بينما تستمر جهود الهند في صعودها الاقتصادي والسياسي والعسكري على الساحة العالمية، يزداد طموحها في التأثير على مجريات السياسة العالمية والآسيوية خاصةً، وهو أمر قد يتطلب ربما الانتظار لسنوات أو عقود قبل أن يتحقق لها كبلد أي نوعٍ من التساوي مع الولايات المتحدة أو الصين، أو حتى اقتصاديًا مع ألمانيا واليابان، بيد أن دلهي لا يبدو أنها تريد الانتظار طويلًا، فمنذ مطلع هذا القرن، بدأت الهند في تأسيس لوبي يستطيع التأثير على صناع القرار في الكونجرس الأمريكي، ليكون لها موطئ قدم في البلد الأهم في العالم، والذي سيظل مهمًا لوقت طويل كما يرجّح أغلب المحللين، مما يعني إدراكها أنه ليتسنّى لها تحقيق ما تريده في محيطها الإقليمي، وتعزيز نفوذها الدولي على المدى القصير، سيكون عليها الاهتمام بشكل دؤوب بالضغط الخاص بها في واشنطن، وليس فقط تعزيز اقتصادها وقوتها.
النجاح الأول: الاتفاق النووي
في يوليو 2005، ظهر رئيس الوزراء الهندي السابق مانموهان سينغ مع الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش، وأعلنا بداية تعاون نووي مدني بين البلدين، وهو ما تم بشكل رسمي بعد تسعة أشهر، حين وقّع كلاهما اتفاقية التعاون النووي المدني بين الطرفين بدلهي في مارس 2006، وكانت تلك الخطوة صدمة للكثيرين، أولًا لأن العلاقات بين الهند والولايات المتحدة لم تكن أبدًا قوية، بالنظر لتحالف الهند مع روسيا خلال الحرب الباردة وبقائها إلى اليوم المشتري الأول للسلاح الروسي في العالم، أضف إلى ذلك رفض واشنطن المستمر للاعتراف بالبرنامج النووي الهندي، بل وفرض عقوبات على الهند لإجرائها تجارب عسكرية جديدة في أواخر التسعينيات.
في عام 2007، وبعد صدور النسخة الكاملة من الاتفاقية، والتي قامت الهند بموجبها بالفصل بين منشآتها النووية المدنية والعسكرية، ليتسنى للأمريكيين التعاون معها في إطار التكنولوجيا المدنية فقط، أعلن نيكولاس برنز، المفاوض الأمريكي الرئيسي لتلك الاتفاقية، أن الولايات المتحدة تمتلك الحق في وقف الاتفاق إذا ما قامت الهند بإجراء أي تجربة عسكرية نووية، وأن الاتفاق يدشن تعاونًا في المجال المدني فقط، ولا يعترف بالهند كدولة سلاح النووي.
بيد أنه حتى بعد ظهور تلك التفاصيل، ظلت الخطوة الأمريكية بمثابة تحول في رؤية الأمريكيين للبرنامج النووي الهندي، لا سيما وقد اقتضت على سبيل المثال تعديل قانون الطاقة الذرية الأمريكي لعام 1954، ليصبح ممكنًا للولايات المتحدة أن تتعاون مع الهند في مجال الطاقة النووية رُغم عدم توقيع الأخيرة على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو تعديل تم تمريره في الكونجرس بـ359 صوت مقابل اعتراض 68 فقط، وفي مجلس الشيوخ بـ85 صوتًا مقابل 12 صوتًا معارضًا فقط، في إشارة واضحة إلى دعم واضح بين المشرّعين الأمريكيين للمضي قدمًا في التعاون مع الهند.
لم يكن سهلًا أبدًا إقناع كل هؤلاء بفتح أبواب التعاون النووي مع الهند ولو في المجال المدني فقط، لا سيما وقد كانت واشنطن في عهد بوش في ذروة رفضها للبرنامج الإيراني بكافة أشكالها، وبالتالي أكثر حرصًا على ألا تعرّض نفسها للاتهامات بالكيل بمكيالين تجاه بلدين يقعان تقريبًا في منطقة واحدة من العالم، ولكن جهود الإقناع تمت بنجاح ساحق، كما تدلل نتائج التصويت، وهو جهود قام بها بالأساس اللوبي الهندي ممثلًا في “لجنة الحركة السياسية الهندية الأمريكية”، جماعة الضغط الهندية الأبرز في واشنطن، والمعروفة اختصارًا بـ”يو إس إنباك” USINPAC.
يو إس إنباك
تشكّلت مجموعة يو إس إنباك إبان حادثة 11 سبتمبر في محاولة من الهنود لاستغلال مواقف إدارة بوش المتطرفة من مسألة القاعدة وطالبان في أفغانستان لإضعاف العلاقات بين واشنطن وباكستان لصالح شراكة مع الهند في مواجهة “الإرهاب”، وقد قامت المجموعة بدعم من قطاع واسع من الهنود الأمريكيين الذين يتجاوز تعدادهم المليونَين في الولايات المتحدة، والذين يقومون بالتبرّع بشكل مستمر لتوسيع وتعميق الأنشطة التي تقوم بها المجموعة في الكونجرس الأمريكي لتعزيز مصالح الهند، وكذلك مصالح الهنود داخل الولايات المتحدة، ويقومون باستمرار بتعزيز أدوار الأمريكيين الذين عملوا بالهند سابقًا أو لديهم مصالح اقتصادية في الهند.
