ليس جديدا أن تواجه السعودية أزمة مع محيطها العربي والإقليمي، فقد سبق أن واجهت أزمة مع نظام جمال عبد الناصر، ووجدت نفسها طرفا في حرب باليمن في ستينيات القرن الماضي، وواجهت أزمة أخرى في وقت لاحق مع نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين عندما اجتاح الكويت، ومرت علاقاتها بفترات مضطربة مع النظام السوري ومع نظام السادات، بالإضافة إلى الخصومة الشهيرة مع نظام القذافي، وغيرها.
وعبر عقود من التفاعل مع محيط عربي مضطرب، خاضت المملكة خصومات مع تيارات أيدلوجية مناقضة للنهج السعودي المحافظ، تعاملت مع مد قومي، ناصري وبعثي، وتفاعلت مع أنظمة يسارية وثورية وكانت على علاقة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين، استخدمت في ذلك كله أوراقا متعددة، وأجادت لعبها، وحافظت على توازن سياستها، فلم تنزلق في معادلة صفرية مطلقة، بل ناورت وسايرت وصالحت وخاصمت بقدر، واستطاعت أن تحافظ على نقطة توازن جنبتها المعارك الفاصلة، فبقيت لاعبا مهما في محيط مضطرب، وكرست مكانتها من دون تبني خصومات حاسمة وانحيازات قاطعة.
عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز شهد حيدة عن النهج السعودي المتوارث في السياسة الخارجية، ويكفي أن نلقي نظرة على الواقع العربي والإقليمي الحالي لنكتشف حجم التخبط الذي مرت به السياسة السعودية في السنوات الماضية: سقطت صنعاء بيد الحوثيين ولا يجد اليمنيون من يدفع عنهم شر المد الإيراني الحوثي إلا تنظيم القاعدة، وتجاهلت المملكة حرب الإبادة والإذلال الذي تعرض له السنة في العراق حتى لم يجد السنة من يدفع عنهم سوى تنظيم الدولة الإسلامية.
أما سوريا التي عبثت بثورتها حسابات ومخاوف سعودية قادها بندر بن سلطان، فلم تجد من يملأ فراغها سوى القاعدة وتنظيم الدولة، لبنان هي الأخرى صارت بفضل السياسات السعودية الخاطئة دولة حزب الله، مجلس التعاون الخليجي الذي كان الكتلة الأكثر تماسكا في العالم العربي أصيب بشرخ عميق، هُدِّدَت فيه قطر بالحصار، أما عُمان التي هَدَدت بالانسحاب من المجلس فقد اتجهت صوب تحالفات استراتيجية مع إيران.
سياسة المملكة في عهد الملك الراحل تجاه فلسطين كانت محفوفة بالأخطاء والانطباعات الشخصية والتصرفات المزاجية، فبعد اتفاق المصالحة الذي استضافته المملكة في مكة، هيمنت على الملك خصومة شخصية ضد حركة حماس، وبالطبع فإن مواقف المملكة الساكتة بل المتواطئة ضد حروب إسرائيل على غزة، والحصار المصري على القطاع، جعل من المملكة طرفا في الحرب على المقاومة.
لكن الحَيَدة الأشد تهورا في السياسة السعودية في عهد الملك الراحل كانت تلك المتعلقة بمصر، فقد أصيب الملك بهلع وهو يرقب المد الثوري الذي أطاح بنظام مبارك، وهُيئ إليه من قبل حاشيته، بزعامة خالد التويجري، أن الخطر الأشد على كرسي حكمه لن يكون إلا من قبل الإخوان المسلمين، فاندفع بالمملكة وراء مخطط إماراتي إسرائيلي أطاح بمرسي ونصب نظاما عسكريا شديد البطش قليل النباهة، لتنزلق مصر في دوامة من العنف والاضطراب.
كان شنيعا أن يندفع الملك مسرعا خلف انقلاب عسكري قبل أن تتضح معالمه، والأشد بشاعة أن يقف إلى جانبه في إبادة مئات المصريين وإراقة دمائهم أمام سمع العالم وبصره.
لقد عششت فكرة دعم نظام السيسي في عقل الملك إلى درجة أنها صارت الأولوية المركزية في السياسة الخارجية السعودية، من أجل السيسي خاصمت المملكة وحالفت، دون حساب لمصالحها الداخلية والخارجية ولا لمكانتها العالمية، فمن أجل السيسي خاصمت المملكة قطر وكادت أن تقضي على مجلس التعاون الخارجي.
ومن أجل السيسي خاصمت تركيا، ومن أجل السيسي أدرجت جماعة الإخوان المسلمين على قوائم الإرهاب، واندفعت عالميا تحرض الحكومات الغربية على من لديها من الناشطين الإسلاميين، ومن أجل السيسي أنفقت المليارات هباء منثورا.
لقد خسرت المملكة في تبنيها للانقلاب المصري خسائر فادحة، أسقطت من يدها أوراقا مهمة كان ينبغي استخدامها في التوازنات الاستراتيجية مع إيران، الخصم الرئيسي المفترض للسياسة السعودية، فما كان أحوجها في ذلك إلى تحالف مع تركيا المعادل الإقليمي الاستراتيجي لإيران، وما أحوجها لحركات الإسلام الوسطي في اليمن والعراق وسوريا، ليكون رديفا لسياساتها في مواجهة المد الإيراني المؤدلج، وما أحوجها لورقة فلسطين لتُقصي إيران المتسربلة برداء المدافع عن القدس، لكن الملك الراحل كان كمن يكسر سيفه بنفسه، ويواجه العدو حاسرا غافلا من دون سلاح.
