ترجمة وتحرير نون بوست
قبل المولد النبوي بيوم واحد، تدلّت الرايات الخضراء والبيضاء في أحد الشوارع المليئة بالأطفال والماعز، والمتفرّعة عن أكبر سوق للقماش في قلب مدينة كانو بشمال نيجيريا، لتأخذني إلى مدرسة “مكرنتر مال تدّا” الإسلامية، والتي غطتها سقيفة بالأصفر والأخضر لتحاكي كافة المؤسسات العامة المدنية للبلاد.
ينتظم في الدراسة حوالي 400 طالب، في حين تُعَد المدرسة بيتًا لثلاثين منهم ممن يُعرفَون بـ “المَاجِراي” (أي المهاجر)، وهو الاسم المُشار به للطلاب البدو الذين يرسلهم أهلهم للعيش مع معلميهم وتعلّم قراءة القرآن وإتمام حفظه، بيد أنها الآن قد بدأت تضيف إلى مناهجها لتواكب متطلبات الاقتصاد النيجيري، أكبر اقتصاد في أفريقيا حاليًا.
حين دخلت إلى المدرسة مررت على مقر الماجِراي، وهي مجموعة من الغُرَف الصغيرة المليئة بالوسادات والأغطية، ثم رأيت طالبًا جالسًا على كرسي صغير يقوم بإصلاح حذاء على ضوء الشمس الخافت القادم من نافذة صغيرة، وقد نُقِشَت على الحائط الواقع خلفه كلمات بالهوسا قال أحدهم إنها تقول “مدرسة أسامة بن لادن”” هذا ولم يُبد أحد في المكان اهتمامًا بالكلمات وكأنها غير موجودة.
صعدت إلى الطابق الثاني لأدخل فصلًا منظمًا بشدة لايزال الدرس الصباحي الذي ألقي فيه مكتوبًا على السبورة، ثم أخذ وكيل شيخ أبو بكر، ناظر المدرسة البالغ 65 عامًا، يشرح لي كيف بدأ الماجراي يتعلمون الإنجليزية والعربية إلى جانب القرآن، بعد أن كانوا في السابق منصبين على القرآن فقط، “يتجاوز عمر هذه المدرسة المائة عام، وهي الآن تواكب العصر”، على السبورة كُتبَت كلمة عربية وترجمتها بلغتين، الإنجليزية والعجمية (الهوسا بحروف عربية)، وهو نوع من التعليم يُعرَف هنا بـ “بوكو”، أي التعليم المدني أو الغربي.
الماجري
تشتهر كلمة بوكو هذه الأيام نظرًا لارتباطها بحركة بوكو حرام، وهو الاسم الذي يعني حرفيًا حرمة التعليم المدني أو الغربي، وقد زاد الاهتمام بالحركة مؤخرًا نظرًا لتصعيد عملياتها في مواجهة الدولة النيجيرية، لاسيما منذ خطف 300 طالبة من قرية تشيبوك في مارس الماضي، ولكن بوكو حرام في الحقيقة لها معانٍ متعددة، فهي ليست فقط تعني أن التعليم الغربي محرّم، ولكنها أحيانًا ما تستخدم حتى للإشارة إلى من يتعلمون لغة الهوسا باستخدام الحروف الإنجليزية.
يُنظَر كثيرًا للتعليم الإسلامي التقليدي في عموم نيجيريا بشكل سلبي، حيث ترى الحكومة الماجراي البالغ عددهم تسعة ملايين باعتبارهم أميين، وكان الرئيس جودلاك جوناثان، المسيحي الإنجيلي القادم من الجنوب، قد اتهم المدارس بأنها قواعد تفريخ لحركة بوكو حرام، ولكن مدارس تعليم الماجري (أو المهاجرين) لا علاقة لها بالإرهاب من قريب أو بعيد، كما يقول لي أكاديمي نيجيري درس كافة تلك المدارس في الشمال بناءً على طلب من الحكومة الأمريكية.
يُعَد حفظ القرآن مسألة أساسية في ثقافة التعليم الشمالية، ولكن على عكس الاعتقاد السائد بين كثيرين، قليلون من أهل الشمال هم من يرون أن هناك تعارضًا بين حفظ القرآن وتعلّم المواد الأخرى، كما رأينا في مدرسة مكرنتر مال تدّا، والتي تدرس المواد “الغربية” كما تُعرَف لتستطيع مواكبة متطلبات السوق النيجيري دون التضحية بقواعد الثقافة المسلمة في الشمال.
