ترجمة وتحرير نون بوست
أكملت قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة مهمتها القتالية في أفغانستان في يوم 31 ديسمبر 2014 وذلك كما كان مخططاً لها، وحالياً أصبح الدور الجديد للولايات المتحدة في أفغانستان ينطوي على الدعم والتدريب في إطار الاتفاقية الأمنية الثنائية (BSA) واتفاقية مركز القوات (SOFA)، ولأهمية اتفاقية الأمن الثنائي، عمد الرئيس الأفغاني أشرف غني للتوقيع بسرعة على اتفاقيتي BSA و SOFA، وذلك في اليوم الثاني من ولايته.
كان العام الماضي بالنسبة لأفغانستان صعباً وحافلاً على حد سواء، حيث حققت البلاد في العام الماضي تطورات أساسية تمثلت بنجاح الخطة الأمنية والتحولات السياسية الناجحة، علماً أن أفغانستان تلقت عدة صدمات اقتصادية قبل عام 2014، سببتها –جزئياً- حالة التذبذب التي تحيط بالديناميكيات السياسية، والتي تسبّب بها –أيضاً بشكل جزئي- سحب القوات الدولية الذي أحدث آثاراً حقيقية تمثلت بتناقص الموارد المالية الأفغانية، ووفقاً للبنك الدولي فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي في أفغانستان، انخفض من حوالي 12% في عام 2012 إلى حوالي 3% في عام 2013، وبقي النمو حول هذا المستوى في عام 2014، أما الآن وفي ظل الحكومة الجديدة المؤيَّدة من البرلمان، يزداد التفاؤل بالتحسن الاقتصاد التدريجي الذي سيطرأ على الاقتصاد الأفغاني.
أثناء وجود القوات الدولية في أفغانستان، انخفضت مستويات البطالة في جميع أنحاء البلاد، بسبب انتساب عدد كبير من الأفغان إلى فرق عمليات الإغاثة الدولية، أما حالياً وبعيد انسحاب القوات الأجنبية وعمال الاغاثة من البلاد، فإن الأثر الاقتصادي الذي سينجم في زيادة نسبة البطالة، هو أثر محتوم ولا مفر منه.
إن تداعيات انسحاب الناتو من أفغانستان لا تتمثل فقط بالنواحي السلبية، كون هذا الانسحاب أدى إلى إعادة تسلّم الأفغان لعملية التنمية في البلاد، وهذه تعتبر خطوة أولى في الجهود المبذولة من أجل التخلّص من التبعية الاقتصادية والاعتماد على الذات، شريطة أن تستطيع حكومة الوحدة الوطنية الجديدة أن ترقى للتوقعات المرسومة لها.
على مدى السنوات الـ12 الماضية، كان الاقتصاد الأفغاني يعتمد بشكل كلي تقريباً على المساعدات الخارجية؛ فوفقاً لوزارة المالية، كانت المساعدات الخارجية تعمل على تمويل 100% من ميزانية الوزارة التنموية و 45% من ميزانية الوزارة التشغيلية، وكانت الولايات المتحدة هي الجهة المانحة الرئيسية لهذه المساعدات، وخلال هذه الفترة كانت الإيرادات الأفغانية الوطنية تكافح لتمويل حصة صغيرة من الميزانية الوطنية، وعلى الرغم أنه منذ عام 2002، وعقب تشكيل حكومة جديدة في البلاد بعد انهيار حركة طالبان، استطاع الاقتصاد الأفغاني النمو بشكل معقول، بازدياد الناتج المحلي الإجمالي من 3 مليارات دولار في عام 2002 إلى 20 مليار دولار في عام 2012، إلا أنه وفي غياب القاعدة الاقتصادية التي تستطيع الاستمرار في تغذية الاقتصاد، لم يكن مقدراً لهذا النمو الاقتصادي بأن يستمر، خاصة في ظل البيئة السياسية الغير مستقرة وتدهور الوضع الأمني الدائم الذي عانت منه البلاد، وهذه الأسباب أدت بالنتيجة إلى إحجام الحكومة عن بناء مؤسسات اقتصادية قابلة للبقاء وقادرة على تمهيد الطريق للنمو الاقتصادي المستدام من خلال استغلال الموارد الطبيعية الهائلة في البلاد.