وفي حومة الانشغال في الحرب العبثية على حركات الإسلام الوسطي جاء البديل أشد ضراوة وأكثر عداءً: تنظيم القاعدة جنوب المملكة، وتنظيم الدولة في شمالها، وما بين هذا وذاك مجتمع سعودي كان لا بد من سجن ومحاصرة صوته حتى يستكين لمنطق رسمي أرعن.
رحيل الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز يفتح فرصة جديدة أمام السياسة الخارجية للمملكة، ولعل الملك سلمان بن عبد العزيز، والأمير محمد بن نايف، أكثر من يدرك حجم الضرر الذي أوقعته سياسات العهد الفائت على مكانة المملكة ومصالحها الاستراتيجية.
مبادئ التفكير السياسي الرصين تقتضي تحديد الأولويات النابعة من مصالح الدولة الاستراتيجية، ثم بناء التحالفات وفقا لتلك الأولويات، وللأسف فإن السمات التي طبعت السياسة الخارجية في عهد الملك الراحل اتسمت بالشخصنة والنزق والحسابات الضيقة والانجرار وراء خصومات رعناء ضخمها نظام الإمارات وغرسها في عقل الملك وحاشيته، ما أفقد المملكة كثيرا من رصيدها الإقليمي والعالمي فضلا عن الرصيد المحلي للمجتمع السعودي الذي رأى حكومته تفقد اتزانها المعتاد، فتتبنى سياسات مندفعة تصادم المزاج الشعبي في قضايا بالغة الحساسية .
يقتضي الأمر أن يعيد العهد الجديد النظر في كثير من الملفات، فإذا كان المد الإيراني هو المهدِد الاستراتيجي الأول للمملكة، فمن الطبيعي أن تفتتح السعودية عهدا تحالفيا مع تركيا، وأن ترمم البيت الخليجي من خلال الاستماع إلى الآراء المختلفة، وأخذها بالاعتبار، بدلا من لغة التهديد والضغط التي طبعت العهد السابق.
أما فيما يتعلق بمصر، فينبغي أن تحرص على استقرار كل مصر، لا مصر السيسي فحسب، بل مصر المصريين على اختلاف أطيافهم، فليس من الحكمة أن تكون السعودية طرفا في خصومة بالغة مع الإخوان المسلمين، فقد أثبتت الفترة الماضية أن استقرار مصر متعذر من دون إدماج الإخوان في الحياة السياسية، ولعل شراكة سعودية تركية قطرية تفلح في رسم تصور مقبول لمصالحة وطنية حقيقية تحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر.
اليمن أصل الجزيرة وعمقها المتجذر، وليس من المقبول أن تستمر السياسة السعودية في ترددها وعجزها، فاستنقاذ اليمن من النفوذ الإيراني يقتضي انفتاحا سعوديا واسعا على القوى اليمنية الإسلامية والوطنية والقبلية دون اعتبار لمخاوف موهومة من هذا التيار أو ذاك، وحماية اليمن استنقاذ لمستقبل البحرين، التي ستكون التالية في مخطط التوسع الإيراني.
ورقة فلسطين بالغة الأهمية لمكانة المملكة في العالم العربي والإسلامي، وبالغة الأهمية لمكانة النظام السعودي في قلوب مواطنيه، وينبغي أن ترمم المملكة علاقتها مع حماس، وأن تجتذبها بعيدا عن إيران، وينبغي أن تضغط لتخفيف الحصار عن أهل غزة، فإنجازات مثل هذه كفيلة باستعادة مكانة المملكة في قلوب الكثيرين.
تولي الملك سلمان مقاليد الحكم فرصة مهمة لمصالحة شاملة مع الجميع، لا سيما أن الأطراف المختلفة بادرت لإظهار حسن النية، فقطع أردوغان جولته الأفريقية للمشاركة في الجنازة، أما الحركات الإسلامية فسارعت إلى إرسال إشارات إيجابية، ينبغي أن يتم التقاطها والتفاعل معها.
فقد أصدرت جماعة الإخوان نعيا قويا للملك عبد الله، ومثلها فعلت حماس وحركة النهضة التونسية والتجمع اليمني للإصلاح وغيرها من الجماعات الإسلامية، وإذا قُدِر لهذا الشرخ المصطنع أن يلتئم بين النظام السعودي وكل هذه الأطراف، فإن عهدا جديدا من التوازن والاستقرار سينبعث في المنطقة، وسيكون له أثر بالغ على النزاعات التي ترهق العالم العربي وتزج به في أتون حروب أهلية طاحنة.
لا يعني ذلك أبدا أن الحركات الإسلامية مبرأة من العيوب، بل لقد وقعت هي الأخرى في سقطات وإخفاقات كبيرة، لكن التجربة القاسية الفائتة علمت الجميع دروسا مهمة، ينبغي أن يتم التقاطها لتنفتح أمام المنطقة صفحة جديدة من التعايش، وإلا فإن البديل سيكون نموا مضطردا وسريعا للقاعدة ولتنظيم الدولة، ووقتها ستجد المنطقة نفسها أمام معادلة جديدة وحسابات مختلفة، لن تحسن التعامل معها.
المصدر: عربي21