تقول الحكومة إنها ستساند تلك الجهود، في محاولة لتخفيف حدة لهجتها تجاه الماجراي، ولكنها ليست سوى كلمات كما يقول أهل الشمال، والذين يشكون قلة التمويل المركزي للتعليم في الشمال، مقابل الملايين التي يتم إنفاقهم على القطاع العسكري والأمني، كما يؤكد شيخ أبوبكر، والذي يقول بأن مدارس الماجري، والتي تتلقى التبرعات من الأهالي، ستحتاج إلى مزيد من التمويل لتستطيع دفع رواتب لمدرسي المواد الأخرى كالإنجليزية والحساب، وهي مسؤولية تقع على عاتق الحكومة التي لا تقوم بها.
كان شيخ أبوبكر طالبًا بإحدى المدارس الحكومية، وهو أول من ينتظم فيها من أسرته، وكان إخوانه يسخرون من الزي الرسمي المدرسي الذي كان يرتديه آنذاك، وحين أنهى دراسته، قرر أن ينتقل للتدريس في تلك المدارس النظامية، ثم إلى تدريس الإنجليزية والعربية في مدراس الماجري، والتي يعتقد أنها مهمة ليستطيع الطلاب فهم القرآن بأنفسهم بدلًا من حفظ كلماته فقط، وبالتالي تفادي الانجرار لأي خطاب يستغل جهلهم العربية كما قد يحدث مع بوكو حرام.
بوكو
بدأ نظام التعليم الحكومي في نيجيريا في الجنوب في خمسينيات القرن التاسع عشر، وقامت بتأسيسه حملات التبشير المسيحية، وبالتالي سرعان ما أصبحت تلك المدارس في نظر مسلمي الشمال مدارس مسيحية، ومحاولة لنشر المسيحية، بدلًا من رؤيتها باعتبارها مدارس حديثة، وتلك واحدة من الأسباب الرئيسية التي أدت لرفض الكثير من المسلمين لتلك المدارس لفترة طويلة، على عكس ما يعتقد كثيرون بأنهم رفضوها من منطلق الأصولية. لاحقًا، حين أصبحت الإنجليزية اللغة الرسمية بعد الاستعمار البريطاني، أصبحت ثقافة الشمال في ليلة وضحاها بلا قيمة في ظل المؤسسات الحاكمة الجديدة، وبالتالي أصبح التعليم منقسمًا بين المدارس الحكومية الغربية والمدارس الإسلامية.
بطبيعة الحال، أدرك كثيرون أن منظومة التعليم الغربية أو المسيحية تلك تضم في ثناياها عناصر هامة لمواكبة التطورات السياسية والاقتصادية في نيجيريا، إلى جانب أهمية المدارس التقليدية أو الإسلامية، وهو ما أدى لظهور حركة “إزالا” في ستينيات القرن الماضي بين المسلمين، والتي شجعت الاهتمام بالتعليم الحديث، وأصبحت تقف في مواجهة الدولة من ناحية، والتي لم تقبل نهائيًا المنظومة التقليدية، والطرق الصوفية القديمة من ناحية أخرى، والتي لم تستسغ التعليم الغربي.
كان شيخ أبو بكر جومي واحدًا من أهم مشايخ تلك الحركة، وقام بنشر ترجمة بالهوسا للقرآن عام 1980، واعتبره الكثيرون راديكاليًا للخطب التي بدأ يلقيها في محطات الراديو العامة، مما دفع معارضيه من أنصار التعليم التقليدي إلى إطلاق لقب بوكو عليه وعلى أتباعه، في حين انشقت إحدى المجموعات عن حركة إزالا معلنة رفضها للتعليم الحديث والتعاون مع المؤسسات الحكومية، لتصبح نواة لحركة بوكو حرام.
أحمد جومي، ابن شيخ أبوبكر جومي، تحدث معي عن المشاكل التي يواجهها الإصلاحيون الإسلاميون اليوم، وهي التمويل بشكل رئيسي، لا رفض المسلمين للتعليم الغربي، وهو رفض تضاءل على مدار عقود ويكاد يكون معدومًا اليوم، ولكن الدخول إلى المدارس النظامية يتطلب الإنفاق على الزي المدرسي والكتب ومستلزمات الدراسة وهكذا، لتكلف حوالي 15 دولارًا في الشهر، وهو مبلغ لا يتملك عائلات كثيرة بالشمال أن تنفقه.
