ترجمة وتحرير نون بوست
كتب آدم غولدمان وإلين ناكاشيما
عشية يوم 12 فبراير من عام 2008، خرج عماد مغنية – قائد العمليات الدولية لحزب الله – إلى شارع هادئ في دمشق بعد أن تناول العشاء في أحد المطاعم القريبة، وقريبًا منه كان فريق من وكالة المخابرات الأمريكية المركزية (CIA) يتعقب حركته في العاصمة السورية.
عند اقتراب مغنية من إحدى سيارات الدفع الرباعي المتوقفة، انفجرت قنبلة تم زرعها مسبقًا في الإطار الاحتياطي على الجزء الخلفي من السيارة؛ مما أدى إلى قذف موجة هائلة من الشظايا، مودية بذلك بحياة مغنية على الفور.
تم تفجير القنبلة عن بعد من قِبل عملاء الموساد والمخابرات الخارجية الإسرائيلية المتواجدين في تل أبيب، والذين كانوا يتواصلون مع عملاء المخابرات الأمريكية على الأرض في دمشق، “إن الطريقة التي تم إعداد العبوة الناسفة بها تسمح للولايات المتحدة بإلغاء العملية أو اعتراضها، ولكنها لا تسمح لها بتفجير العبوة”، وذلك حسب تعبير مسؤول سابق في الاستخبارات الأمريكية، وأضاف قائلاً “الولايات المتحدة ساعدت في بناء القنبلة، وقامت باختبارها مرارًا وتكرارًا في أحد منشآت الـ(CIA) في ولاية كارولينا الشمالية، لتجربة حدود منطقة الانفجار المحتملة، ولضمان أن التفجير لن يؤدي إلى أضرار جانبية كبيرة؛ لقد جربنا أكثر من 25 قنبلة حتى وصلنا إلى القنبلة المنشودة”.
إن التعاون الوثيق للغاية ما بين الولايات المتحدة والمخابرات الإسرائيلية، يوضح بحق أهمية الشخص الذي يتم استهدافه؛ فمغنية هو الرجل المسؤول عن التخطيط لأهم الهجمات الإرهابية لحزب الله، بما في ذلك الهجوم على السفارة الأمريكية في بيروت وعلى السفارة الإسرائيلية في الأرجنتين.
لم تعترف الولايات المتحدة مسبقًا بضلوعها في قتل مغنية، كما أن حزب الله وجّه أصابع الاتهام على إسرائيل فقط، بدون أي إشارة إلى التدخل الأمريكي، وحتى الآن، كان هناك القليل من التفاصيل عن هذه العملية المشتركة التي أودت بحياة مغنية، حيث لم يتم الكشف مسبقًا عن الطريقة التي تم التخطيط بها لتفجير السيارة أو عن دور الولايات المتحدة ضمن هذه العملية، وباستثناء عملية استهداف أسامة بن لادن في عام 2011، تعتبر هذه العملية إحدى أكثر العمليات سرية وخطورة التي تم تنفيذها من قِبل الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة.
ولكن على الرغم من السرية التامة التي أحاطت مشاركة الولايات المتحدة في عملية القتل، إلا أن تورط أمريكا بهذه العملية تم تأكيده من قبل خمسة مسؤولين سابقين في المخابرات الأمريكية؛ وهذا بدوره سيؤدي إلى توريط الولايات المتحدة في مشاكل قانونية، كون مغنية تم استهدافه في سوريا، وهي دولة لم تكن الولايات المتحدة في حالة حرب معها، وعلاوة على ذلك، فإن طريقة الاستهداف عن طريق تفجير سيارة مفخخة، تعتبر من قِبل بعض فقهاء القانون انتهاكًا للقوانين الدولية التي تحظّر “القتل عن طريق الخداع والغدر” أي استخدام وسائل غادرة لقتل أو جرح العدو، وتوضح ماري إيلين أوكونيل أستاذة القانون الدولي في جامعة نوتردام “هذه الطريقة في القتل يستخدمها الإرهابيون والعصابات المسلحة، إنها تنتهك أحد أقدم القواعد في حالات الحرب”.
