قال أحمد بن عطاء الله السكندري “نسيان الحق خيانة، والاشتغال عنه دناءة”، وقال الفرنسي ميشيل دي مونتين أيضًا “ليس من شيء يثبت شيئًا ما في الذاكرة مثل الرغبة في نسيانه”.
هذا لسان حال إسلاميي تونس هذه الأشهر، فرُغم ضعف “إنتاجهم الثقافي” وطابعه المُناسباتي بالمقارنة مع نُظرائهم في مصر مثلاً، إلّا أنهم بدأوا يتحسسون أهمية مواجهة جور التاريخ الذي كتبه ويكتبه الأقوياء وأصحاب السلطة دائمًا، وشرعوا في ترجمة سرديات نضالهم/ عذاباتهم إلى رواسخ أدبية وفنية سهل سفرها إلى ما وراء المحيطات والبحار وصعّب طمسها وإن قرر ذلك حاكم جائر وثابت أثرها في الذاكرة الشعبية جيلاً بعد جيل.
دراقة ، ستار يحجب الحقيقة
هو عنوان لكتاب يحوي مائة وستين صفحة، صدر مؤخرًا عن دار ميارة للنشر والتوزيع لكاتبه بشير الخلفي، وهو سجين سياسي سابق، قضى سبع عشرة سنة في السجن كانت كفيلة بتنصيبه عالمًا عارفًا بتفاصيل سجون النظام الديكتاتوري وممارساته.
الدّراقة كما عرفها الكاتب هي “عبارة عن ستار من القماش يُغطّون به السرير السفلي الذي يُمارس فيه كل الممنوعات من لواط وزطلة (نوع من أنواع المخدّرات) وحبوب مخدّرة وما لا يخطر على بال إنسي”، مُتحدّثًا عن السّجون ومُستعيرًا هذا اللفظ من المعجم السجني ليُوصّف دراقة وطن بأكمله، تواطأ فيه النّظام وأعوانه وحتى عامة الناس الذين أسدلوا ستارًا يحجب حقيقة معاناة ما يفوق ثلاثين ألف سجين رأي وأضعاف أضعافهم من سُجناء الحق العام داخل السجون التونسية.
عرّى الكاتب نقاط سوداء كثيرة لم يجرؤ أحد على تدويينها سابقًا رغم تواتر الروايات، سافر بالزمن أيضًا محاكيًا تجربته الشخصية مُواكبًا تتابع فصولها منذ أيام سجنه الأولى في عهد بورقيبة، ثم تفاعل محيطه مع انقلاب الجنرال بن علي وصولاً إلى المواجهة مع نظام “العهد الجديد” خاصة بعد مضي الأخيرة في نهج استئصال الإسلاميين وخطة تجفيف المنابع.
لحظة اعتقاله، أي بشير الخلفي، مثّلت في كتابه أحد أهم العقد القصصية، إذ نقلتنا من توصيف معاشه اليومي خارج السجن من تنظيم للمظاهرات ونشر للمناشير وحماية لرموز الحركة التي إليها ينتمي متى تمت محاولة القبض عليهم من أمام المساجد، إلى توصيف دقيق لمراحل التعذيب وفصوله ناهيك عن فضح الواقع القاسي للسجون.
رغم وطأة ما تعرض له من صنوف الإهانة والتنكيل، حاول الكاتب أن يبرز أن جور نظام الاستبداد لم يكسر من إرادته عبر محاكاة حوار ساخر (سخرية سوداء) مع الجلاد ومع عصى الجلاد كلا على حدة، لينتهي بفصل إطلاق سراحه من السجن الأصغر ليخرج للسجن الأكبر حسب وصفه، مبينًا تواصل العذاب حتى بعد السراح من خلال قطع الأرزاق والمراقبة اللصيقة والتفاعل مع محيطه الذي غاب عنه لسنوات.
في المجمل، مثّل كتاب “دراقة، ستار يحجب الحقيقة” شهادة حية لما تعرض له الآلاف في تونس، كتاب أوجع وصفًا وأنهك قسوة وفضح المستور.