على الناحية الأخرى، لا تحتاج المدارس القرآنية سوى لوح خشبي، وقد تكون محاولات إدخال المواد الحديثة إليها ناجحة أكثر من الالتحاق بالمدارس النظامية، ولكن الدولة يجب أن تموّل خطوة كهذه، خاصة وأن الجميع متحمس لها، كما يقول أحمد جومي، “الناس يريدون أن يتعلموا، فقط افتح لهم مدرسة وسيتكالبون على الحضور فيها، حتى في مايدوجوري، حيث توجد بوكو حرام، لايزال التعليم هناك مرغوبًا”.
في كادونا
السؤال الآن هو، إذ كانت غالبية سكان الشمال تريد تعلّم المواد الحديثة بجانب القرآن، فمن هم إذن من يعارضون تلك الخطوة؟ للتعرف على هؤلاء، قمت بزيارة ريجاسا، حي محافظ بمدينة كادونا، ورأيت دَهيرو باوتشي، العلاّمة الصوفي الذي يُقال إنه واحد من ألد أعداء التعليم الحديث، جالسًا في غرفة كبيرة محاطًا بعشرات من مريديه الذين أخذوا في الاقتراب منه لتقبيل يديه أو لالتقاط صورة له باستخدام هواتفهم الذكية أو أجهزة التابلت، وكنت أنا والمترجمة الخاصة بي السيدتين الوحيدتين بالمكان.
يُشرِف باوتشي على حوالي 150 مدرسة من مدارس الماجري، وحين سألته عن رأيه في إدراج المواد الغربية في المدارس القرآنية، رفع من صوته ليخاطب كل من بالغرفة، وأخذ يتحدث عن أهمية دمج التعليم المدني والديني، “العالم يتغيّر .. والتعليم هنا مثل اليدين أو الجناحين، التعليم الإسلامي هو اليد اليُمنى الماهرة، والتعليم الغربي هو اليد اليسرى التي تقوم بالأعمال اليومية، في نيجيريا، يشهد نظام مدارس الماجري تقدمًا نحو الأفضل، ولكننا نحتاج إلى دعم الحكومة المركزية، فنحن، سكان الشمال، مواطنون أيضًا”.
ينحدر باوتشي من عائلة من الفلاحين، ولم يتلق أي تعليم نظامي، وكان يعتقد أن التعليم الغربي يُلهي الطلبة عن الدراسة الدينية، ولكنه غيّر من مواقفه بعد أن رآى الكثير من أبنائه ممن تلقوا تعليمًا حديثًا قد حصلوا على شهادات جامعية وأصبحوا أطباء.
لاحقًا، توجهت إلى حي كَبَلا دوكي، لأقابل سليمان إدريس، أحد معلمي المدارس القرآنية، والناشط من أجل تحديث ثقافة المعلمين، وكان أبوه يدير مدرسة قرآنية في كادونا، وأرسله إلى مدرسة أخرى في كانو، ولكنه لم يلتحق بالمدارس النظامية، حتى أتم 19 عامًا ونجح في حضور كورس لدبلومة بكلية أهلية، ليحصل على شهادة في اللغة العربية، ثم يتجه إلى تحديث المدرسة القرآنية التي تركها أبوه بمساعدة من الحكومة البريطانية، كما كان من المفترض أن يتلقى دعمًا حكوميًا لإدراج الإنجليزية والرياضيات والهوسا وعلوم الاجتماع في المدرسة، “يأتي كل فترة شخص من الحكومة ويقول إنها ستقدم المعونة، ولكن المعونة لا تأتي أبدًا”، هكذا يقول إدريس.
مع انطلاق أذان الفجر، اصطف طلبة إدريس في الشارع وشرعوا في الصلاة، والتي تبعها درس القرآن بتوزيع صحف من نسخة مكتوبة باليد من القرآن أخذ الطلبة ينقلونها بأيديهم إلى الألواح الخشبية بالحبر المصنوع من عصائر الفاكهة، والأقلام المصنوعة من العُصيّ، ويرددونها حتى يحفظونها تمامًا، قبل أن يمسحوا الألواح ويكتبوا آيات جديدة.