من جهتهم أكد المسؤولون الأمريكيون السابقون – والذين أفحصوا عن معلوماتهم حول العملية شريطة عدم الكشف عن هويتهم -، أن مغنية كان مسؤولاً بشكل مباشر عن تسليح وتدريب الميليشيات الشيعية في العراق والتي كانت تستهدف القوات الأمريكية، وذلك على الرغم من وجوده في سوريا؛ لذا فإن إدارة بوش لم تناقش كثيرًا في اعتماد أسلوب السيارت المفخخة دونًا عن غيره لقتل مغنية، خاصة في ظل أن عمليات حزب الله في العراق كان يتم تنفيذها بالغالب من خلال التفجيرات الانتحارية والهجمات بالعبوات الناسفة.
يشير مسؤول سابق في المخابرات الأمريكية، أن القرار الذي اتخذته أمريكا للمشاركة في قتل مغنية، تطلّب تقصي رئاسي من قِبل الرئيس جورج دبليو بوش، وشمل هذا التقصي أخذ موافقة النائب العام ومدير الاستخبارات الوطنية ومستشار الأمن القومي ومكتب الاستشارات القانونية في وزارة العدل، حيث وقّع جميع هؤلاء بالموافقة على العملية، وأضاف المسؤول “إن الحصول على الموافقة لقتل مغنية كان عملية شاقة ومملة، كان علينا إظهار أنه يشكّل تهديدًا مستمرًا للأمريكيين”، مشيرًا بذلك أن مغنية كان له تاريخ طويل في استهداف الأمريكيين منذ تخطيطه لتفجير السفارة الأميركية في بيروت عام 1983، وأضاف “القرار كان يوجب علينا أن نحصل على تأكيد مطلق أن العملية هي عبارة عن دفاع عن النفس”.
إن الشكوك حول تورط الولايات المتحدة في قتل مغنية تستعر منذ فترة طويلة؛ فكتاب “الجاسوس الجيد” لمؤلفه كاي بيرد، يتناول قصة حياة الضابط روبرت أميس الذي خدم في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) لفترة طويلة، ويستشهد الكتاب بقول مسؤول مخابراتي سابق وهو يقول “العملية تسيطر عليها في المقام الأول لانغلي (مركز الـCIA)، وكان فريق وكالة المخابرات المركزية المسمى بلاك أوبس هو المسؤول الأساسي عن عملية الاغتيال”، وفي كتاب جديد بعنوان “القتل الكامل: 21 قانون للقتلة”، يشير ضابط الاستخبارات السابق روبرت بي باير إلى أنه كشف عن عملية اغتيال مغنية، ولكنه لم يحظ بالفرصة لنشر تفاصيل العملية، كون مكتب رقابة وكالة المخابرات الأمريكية (مجلس مراجعة المنشورات) راجع كتابه ومنعه من كتابة القصة الحقيقية حول مؤامرة القتل.
من جهتها رفضت وكالة المخابرات المركزية التعليق على هذا الأمر، كما قال المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي مارك ريجيف “ليس لدينا أي شيء لنضيفه حاليًا”.
نظرية الدفاع عن النفس
أبرزت العملية في دمشق تطور فلسفي داخل أجهزة الاستخبارات الأمريكية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001؛ فقبل هذا التاريخ، كانت حكومة الولايات المتحدة في كثير من الأحيان تنظر بتوجس إلى عمليات الاغتيال الإسرائيلية، ومن أبرز هذه الأحداث هي الإدانة الأمريكية لمحاولة إسرائيل الفاشلة في عام 1997 لتسميم زعيم حماس خالد مشعل في عمّان الأردن، حيث انتهت هذه العملية باعتقال عملاء الموساد المسؤولين عن العملية، وقامت بعدها إدارة كلينتون بإجبار إسرائيل على تقديم الترياق الذي أنقذ حياة مشعل.
