصمت الأصدقاء وتكالب الأعداء وكثرتهم، لكن الثورة مع ضعفها – كروسينتاني حصان دون كيشوت – تظل واقفة متمسكة بقيمها، إذ مهما بلغ الخطأ الذي قام به زهران علوش، فلا يمكن مقارنته بالنظام مهما بلغ الحال؛ لا لشخص زهران علوش وأثره، أو لأن عدد الضحايا لا يمكن مقارنته بقصف علوش العشوائي بضحايا النظام من قصف عشوائي واحد كذلك – الذين لا يبرر قتلهم وحسب بل يتفاخر به ويتباهى -، أو لأن زهران علوش كان محاربًا نبيلاً حذّر قبل قصف دمشق، فقط؛ بل لأن أبناء الثورة قبل كل شيء هم الذين انتقدوا علوش قبل أعدائه، وأعلنوا رفضهم لقصف دمشق قبل نظام دمشق، فلعل كروسينتاني يأخذ دون كيشوت – المقاتل حتى آخر نفس لإيمانه بالإنسان -، لقتال أعداء حقيقيين في معارك حقيقية، وإن كانت المعركة، كما الثورة:
“معركة اليوم بلا أملٍ بالنصر، وأنت تقاتل كي لا تخجل من نفسكْ كي تجرؤ أن تنظر في عيني إبنكْ كي لا تغرقك الأحلام المخزية، وكي تبقى إنسان”. كما يقول السوري ممدوح عدوان.