أكثر من مائة يوم مرّت على انتخابات مجلس نوّاب الشّعب التّونسي لم تكف حزب نداء تونس والشّخصيّة التي كلّفها بتشكيل الحكومة، الحبيب الصيد، لتخطّي أوّل الامتحانات السياسية المُتمثّل في تشكيل حكومة تحظى بتزكية البرلمان وتشرع في تنفيذ الاصلاحات والبرامج التي وعد بها.
حكومة طال مخاض تشكيلها بعد أن كان مُقرّرا عرضها على البرلمان التّونسي الثّلاثاء الماضي ليتأجّل الموعد على خلفيّة اجماع أغلبية الطّيف السياسي على رفض تركيبتها، ما دفع الصّيد ومن ورائه نداء تونس الى اطلاق حملة مُشاورات ثانية ستُفضي حسب الأخبار الواردة من كواليس المشهد السياسي الى بدعة سياسية وهي تحوير وزاري على حكومة لم تتشكّل بعد.
حركة النّهضة، الحزب المُحافظ صاحب الكتلة البرلمانيّة الثّانية، كان من بين الرّافضين لتزكية هذه الحكومة بعد مُفاجأة ابعاده في آخر اللحظات ومن بين المُتفاجئين أيضا باعتبار أن الصّيد لم يُكلّف نفسه حتّى لمُ،اقشة تركيبته قبل تقديمها لرئيس الجمهوريّة.
سُلوك من الصّيد كان حريّا بأن يقطع حبل الودّ بينه وبين حركة النّهضة، إلا أن الأخيرة بفيض الدّبلوماسيّة التي يُؤطّر نهج تفكيرها السّياسي تفاعلت إيجابيّا مع جولة الحوار الثّاني ويبدوأنّها ستكون ضمن الحكومة القادمة بوزارة و3 كتاب دولة ومستشار رئاسي حسب أخبار غير رسميّة وحسب مصادر مُطّلعة خيّرت عدم ذكر اسمها، وهوعدد ضئيل لا يعكس حجم حركة النّهضة السياسي والشّعبي والبرلماني وهوما دفع النُخب السياسية في تونس الى التّساؤل حول أسباب تثبّث حركة النّهضة بالدخول لحكومة كان أول عناوينها عجز في التّشكّل.
انسجام لاحق مع موقف سابق
خاضت حركة النّهضة حملة انتخابيّة خالية من التّهجّم على أي طرف سياسي عنوانها “توافق وحكومة وطنية”، وبتتبع أغلب التّصريحات الإعلاميّة لقياداتها نستنتج بوضوح أننا إزاء رُؤية استراتيجيّة تعتبر التّوافق وحكومة الوفاق الوطني / حكومة الوحدة الوطنية الحلّ الأمثل لتجاوز الصّعوبات التي تمرّ بها البلاد، خاصّة وأن التسويق لها (الرّؤية) كان سابقا لنتائج الإنتخابات ولم يكُن تحت ضغط الأخيرة أوتأقلما مع إرهاصاتها.
أن تُصر حركة النّهضة على حكومة وحدة وطنيّة، وأن تنجح في ذلك في انتظار التّأكيد الرّسمي، فهوانسجام مع رُؤية تتبنّاها ويبقى حجم تمثيليّتها داخلها ثانويّا في حضور المبدأ، كما أنّه انتصار سياسي لما طرحته من رُؤية باعتبار أن حكومة “الإنقلاب على سياق الوحدة الوطنيّة” لم تنجح في أن تجد قبولا لا عند السياسيين ولا عند عامّة الشّعب.
حاجة التّطبيع مع الدّولة
مثّلت ثورات الرّبيع العربي فُرصة سانحة للتّيّارات الإسلاميّة المُعتدلة للتّطبيع مع دولة كان موقفهم منها الصّراع والمُقاومة باعتبار ما كانت تُمثّله من مجموع أدوات يحتفظ بها الحاكم الجائر في جرابه مُستعملا إيّاها لضربهم واستئصالهم.
مع اختلاف السّياقات السّياسية التي مضت فيه كلّ دولة من دول الرّبيع، أفرزت أغلبها مُعادلة سياسية وانقلابا تاريخيّا سمح وللمرّة الأولى بأن تعتلي هذه التّيارات سدّة الحكم في تجربة أولى لتحسّس ماهية الدّولة من الدّاخل ، وهوعالم جديد غريب.