على سبيل المثال، وأثناء صياغة الاتفاق النووي بين البلدين، لعب روبرت بلاكويل، السفير الأمريكي السابق في الهند، دورًا كبيرًا لإقناع أعضاء الكونجرس بالمضي قدمًا في التعاون مع دلهي، وهي جهود حصل في مقابلها بلاكويل على الأموال من “تحالف الصناعات الهندية”.
بعد نهاية ولاية بوش، ودخول أوباما إلى البيت الأبيض، كان ليو إس إنباك دورٌ أيضًا فيما يخص “ريتشارد هولبروك”، الدبلوماسي الأمريكي المعروف، ومستشار كلينتون لسنوات طويلة، وهو غير مرغوب به من قبل الكثيرين من الهنود نظرًا لمواقفه المنحازة لباكستان، وكان أوباما قد أعلنه “مبعوثًا خاصًا لأفغانستان وباكستان”، بدلًا من “أفغانستان وباكستان والهند”، وإذ ظن البعض بأن هذا لم يكن إلا تصحيحًا بسيطًا، فإنه كان في الواقع ثمرة لضغوط نفس المجموعة لإبعاد هولبروك عن الملف الهندي وعن كشمير أيضًا، خاصة وقد اضطر أوباما لتغيير خطته الأولية، والتي تضمنت اعتبار الهند وأفغانستان وباكستان نطاقًا واحدًا.
بعيدًا عن السياسة، يتمتع مجلس التجارة الأمريكي الهندي (US India Business Council — USIBC) بنفوذ كبير عبر الملايين التي ينفقها على من يقومون بالضغط لصالح الهند أمثال بلاكويل، لا سيما أولئك المهتمين بالتعاون العسكري بين البلدين، مثل شركة لوكهيد مارتن والتي أبدت استعدادًا لبيع الهند أكثر من 100 طائرة مقاتلة، والاستثمار بشكل عام.
على صعيد الاقتصاد المدني الصرف والاستثمار المتبادل، تقوم منذ عام 2003 مجموعة “ناسكوم” (NASSCOM) للتجارة بتمثيل شركات التكنولوجيا الهندية ومصالحها في الولايات المتحدة، وهي تنفق سنويًا أكثر من مليوني دولار لجهود الضغط في واشنطن، كما أنفقت بدورها مجموعة “رِلاينس” (Reliance) المعروفة، والمملوكة لرجال الأعمال الهندي الأكبر موكيش أمباني، مبالغًا مشابهة لتعزيز الضغط الخاص بها في الولايات المتحدة.
على هذا المنوال تسير شركات هندية كثيرة تقوم بتعيين “لوبيّين” (lobyyist) لتمثيل مصالحها، وهو اتجاه تهتم به بشكل خاص شركات الأدوية الهندية، والتي تنتج الآلاف من الأدوية المعروفة عالميًا وبأسعار أرخص وتقوم بتصديرها للكثير من الدول الفقيرة، ضاربة بعرض الحائط بعض قوانين التجارة الدولية، وهو ما لا يزال يثير حفيظة واشنطن إلى اليوم، وتحاول تلك الشركات أن تدفع فيه نحو إرخاء الموقف الأمريكي.
مودي وإعادة تفعيل اللوبي الهندي
بعد توقيع الاتفاق النووي بين الهند والولايات المتحدة، وبينما انتظر الكثيرون خطوات أخرى كبرى على طريق التعاون بين البلدين، بدا وكأن اللوبي الهندي قد هدأ تمامًا، وعادت العلاقات بين واشنطن ودلهي إلى البرود نوعًا ما، وهو برود يتوقع الكثيرون أن ينقشع في السنوات القادمة بعد أن أصبح نارندرا مودي رئيسًا للوزراء الصيف الماضي، وهو وحزبه اليميني أحد المهتمين بتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة لإحداث التوازن المطلوب مع باكستان من ناحية والصين من ناحية أخرى.
يتمتع مودي بشعبية جارفة لدى الهنود المقيمين بالخارج، لا سيما في الولايات المتحدة، والذين يرون فيه ممثلًا ممتازًا للدور الهندي الجديد في آسيا والعالم، خاصة بالنظر لاهتمامه بالتنمية الاقتصادية بشكل رئيسي، وبميله نحو السياسات الاقتصادية الرأسمالية مقارنة بالكونجرس الهندي الأكثر تحفظًا وميلًا ونحو الاشتراكية، والذي ينال قسطًا وفيرًا من سخط الهنود المقيمين بالخارج.
أثناء زيارة مودي للولايات المتحدة بعد دخوله رئاسة الوزراء بأشهر قليلًا، حرصت مجموعة يو إس إنباك على جذب أنظار الأمريكيين، والإعلام بشكل عام، لأهمية الزيارة، وهي الزيارة التي تلتها منذ أيام زيارة أوباما إلى دلهي، في إشارة إلى رغبة واضحة لدى الطرفين في العودة إلى تسريع وتيرة التعاون بين البلدين، وهي خطوات يقوم فيها يو إس إنباك طبقًا للكثير من المصادر داخل واشنطن، بجهود وفيرة، بل ويقول البعض أن كل ما جرى، بما في ذلك الاتفاق النووي، كان ليكون مستحيلًا لولا تلك المجموعة.
يقول ميتال غاندي، رئيس تحالف التجارة الأمريكي الهندي متحدثًا عن اللوبي الهندي في الولايات المتحدة، “نحن ننظر إلى ما فعله اليهود في الولايات المتحدة عن كثب، ونأمل أن يكون لنا صوت في البيت الأبيض وكابيتول هيل (مقر الكونجرس) كما يملكون اليوم.. بالطبع نحن لم نصل لما وصلوا إليه بعد، ولكننا على الطريق.”
هذا المقال هو الرابع من ضمن ملف “جماعات الضغط” على نون بوست