صراع، الفيلم الذي أبكى الكثيرين
نون بوست كانت حاضرة في العرض ما قبل الأول لفيلم “صراع” الذي تم تصويره في صيف 2013 حول حياة إحدى العائلات التونسية، التي عانت خلال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، خلال الفترة الممتدة من 7 نونبر 1987 إلى 14 من يناير2011، في قاعة الكوليزي بالعاصمة.
هو فيلم بحث مخرجه عن تشخيص السمات الكبرى لفترة حالكة مر بها إسلاميو تونس داخل السجون وخارجها، (…) “لا تستطيع أن تنسى بعد الفيلم مشاهد الاقتحامات الليلية لزوار الليل وترويع الأطفال والنساء والشيوخ واعتقال المعارضين وتعذيبهم حتى الموت أحيانًا.
لن تنسى مشاهد الرعب في السجون التونسية وتعذيب وهرسلة السجناء السياسيين داخلها وخاصة النساء، سيرسم لك الفيلم الصورة الحقيقية التي لا نعرفها عن عالم ما وراء القضبان.
قصة المربية التي يداهمها النوم مع آلتها الموسيقية المفضلة “العود” على ذكرى حبيب ظلت تنتظره لخمسة عشر عامًا كاملة ليعود لها أقرب إلى الشيخوخة وقد غزا الشيب رأسه.
لن تنسى أبدًا كيف يتحايل أهل السجين على الرقابة ليحصل ابنهم على ورقة وقلم (توضع داخل الخبز) ليكتب جزءًا من مأساته الممنوعة.
لن تنسى كيف يُمنع أب من حضن ابنته الصغيرة لمّا ترصدته وهو داخل من السجن إلى المستشفى فيما يتمنى سجّانه سرًا لو “يخفف الله خبزته” من هذه الوظيفة تعاطفًا معه.
لن تنسى كيف ترفض ابنة السجين والدها الذي تركها رضيعة منذ 15 عامًا، وتقول له “أنت جئت متأخرًا جدًا”.
لن يتركك المخرج تغمض عينيك عند مشاهدة الفيلم طيلة ساعتين تقريبًا، ويحولك من ضجيج الحركة وحيويتها إلى صراخ صمت رهيب .. (…)” هكذا علق عمر الرواني في خاطرة نشرها موقع الحوار نت تفاعلاً مع الفيلم.
هو فيلم صدم المشاهدين بتصوير دقيق لأساليب التعذيب، حرك المشاعر ووصف بشاعة النظام الديكتاتوري وأدواته، تجدر الإشارة إلى أنه مُنع عرضه في أيام قرطاج السينمائية، لتزامنها مع الحملة الانتخابية وإمكانية تأثيره على نتائج الانتخابات، كما بررت إدارة المهرجان.
أوجاع وعذابات للتجاوز
رغم اختلاف جنسيهما الفني بين محكي مكتوب ومرئي، مثّل كتاب دراقة وفيلم صراع أول لبنات حفظ التاريخ وتدوينه لدى إسلاميي تونس بعد الثورة من باب أن “نسيان الحق خيانة، والاشتغال عنه دناءة”، وهو تطور هام في مسيرة التطبيع مع الإنتاج الثقافي، إلا أنه من الضروري الانتباه إلى أن مثل هذه الأعمال لا تؤثر إلا فيمن عاشها أو في دوائرهم القريبة، الإسلاميون عليهم أن يتجاوزوا التفكير في الماضي حتى يسهموا بحق في مجهودات البناء الحضاري لأمة تأخر ركبها بين الأمم.
فرض اعتراف التاريخ بهول ما لاقاه الإسلاميين ضروري وهام للعبرة، ولكن يبقى مبحث إيجاد إجابات فعلية من مشاكل الأني مهم أيضًا، فالامتياز يكون عندما لا يبقى الفرد منا حبيس ماضيه وأن يترك بصمته اليوم، لأن فعل الأمس مهما شرف يبقى فعلاً ماضيًا.