عانت أفغانستان خلال الفترة الماضية من نقص ملحوظ في الاستثمارات المحلية والعالمية، وعلى الرغم من كفاح البلاد المضني لاجتذاب هذه الاستثمارات، إلا أن الكثير من العوامل أعاقت وصولها إلى البلاد، وتمثلت هذه العوائق بالأوضاع السياسية الغير مستقرة، والإفراط بفرض الإجراءات البيروقراطية، وعدم وجود هيكلية قانونية وتنظيمية ملائمة لحكم القطاع الاستثماري، والفساد المنظم الذي استشرى داخل الجهاز الحكومي، هذه المخاطر المرتبطة بالاستثمار أدت إلى إحجام المستثمرين الوطنيين والدوليين عن التورط في مباشرة مشاريع تجارية كبرى ضمن أفغانستان، وكان القطاع الوحيد الذي شهد نمواً كبيراً خلال هذه الفترة هو قطاع البناء وإعادة الإعمار، ونموه عائد أساساً لتوافر التمويل الأجنبي السخي الهادف لتطوير البنية التحتية، كون مجتمع الأعمال الذي يمارس نشاطه ضمن هذا القطاع حصل على عوائد سريعة ومربحة للغاية.
وفي الواقع، يمكننا ملاحظة ازدهار قطاع البناء وإعادة الإعمار، من خلال رصد آلاف التراخيص لشركات البناء التي أصدرتها وكالة دعم الاستثمار في أفغانستان (AISA)، حيث شجعت الوكالة المستثمرين عن طريق اتباع إجراءات تسجيل بسيطة ومرنة، ولكن في ظل غياب الإطار المؤسساتي، وفي ظل عدم وجود إطار تشريعي ملائم، لم تستطع الحكومة الاستفادة من عوائد الضرائب الناجمة عن هذه الصناعة؛ فعلى الرغم من أن قطاع البناء عادة ما يدر دخلاً ضريباً هاماً على الدولة، قادر على الإسهام الفعّال في الإيرادات الوطنية، إلا أن وضع صناعة البناء في أفغانستان كان مأساوياً، ويعج بالسياسات الهادفة للتهرب من دفع الضرائب، والتي دعمها الفساد الحكومي وضغوطات اللاعبين السياسيين المؤثرين والذين كانت لهم حصصاً مميزة ضمن هذا القطاع.
وعلى العكس تماماً من قطاع البناء، شهد قطاعي الخدمات والصناعات التحويلية نمواً ضئيلاً في أفغانستان، نظراً لعدم وجود البنية التحتية اللازمة، ونقص إمدادات الطاقة، وعدم وجود هيكلية مؤسساتية صالحة، وانخفاض الدعم الحكومي، هذه المخاطر بالإضافة إلى طول الدورة الرأسمالية لإدرار الربح في هذين القطاعين، أدت إلى إحجام المستثمرين عن إنفاق أموالهم ضمنهما، كما أن التنمية الزراعية لم تكن أسعد حظاً من قطاعي الخدمات والصناعات التحويلية، وذلك في ظل غياب أي نهج استراتيجي واضح ومتكامل يهدف إلى تطوير القطاع الزراعي، وبالنتيجة انتهت معظم المساعدات الخارجية في تمويل المشاريع الصغيرة، أو لبناء القدرات الدفاعية، أو لتمويل الاستشاريين الدوليين لإعداد تقارير ودرسات ضخمة وغير ضرورية.
