عملية الغدر الإجرامية التي شنها العدو الصهيوني ضدّ ثلة من مجاهدي حزب الله في القنيطرة في الجولان جاءت سابقة خطرة تستهدف بعدًا إستراتيجيًا في ترسيخ معادلة جديدة تقتضي عدم التواجد في تلك المنطقة في الحرب بين الكيان الصهيوني وحزب الله – إيران، وقد نجم عنها ستة شهداء من بينهم قادة ميدانيين وعميد من فيلق القدس من الحرس الثوري الإيراني وهو الشهيد محمد علي الله دادي فضلاً عن جهاد عماد مغنية الذي واصل مسيرة الشهداء العظام من آل مغنية ولاسيما والده القائد العسكري الفذ عماد مغنية.
وبهذا تكون العملية الغادرة مؤلمة بسبب مفارقة أولئك الشهداء وتكون ذات بُعد إستراتيجي في المواجهة مع محور المقاومة، ومن هنا كان لابدّ من الرد، وبأسرع ما يمكن، وبالمستوى الذي يبعث برسالة متعدّدة الأبعاد من ناحية مستواها العسكري، وتعقيدها من الجانب التكتيكي، فضلاً عن بُعدها السياسي – المعنوي – التعبوي.
وجاء الردّ فعلاً، وبعد عشرة أيام، وفي المستوى المطلوب، وقد حمل الأبعاد التي توّختها القيادة السياسية والقيادة العسكرية؛ الأمر الذي أربك نتنياهو وحكومته وقيادة الجيش الصهيوني، وترك أثره النفسي السلبي في الرأي العام داخل الكيان الصهيوني من جهة، كما كانت له مفاعيله الإيجابية السريعة وذات الزخم على مستوى فصائل المقاومة الفلسطينية والقوى السياسية اللبنانية والرأي العام اللبناني والفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي.
على الرغم من أن تفاصيل عملية الرد التي قامت بها “مجموعة شهداء القنيطرة” لم يُعلن عنها بعد، ولكن تحديد موقعها، والهدف الذي ضربته، وما يحيط بذلك من إشكالات تتعلق بنقطة إنطلاق الصواريخ التي استهدفت رتل الموكب العسكري ودقة إصابة عدد من المركبات بأسلحة صاروخية، وما يتضمنه من عنصر المفاجأة وسرعة اختيار الموقع والتنفيذ، فكل ذلك ما كان ممكنًا لولا جهود هائلة ومدروسة سابقة من مراقبة واستطلاع ورصد ومن عمل وإعداد وتخطيط للوصول إلى نقطة الإطلاق ثم العودة، على أن اختراق الحدود من دون أن يشعر العدو تحمل أكثر من افتراض، وكل واحد منها لم يتحقق إلاّ بعمل تحضيري سري مرهق، وهذا كله هو الذي سمح بأن تُعدُ هذه العملية فتُنْجز بكل هذه السرعة والإتقان والنجاح.
باختصار إن عملية “مجموعة شهداء القنيطرة” تكشف جانبًا من الاستعدادات التي واظبت عليها المقاومة الإسلامية لمواجهة حرب كبيرة، الأمر الذي يُفترض به أن يُعزز ثقة الجماهير وكل داعمي المقاومة بأن ما يُسّمى الهدنة أو شروط القرار 1701 كان استعدادًا لا ينام الليل، وبأعلى مستوى عسكري لمواجهة حرب قادمة لا محالة، هذا من جهة أما من جهة أخرى فيُفترض أن يُسقط كل اتهام وُجّه لحزب الله بأنه تخلى عن المقاومة ومواجهة العدو الصهيوني، ومن ثم يُفترض لكل المُشككين أن يعيدوا حساباتهم احترامًا للنفس والحقيقة، وإلاّ جاء اليوم الذي ينهار فيه كل بنيانهم السياسي، وذلك حين ذهبوا بما يمكن أن يكونوا قد اختلفوا حوله مع حزب الله إلى التشكيك في كونه قوّة مقاومة جبارة ضدّ العدو الصهيوني تعتمد التسلح المتواصل والإعداد للحرب، حيث لا مجال للتمثيل أو التأويل، فما كان هدنة وهدوءًا على الجبهة كان حربًا ومقاومة بلا إطلاق نار، وهذا ما كان عليه حال المقاومة في قطاع غزة ولم يزل.