إن عملية اغتيال عماد مغنية، تمت بعد أكثر من عقد من زمن التوجس الأمريكي، حين تلاشى التردد الأميركي في تنفيذ عمليات الاغتيال، حيث امتدت عمليات القتل الممنهجة لوكالة المخابرات المركزية إلى ما وراء مناطق الحرب المحددة مثل مناطق باكستان واليمن والصومال التي كانت خارج مناطق الحرب مع الولايات المتحدة، وعمدت وكالة المخابرات المركزية أو الجيش الأمريكي إلى إرسال طائرات بدون طيار لاستهداف تنظيم القاعدة وحلفائها في تلك المناطق.
ويشير مسؤول أمريكي سابق أن إدارة بوش اعتمدت على النظرية الوطنية للدفاع عن النفس لقتل مغنية، حيث ادعت أن الأخير كان هدفًا مشروعًا لأنه كان يخطط لعمليات إرهابية ضد الولايات المتحدة أو قواتها في العراق، مما يجعل منه تهديدًا وشيكاً ومستمرًا لا يمكن إلقاء القبض عليه، وهذا المنطق القانوني سمح لوكالة الاستخبارات المركزية أن تتجنب انتهاك الحظر المفروض على الاغتيالات في الأمر التنفيذي 12333 لعام 1981.
علمًا أن الولايات المتحدة اتبعت ذات المنطق القانوني في قضية اغتيال أنور العوالقي عام 2011، والعوالقي هو مواطن أمريكي وأحد رجالات فرع تنظيم القاعدة في اليمن وكان مكلفًا بمهمة دعوية في الولايات المتحدة، حيث تمسكت وزارة العدل أمام المحكمة بنظرية الدفاع عن النفس، وأوضحت أن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية استهدف الطائرات التجارية للولايات المتحدة، وأيمن العولقي كان له دور تنفيذي في هذه المجموعة، كما أشار محامو الحكومة بأن العوالقي كان تهديدًا وشيكًا مستمرًا ولا يمكن عمليًا إلقاء القبض عليه.
ويقول ستيفن فالداك أستاذ القانون في كلية الحقوق في جامعة واشنطن الأمريكية “من الواضح تمامًا أن الحكومة لديها بعض الصلاحيات لاستخدام القوة المميتة للدفاع عن النفس حتى خارج نطاق دوائر النزاع المسلح، ولكن السؤال الأهم هل يوجد وقائع قادرة على تحديد متى يكون استعمال هذه القوة ضروريًا ومناسبًا في كل حالة؟”.
وفقًا لمسؤولين سابقين في المخابرات الأمريكية، عملت وكالة المخابرات المركزية والموساد معًا على مراقبة تحركات مغنية في دمشق لعدة أشهر قبل عملية الاغتيال، كما أن الوكالة والموساد تعاونا في تحديد المكان الذي يجب أن تُزرع فيه القنبلة، حيث أكد المسؤولون في المخابرات الأمريكية للمشرعين في مؤتمر سري أن العملية لن ينجم عنها أية أضرار جانبية.
العمليات التي اتهم بتنفيذها عماد مغنية
قبل تنفيذ عملية اغتيال مغنية، تم اتهامه بالتورط في قتل مئات الأمريكيين، من خلال تفجير السفارة الأمريكية في بيروت، والذي راح ضحيته 63 شخصًا، بينهم ثمانية من ضباط وكالة المخابرات المركزية، بالإضافة إلى أن حزب الله المدعوم إيرانيًا، شارك في حرب طويلة الأمد مع إسرائيل ومن خلفها داعمها الرئيسي الولايات المتحدة الأمريكية.
إن تفجير السفارة الأمريكية في بيروت وضع حزب الله بشكل مباشر تحت مراقبة وكالة المخابرات المركزية، وفي بعض الأحيان أنذرت هذه المراقبة بنيّة الاستخبارات الأمريكية لاستهداف مغنية؛ فمثلاً جاء في كتاب “الحجاب” الذي ألّفه بوب وودوارد عام 1987، أن مدير وكالة المخابرات المركزية وليام كيسي شجّع السعودية على قتل زعيم حزب الله، كما أن محاولة الاغتيال الفاشلة لمحمد حسين فضل الله في عام 1985، أظهرت نيّة أمريكا لاستهداف مغنية، كونها على الرغم من عدم نجاحها في استهداف فضل الله الذي هرب إلى إيران، إلا أنها أودت بحياة 80 شخصًا، وكان من بينهم شقيق مغنية.