على الرغم من أن أفغانستان تلقت مساعدات مالية ضخمة خلال العقد الماضي، إلا أن الجزء الأكبر من هذه الأموال انتهى في أيدي القطاع الخاص، على شكل رشاوى أو عمولات أو اختلاسات، وهذه الأموال تظهر الآن بشكل مباني شاهقة وأرصدة ضخمة في البنوك الأجنبية وشركات خاصة رابحة يملكها قلة من السكان، سواء داخل البلاد أو خارجها؛ فصحيح أن الأفغان العاديين استفادوا من مليارات الدولارات القادمة من المساعدات الدولية خلال العقد الماضي، إلا أن الواقع يشير إلى أن المساعدات الخارجية لم يتم استثمارها لتحقيق نمو اقتصادي مستدام في البلاد، وهذا ما يجعل من رحيل القوات الدولية ضربة كبيرة للأفغان العاديين، حيث سيظهر أثر هذا الغياب في ازدياد معدلات البطالة وفي ضعف النمو الاقتصادي.
قبل خروج قوات التحالف من أفغانستان، وعندما كان غني رئيس اللجنة الأمنية الانتقالية، كان الإطار العام لعملية الانتقال منذ البداية، يتوخى ثلاث ركائز أساسية تحكم العملية الانتقالية؛ فإلى جانب تعزيز الأمن، تم التركيز على ضرورة تعزيز التنمية، وإرساء أسس سيادة القانون، واتباع الحكم الرشيد، ومع ذلك، فإن الجوانب المدنية لعملية الانتقال لم تلقَ اهتماماً يذكر من قِبل الحكومة الأفغانية وقوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان (إيساف)، كون الجوانب الأمنية طغت على العملية الانتقالية برمتها، ومن الجدير بالذكر، أن الرئيس غني لم يكن راضياً على أداء الحكومة الأفغانية كونها لم تبدِ اهتماماً مناسباً بالإصلاحات التي يمكن تساعد على تحسين البيئة الأمنية في أفغانستان، مثل زيادة مصداقية الحكومة.
حالياً، وبعد أن دخل المجتمع الدولي عموماً ودول حلف شمال الأطلسي خصوصاً في شراكات جديدة مع أفغانستان؛ فقد حان الوقت لإعادة تنظيم العلاقات وجعلها أكثر مصداقية ومستندة على معايير واقعية وعلى مؤشرات قائمة على أساس تحقيق النتائج، إن الحقبة التي تلي انتهاء الناتو من مهامه القتالية وبداية التداول السلمي للسلطة في أفغانستان تمت تسميتها بحقبة التحول؛ لذا إذا أردنا لهذه الحقبة أن تشهد فعلاً التحول المنشود، لابد من بذل جهود حقيقية لتحقيق هذا الأمر، والكرة الآن في ملعب حكومة الوحدة الوطنية، التي يجب عليها أن ترقى لتحقق الآمال المعقودة عليها في سبيل تحقيق هذه الرؤية.
أخيراً، وعلى الرغم من كافة التحديات التي تواجه الدولة الأفغانية؛ فإن الواقع يشير إلى أن أفغانستان تمتلك موقعاً إستراتيجياً كبوابة لآسيا الوسطى، كما أنها جسر بري هام ما بين آسيا الوسطى والجنوبية؛ لذا فإنها توفّر فرصاً هائلة للمستثمرين الوطنيين والدوليين في قطاعات الموارد الطبيعية أو تطوير البنية التحتية أو حتى في قطاعات الصناعات التحويلية والخدمات والسياحة، كما تشير التحقيقات الأولية إلى إن أفغانستان لديها ثروة معدنية تصل قيمتها لحوالي 3 تريليون دولار، ولكن بدون تحقيق الأمن المستدام، وبدون بناء هيكلية مؤسساتية اقتصادية وسياسية متينة، ناهيك عن الدعم التقني الدولي، فإن هذه الثروة المعدنية لن يتم استغلالها وستبقى سبباً للتنافس وللمطامع الدولية، بدلاً من أن تكون مصدرا هاماً للنمو والازدهار الاقتصادي للبلاد.
المصدر: ذا ديبلومات