يقول إدريس إنه يجمع ما يستطيع من طعام مع زوجته في المساء لإطعام الطلبة، ولكن الكثير منهم لايزال يتجول شوارع المدينة في المساء حاملًا بين أيديه أطباقًا خالية لتسوّل الطعام من المارة، وتلك أحد أسباب اعتقاد كثيرين بأن الماجراي أطفال شوارع، رُغم إدراك الغالبية العظمى لأهمية وقدسية ما يدرسونه، حتى إن البعض حين ينتقل لبيت جديد، أو يتزوج، يجلب أحد الماجراي ليقرأ له بضع آيات قرآنية، وأحيانًا تُغسَل الألواح الخشبية التي قرأ منها بالماء ثم تشربها العروس كنوع من البركة.
هكذا يعيش الماجراي إذن، بين الفقر والتسوّل واللذين فرضتهما الأحوال الاقتصادية والسياسية منذ الاستعمار من ناحية، ، والثقافة القرآنية العريقة في الشمال من ناحية أخرى، والتي لاتزال تعطيهم قيمة وأهمية في مجتمعاتهم.
الماجري وبوكو
قام إدريس بتعريفي على سعيد عبد الرحمن، أحد طلابه النابغين، والذي أتى العام الماضي من إحدى القرى في أقصى الشمال ليتلقى تعليم الماجري بعد أن أرسله أبوه قبل أن يُكمل تعليمه الابتدائي النظامي، وكان في البداية عاجزًا عن القراءة والكتابة، فقام إرديس بتعليمه الحروف العربية، ثم القرآن، ثم معاني الكلمات العربية، “قد أستغرق حوالي أربع أو خمس سنوات لأتم حفظ القرآن كاملًا”، هكذا قال لي سعيد، البالغ من العمر 17 عامًا، بالإنجليزية البسيطة، والتي يتعلمها في أوقات فراغه.
بعد تلك الزيارة، قمت بالسفر إلى قرية جيدن نساو التي أتى منها سعيد، وهي قرية نائية لم نصل لها إلا بالدخول في طرقات رملية وعرة أخذتنا بعدها عبر حقول من الذرة والبطاطس، وقوافل من الجمال القادمة من النيجر في الشمال، حتى وصلنا إلى البيوت الطينية التي يعيش فيها سعيد، ليستقبلنا وفد من الأطفال من كل ناحية، بالإضافة إلى أبوه هارونا.
تقع المدرسة الحكومية هنا خارج القرية، وينتظم فيها اثنان من إخوة سعيد الأصغر سنًا، ويعتزم هارونا أن يرسلهما لدراسة القرآن أيضًا في وقت لاحق، وقد رأيتهما مع الكثيرين يلعبون بالأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية والسماعات تتدلى من آذانهم في قرية تصلها الكهرباء بالكاد.
تحدث إلينا هارونا عن تعليم الماجري الذي حصل عليه في مايدوجروي، وقال إنه نجح في الحصول على التعليم النظامي أيضًا في سن متأخرة، “الجمع بين بوكو والقرآن أمر ممتاز، ونحن ندعمه بالكامل هنا .. حين يعود سعيد بعد تعليم الماجري الذي حصل عليه، وتعليم بوكو أيضًا، سيكون قادرًا على إفادة كل سكان القرية”.
في طريق العودة إلى كادونا، قال لي سعيد إنه يحلم بدخول المدرسة الثانوية والجامعة، ودراسة العلوم الزراعية ليكون قادرًا على المساهمة في الزراعة بقريته، أو ربما المشاركة في جهود التدريس فيها، “يمكنني أن أفعل ذلك فقط إذا وجدت من يدعمني بالطبع”، هكذا قال سعيد.
الكُل يدرك هنا أن الحكومة لا تقوم بدورها كما هو واضح، وعدم إقبال الناس على بوكو قدر إقبالهم على القرآن ليس دلالة على أصولية سكان الشمال أو انحيازهم لبوكو حرام، كما رأينا في مقابلاتنا مع كثيرين، ولكنه بالأساس نتاج غياب اهتمام الحكومة المركزية بالتعليم الغربي في الشمال، وعدم ثقتها في تعليم الماجري.
الكُل هنا عازم على التمسّك بالماجري، والكُل أيضًا راغب في تلقي “بوكو”.
المصدر: هاربرز