وأشار مسؤولون سابقون في وكالة الاستخبارات المركزية أن مغنية متورط أيضًا في خطف وتعذيب مدير مكتب وكالة الاستخبارات المركزية في لبنان وليام باكلي عام 1984، وأضافوا أن مغنية كان مسؤولاً عن أشرطة الفيديو التي تم تصويرها في جلسات الاستجواب الوحشية لباكلي، وعمد بعدها للتخطيط ليتم إرسالها إلى الوكالة، علمًا أنه بالمحصلة تم قتل باكلي في وقت لاحق.
كما تم اتهام مغنية من قِبل المحكمة الاتحادية الأمريكية بخطف طائرة شركة (TWA) الرحلة 847 عام 1985 بعد وقت قصير من إقلاعها من أثينا، وأيضًا تم اتهامه بقتل غطاس البحرية الأمريكية روبرت ستيثم، والذي كان أحد ركاب الطائرة، ومن بعدها تم وضع مغنية على قائمة أخطر المطلوبين الإرهابيين في مكتب التحقيقات الفدرالي، وتم تخصيص مكافأة بمبلغ 5 ملايين دولار لأي شخص يدلي بمعلومات تفضي إلى اعتقاله وإدانته، وأيضًا كان مغنية أحد المشتبه بهم في التخطيط لتفجير أبراج الخبر في عام 1996 في المملكة العربية السعودية، حيث أسفرت هذه العملية عن مقتل 19 جنديًا أمريكيًا.
أما بالنسبة لإسرائيل؛ فمن بين العديد من الهجمات التي تم استهدافها بها، كان مغنية متورطًا في التفجير الانتحاري للسفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس عام 1992، والذي أسفر عن مقتل أربعة مدنيين إسرائيليين و25 أرجنتينيًا، كما تم اتهامه بالهجوم على مركز الجالية اليهودية الاجتماعي في بوينس آيرس عام 1994، والذي أسفر عن مقتل 85 شخصًا.
نتيجة لهذه الاتهامات تم اعتبار عماد مغنية ومن خلفه حزب الله أحد أهم المطلوبين للإدارة الأمريكية، حيث يقول جيمس بيرنازاني الذي كان يشغل منصب رئيس وحدة حزب الله في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي في أواخر التسعينيات “مغنية وجماعته تسببوا بمقتل العديد من الأمريكيين”، كما أن إدارة بوش اعتبرت حزب الله – ومغنية على وجه الخصوص – تهديدًا للولايات المتحدة، وفي عام 2008 وبعيد اغتيال مغنية، قال مايكل تشيرتوف الذي كان وزير الأمن الداخلي “حزب الله يشكل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، وبالواقع، حزب الله جعل تنظيم القاعدة يبدو وكأنه تنظيم من الدرجة التافهة”.
إبان الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، بدأ حزب الله بمساعدة من إيران، على تدريب وتسليح الجماعات الشيعية في العراق، والتي شرعت في وقت لاحق على مهاجمة قوات التحالف، وأثبتت هذه الميليشيات المدربة من قِبل حزب الله أنها عدو قاتل بالنسبة للأمريكيين، حيث أدت هجمات هذه القوات إلى قتل وإصابة مئات الجنود الأميركيين، وعند تدهور الوضع في العراق وارتفاع خسائر قوات التحالف في عام 2006، قررت الولايات المتحدة وقف الخسائر الحاصلة في قواتها على الأراضي العراقية، وفعلاً أصدرت إدارة بوش أوامرها بقتل أو اعتقال العناصر الإيرانية التي تستهدف القوات الأمريكية وتعمل على زعزعة استقرار العراق، كما أشار مسؤولون أن الإدارة الأمريكية حينها وافقت أيضًا على قائمة عمليات تستهدف حزب الله، وتشمل بالطبع رئيس عمليات الحزب الدولية عماد مغنية، حيث يشير مسؤول أمريكي خدم في حرب بغداد “كان لدى قواتنا رخصة مفتوحة للبحث وللتقصي ولقتل مغنية وأي شخص يرتبط به”.