بنفس السّرعة التي وصلت فيها هذه التّيارات الى قمّة السّلطة، كانت السّرعة التي أًخرجت منها رغم اختلاف أشكال الخلع والتحييد، وهوما يُعتبر اضاعة للفرصة التي سُنحت خاصّة وأن التّطبيع مع أجسام هائلة في حجم الدّول يحتاج مُراكمة وهوما يُفسّر، رُبّما، إصرار حركة النّهضة على التّموقع في الحكومة القادمة كمُحاولة لخلق نسق تراكمي في مجهود التّعوّد على الحكم والتّمكّن من آليّاته أي أنّ هذا الإصرار نابع من حاجة تُقدّر حركة النّهضة أنّه مُهمّ تلبيتها.
حماية للظّهر!
كلّما اجتمع أقصى اليسار مع النّظام القديم إلّا وكان المُحافظون من يدفع الثّمن، هذا ما يُخبرُنا به التّاريخ، فمحنة الإسلاميين في تسعينات القرن المُنقضي ما كانت لتكون بتلك الحدّة لوم لم ينفُث أقضى اليسار (اليسار الإيديولوجي) في نار الصّراع بين نظام الجنرال بن علي وبين حركة النّهضة، يكفي التّذكير بأن خطّة “تجفيف الينابيع” ومُحاربة مظاهر التّديّن في البلاد حدّ التّصحّر حرّرها يساريّون يُعانون من مشاكل في هضم السّمة المُحافظة للمجتمع التّونسي.
بالرّجوع للتّشكيلة الأولى التي قدّمها الحبيب الصّيد، نلحظ بسهولة أن تغييب حركة النّهضة وازاه تضمين سبعة أوثمانية شخصيّات يساريّة “مُتطرّفة فكريّا”، حسب تصريحات مُتنوّعة لقيادات حركة النّهضة، رغم الموقف المُعلن من طرف الجبهة الشّعبية (أحد مكوّنات أقصى اليسار) القاضي برفض تزكية الحبيب الصّيد، وهوما اعتبره مُلاحظون من باب الضّغط على الحبيب الصّيد من أجل الظّفر بتعهّدات غير مُعلنة تصُبّ في واد تحجيم وجود المُحافظين في المشهد السياسي خاصّة مع الحرص الملحوظ على ادانة قيادات من حركة النّهضة في ملفّات الإغتيال السّياسي وغيرها.
منع اختلاء أقصى اليسار مع الدّساترة، هوما يسعى إليه العقل السياسي النّهضوي وإن كان لا يًصرّح بذلك، والنّجاح في عزل الجبهة الشّعبيّة، التي اشترطت عزل حركة النّهضة كي ترضى بمبدأ المُشاركة في الحكومة القادمة، يبدوأنّه من حيث الأولويّات مُقدّم على مسألة التّمثيليّة، كما أن حقيقة أن تكون جزء من نظام الحكم قد يُساهم في حمايتك من جوره.
تقدير خاطئ للجبهة الشّعبية يعيد النّهضة الى السّباق
بالرّغم من تداعياته الدّاخليّة، يبدوأن أصحاب القرار داخل حركة النّهضة ماضون فيما رسموه مُنذ البداية، فاستقالة عبد الحميد الجلاصي ، المُنسّق العام السابق ومدير الحملة الإنتخابيّة لحركة النّهضة، قد تكون مُؤشّرا للوضع الدّاخلي الصّعب الذي تعيشه حركة النّهضة. ورغم الضّربة الموجعة التي تلقّتها حركة النّهضة بعد الإعلان عن الحكومة الأولى، يبدوأن أصحاب القرار النّهضوي يريدون استيفاء فُرصتهم كاملة لتحقيق ما وُضع من أهداف.
كان لهذا المسار السياسي الذي اتّبعته حركة النّهضة أن يعلن فشله في تحقيق أهدافه لوحضرت الفطنة السياسيّة عند الجبهة الشّعبيّة التي أهدى لها موقف مجلس شورى حركة النّهضة القاضي برفض تزكية الحكومة فرصة من ذهب لمقايضة الحبيب الصيد من أجل الظّفر بتعهّدات تخدم أجندتها، إلا أن رفضها تزكية الحكومة هي الأخرى رغم تعدّد الوجوه اليساريّة فيها أعاد الجميع الى السّباق ومن بينهم حركة النّهضة.