وفي يناير 2007 أشار جورج دبليو بوش في خطاب وجهه إلى الأمة، أن إيران وسوريا هما الدولتان اللتان تتمتعان بعلاقات وثيقة مع حزب الله حيث قال “هذان النظامان يسمحان للإرهابيين والمتمردين باستخدام أراضيهما للدخول والخروج من العراق، إيران تقدم الدعم المادي للهجمات على القوات الأمريكية، سوف نوقف هذه الهجمات على قواتنا، وسنعترض تدفق الدعم من إيران وسوريا، وسنسعى لتحديد وتدمير الشبكات التي تقدم الأسلحة المتطورة والتدريب لأعدائنا في العراق”.
بعد فترة قصيرة من خطاب بوش التهديدي، أصبح تورط حزب الله في العراق أكثر وضوحًا؛ ففي 20 يناير من عام 2007، تم قتل خمسة جنود أمريكيين في كربلاء، وفي مارس من العام نفسه، قامت القوات البريطانية في العراق بإلقاء القبض على علي موسى دقدوق، وهو ناشط بارز في حزب الله وله علاقات وثيقة مع مغنية، وتم تسليمه مع معتقلين آخرين كانا معه إلى القوات الأمريكية، وحينها قال بيتر منصور وهو عقيد متقاعد في الجيش الأمريكي شغل منصب المسؤول التنفيذي للجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية في العراق “أثناء وجوده في المعتقل، اعترف دقدوق بلعب دور رئيسي في قتل الجنود الأمريكان، وقدم للولايات المتحدة فهمًا أعمق لشبكات حزب الله القتالية، حيث اكتشفنا الطبيعة الكاملة لتورط إيران وحزب الله في العراق”.
يشير مسؤولون أمريكيون إلى إن مغنية لعب دورًا محوريًا في الربط بين حزب الله والميليشيات الشيعية التي كانت تعمل لحساب إيران، ولكن يبقى من غير الواضح ما إذا كان قد دخل العراق خلال فترة الحرب أم لا، حيث يقول مسؤول عسكري أمريكي سابق إن هناك معلومات تشير إلى أنه سافر إلى البصرة في جنوب العراق في عام 2006، ولكن لم يتم تأكيد هذه المعلومات، وعلّق ريان كروكر سفير الولايات المتحدة في العراق على قتل مغنية بقوله “كل ما يمكنني قوله أنه طالما كان هذا الشخص على قيد الحياة، فإنه كان يشكل تهديداً سواء في لبنان أو في العراق أو في أي مكان آخر؛ لقد كان شخصًا دؤوبًا وذكيًا ومخططًا ناجحًا ولكنه سخّر جهوده على الجانب الخطأ”.
توسع مناقشات الإرهاب
لطالما وضعت أمريكا أكثر من طريقة وخطة لاعتقال أو قتل مغنية على مدى سنوات طويلة، ولكن هذه السيناريوهات اكتسبت طابعًا ملحًا في السنوات التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر، حيث لجأت إدارة بوش حينها إلى وكالة الاستخبارات المركزية وقيادة الجيش الأمريكي لوضع خطط لوقف تصعيد النشاط الإرهابي، بما في ذلك النشاطات التي ليس لها علاقة بتنظيم القاعدة أو أحداث سبتمبر.
ووصف مسؤول أمريكي سابق لقاء سري جرى في إسرائيل عام 2002 ضم كبار ضباط قيادة العمليات الخاصة المشتركة في الجيش الأمريكي ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، حيث دار الحديث حول توسيع قضايا مكافحة الارهاب، وحينها عمد ضباط قيادة العمليات الخاصة المشتركة إلى طرح إمكانية قتل مغنية بطريقة مباشرة وبدون تمهيد، حتى أن مضيفيهم الإسرائيليين تفاجأوا من هذا الطرح.
وأضاف المسؤول السابق أن قيادة العمليات الخاصة المشتركة لم تكن تفكر بأي خطة محددة عندما طرحت الفكرة، ولكن الطرح كشف عن سيناريو محتمل لضرب الأهداف الإرهابية، بهدف قياس مدى استعداد إسرائيل لتكون بمثابة نقطة إخلاء لفرق الكوماندوس الأمريكية بعد إجراء العملية، حيث كان النهج الذي تتصوره قيادة العمليات الخاصة المشتركة يتضمن عملية مداهمة لقوات الكوماندوس تعمل فيها على تصفية الأهداف بشكل مباشر، ولم يكن ليخطر ببالها أن تتم العملية بالطريقة التي وقعت في السنوات اللاحقة، وأشار المسؤول حينها أن الاجتماع لم يفضِ إلى أي نتيجة.
ولكن على الرغم من أن الاجتماع السري سابق الذكر لم يأتِ أكله حينها، إلا أنه يشير بوضوح أن مغنية كان لايزال هدفًا أساسيًا لمسؤولي مكافحة الإرهاب الأمريكيين، حتى بعد طغيان تنظيم القاعدة على جل اهتمامهم، حيث يشير بيرنازاني “نحن لم نغلق أعيننا قط عن حزب الله، ولكن كامل تركيزنا في تلك الفترة كان على تنظيم القاعدة”.
الفرصة السانحة
ليس واضحًا متى علمت وكالة المخابرات المركزية أن مغنية كان يعيش في دمشق، ولكن المعلومات تشير إلى أنها كانت تعرف مكان وجوده قبل سنة على الأقل من عملية الاغتيال، وقال مسؤول سابق في المخابرات الأمريكية إن الإسرائيليين هم الذين بادروا أولاً إلى طرح إجراء عملية مشتركة مع وكالة المخابرات المركزية لقتل مغنية في دمشق.
كانت المخابرات الإسرائيلية تهدف من خلف طرحها لخطة التعاون، أن تستفيد من البنية التحتية السرية الراسخة لوكالة المخابرات المركزية في دمشق، ويقول مسؤول أمريكي سابق في المخابرات الأمريكية “إن هدف الإسرائيليين كان الانتقام”، وأشار أن أمريكا لم تبحث في دافع اسرائيل إذ كانت مهتمة فقط بقتل مغنية، ولم تكن الإدارة الأمريكية متخوفة من ردات الفعل السلبية التي قد تنجم عن العملية، لأن حزب الله سيلقي اللوم – على الأرجح – على الإسرائيليين.
قال عاموس يادلين الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية حتى عام 2010 “مغنية كان الرجل الثاني في حزب الله بعد الأمين العام للحزب حسن نصر الله، مغنية هو قائد ومخطط جميع العمليات العسكرية والإرهابية للحزب، لقد كان ذراعًا للإيرانيين في المنطقة”.
جاءت عملية استهداف مغنية بالتزامن مع الشراكة الوثيقة ما بين وكالة المخابرات المركزية والموساد لإحباط الطموحات النووية لسوريا وإيران، حيث ساعدت وكالة المخابرات المركزية الموساد على التحقق من أن السوريين كانوا يبنون مفاعلاً نوويًا في دير الزور، وهذه التحقيقات أسفرت عن غارة جوية إسرائيلية على المنشأة في عام 2007، كما أن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا تعملان بشكل متلازم لتقويض البرنامج النووي الإيراني.
بمجرد تحديد مكان سكن مغنية في دمشق، شرعت وكالات الاستخبارات على بناء ملف شخصي يتضمن نمط حياته، حيث تم البحث في روتينه اليومي وموطن الضعف في تحركاته، حيث أشار مسؤولون من الموساد أن الفترات المسائية العرضية التي يعمد فيها مغنية للخروج بدون مرافقين تشكّل فرصة سانحة وممتازة لتنفيذ الهجوم، وبدورهم عمد ضباط وكالة المخابرات المركزية من خلال خبرتهم الاستخبارتية الواسعة إلى تأمين ملجأ آمن في مبنى قرب شقة مغنية في دمشق.
اغتيال مغنية
تم قتل مغنية عن طريق قنبلة موضوعة داخل الدولاب الاحتياطي لسيارة دفع رباعي في 12 فبراير 2008، وذلك في منطقة كفرسوسة في العاصمة السورية دمشق، الانفجار الذي نجم عن القنبلة أدى إلى قتله على الفور.
التخطيط لعملية الاغتيال كان يشمل جميع التفاصيل الدقيقة، حيث تم رفض الاقتراح الإسرائيلي لوضع قنبلة في جيب دراجة هوائية أو نارية بسبب المخاوف من وقوع أضرار جانبية كبيرة؛ لذا تم اختبار القنبلة مرارًا وتكرارًا في منطقة هارفي، وهي نقطة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية في ولاية كارولينا الشمالية، حيث تم إعادة تشكيل القنبلة للحد من منطقة الانفجار، حتى تم الوصول إلى قنبلة يمكن استخدامها بدون خطر وقوع أي أذية سوى للشخص المستهدف، خاصة وأن الموقع الذي قتل فيه مغنية كان قريبًا من مدرسة للبنات.
لم يكن مغنية الشخصية الوحيدة التي تعمل بثقة وحرية في دمشق؛ فخلال العملية، كان يمكن لوكالة المخابرات المركزية والموساد قتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، كون سليماني ومغنية سارا معًا حين تنفيذ العملية، وسليماني هو العدو اللدود لإسرائيل ومسؤول أيضًا عن تدريب الميليشيات الشيعية في العراق، ويقول مسؤول سابق “في لحظة معينة، كان مغنية وسليماني يقفان معًا في نفس المكان وفي ذات الشارع، قتلهما كان يتطلب فقط الضغط على الزر”، ولكن هذه العملية لم تتم كون الحكومة الأمريكية لم يكن لديها السلطة القانونية لقتل سليماني، لأن نتائج التقصي الرئاسي لم تشمل القيام بهذه العملية.
عندما انفجرت القنبلة المستخدمة لاستهداف مغنية، قدّر المسؤولون أن المدى القاتل للقنبلة امتد لمسافة أطول مما كان مخططًا له بـ 20 قدم، “القنبلة كانت حادة جدًا ومشبعة بالمتفجرات بشكل كبير”، حسبما أشار مسؤول سابق في المخابرات وأضاف “على الرغم من ذلك لم يكن هناك أية أضرار جانبية أبدًا”، وقال مسؤول سابق آخر “لقد تم استخدام تقنية التعرف على الوجه لتأكيد هوية مغنية بعد خروجه من المطعم وقبل لحظات من تفجير القنبلة”.
عقب الهجوم، اتهم زعيم حزب الله حسن نصر الله إسرائيل بعملية الاغتيال، وأقسم حينها بالانتقام بقوله” أيها الإسرائيليين إذا كنتم تريدون حربًا مفتوحة، فلتكن حربًا مفتوحة في كل مكان”، وفي الواقع، فإن الأضرار التي لحقت بحزب الله جراّء عملية الاغتيال تفاقمت بسبب شبهة اشتراك الجاسوس محمد شوربة بعملية الاغتيال، وهو مسؤول عن وحدة العمليات الخارجية للحزب، والذي كشف الحزب تورطه بالاستخبار لصالح الموساد في العام الماضي، حيث تم إخضاعه مؤخرًا لمحاكمة في محكمة حزب الله في لبنان، ولكن حسن نصر الله قلل من أهمية هذ الجاسوس في عملية الاغتيال.
من جهتها عمدت إسرائيل لإصدار بيان في عام 2008 بعد وفاة مغنية، على لسان مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت حيث جاء فيه “إسرائيل ترفض أي محاولة من الجماعات الإرهابية لإلصاق أي مشاركة لها بالحادث، ليس لدينا ما نضيفه بعد ذلك”.
أما المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية شون ماكورماك علّق على الاغتيال بقوله “العالم بات أفضل بدونه، هذا الرجل هو قاتل بدم بارد، إنه قاتل جماعي وإرهابي مسؤول عن حصد أرواح لا تعد ولا تحصى من الأبرياء”.
داخل مجتمع الاستخبارات الأمريكي، كان التعليق مختلفًا، حيث قال مسؤول سابق حينها “لم أكن سعيدًا، فعلنا ما كان يتوجب علينا عمله، دعنا نتجاوز هذا الأمر”.
المصدر: واشنطن بوست