إن عملية الغدر التي وُجهت ضدّ شهداء القنيطرة لم يُقْدِم عليها العدو إلاّ بهدف إجهاض ما أعدوه ويعدونه من عمل عسكري سوف يوجّه إليه من الجولان، فحكومة نتنياهو ونتنياهو ليسا بوارد أن يقوما بمثل هذه المخاطرة إلاّ اضطرارًا وتوقياً لأن عليه أن يتوقع الردّ من جانب حزب الله، وقد اعتبرت إيران رسميًا أن عملية القنيطرة استهدفت فيما استهدفت اغتيال العميد في الحرس الثوري الشهيد محمد علي الله دادي تخطيًا من جانب الكيان الصهيوني للخطوط الحمر الإيرانية، فنتنياهو مأزوم والجيش الصهيوني في مأزق حقيقي بعد هزيمته الميدانية أمام المقاومة الفذّة المنتصرة في قطاع غزة، ولأن الموقف السياسي لنتنياهو وهو مقدم على انتخابات شديد الحرج، ومن ثم لا يحتمل القيام بمغامرات عسكرية غير مضمونة النتائج، فهو لا يستطيع أن يخوض تجربة عسكرية فاشلة تؤدي إلى سقوط محتم في الانتخابات، فالرغبة لتحقيق إنجاز عسكري يساعده، ولا شك، في العودة إلى الحكومة عبر الانتخابات، ولكن الرغبة لا تكفي وحدها إذ من الضروري أن تدعمها توصية من هيئة الأركان بإمكان تحقيق ذلك الإنجاز، أما إذا لم يحصل على تلك التوصية فعدم اللجوء إلى العمل العسكري أفضل له انتخابيًا.
من هنا فإن عملية القنيطرة غلب عليها بأن تُنفّذ لذاتها بمعنى إجهاض جهد يُعتبر خطرًا على الوضع العسكري الصهيوني في الجولان، وليس كما ذهب عدد من المحللين بأن السبب حاجة نتنياهو انتخابيًا، والدليل الإرباك الذي وقع فيه نتنياهو وموقف قيادة الجيش بعد عملية الرد في مزارع شبعا، أما لو كانت عملية القنيطرة ضمن إستراتيجية لتبعتها خطوات أخرى متلاحقة ولجاء الردّ على عملية مزارع شبعا فوريًا وحاسمًا، ومن ثم فإن نتنياهو كما تثبت الوقائع لا يمتلك إستراتيجية عكس ما كان حال القيادات الصهيونية قديمًا، فموازين القوى تغيّرت.
أما من جهة أخرى فإن عملية القنيطرة، من جانب العدو الصهيوني أطلقت رأيًا عامًا في مصلحة حزب الله وإيران فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية والصراع مع الكيان الصهيوني، وذلك بعد إطلاق اتهامات حملها إعلام واسع تقول إن القضية الفلسطينية وُضِعَت على الرف، وأن المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني وُضِعَت على الرف كذلك، وهي بانتظار نهايتها مع الاتفاق النووي القادم، ثم جاءت عملية الرد في مزارع شبعا لترفع بدورها من جديد أسهم حزب الله والمقاومة وتعزّز اللحمة مع كل فصائل المقاومة الفلسطينية والارتفاع بها إلى مستوى أعلى من أيّة مرحلة سابقة. الأمر الذي سيكون له ما بعده بالنسبة إلى المقاومة المظلومة في قطاع غزة.
وهكذا يكون السحر قد انقلب على الساحر، وأخذ الصراع مع الكيان الصهيوني يدخل مرحلة جديدة أعلى في مصلحة القضية الفلسطينية.
ويكفي أن يُتابِع المرء ما عرفه يوم الأربعاء الموافق 28/1/2015 من حماسة منقطعة النظير في إبراز أهمية العملية والتعاطف معها وما ستتركه من أبعاد إستراتيجية حتى كاد بعض المعلقين أن يقفِزوا من شاشات الأقنية الفضائية دعمًا للمقاومة ولحزب الله، وكان كل ذلك في مكانه ويعبّر عن أن الوضع العام في البلاد العربية والإسلامية ليس بذلك السوء والسلبية كما راح الكثيرون تصويره، وكان من بينهم عدد من الذين رفعوا نسبة التفاؤل الآن إلى أعلى المراتب، وقد تهاوت كل تلك الموضوعات التي كانت تعتبر الكيان الصهيوني في أحسن حال وتراه “المستفيد الأول” من كل ما يجري في المنطقة من صراعات ويسود من مظاهر سلبية، وإذا بهم يرون نتنياهو مُعبّرًا عن الوضع في الكيان الصهيوني، في حالة يُرْثى لها، ولا يدري ماذا يفعل أمام صفعة جعلت الأرض تدور من حوله، وإذا به عاريًا من أيّة إستراتيجية هجومية وعاجزًا عن الوقوف ندًا أمام حزب الله كما كان حاله، عمليًا، أمام المقاومة في قطاع غزة بالرغم من حصارها وما عانته من مواقف عربية رسمية وصلت إلى حدّ حصارها لنزع سلاحها تحت شعار سلاح واحد وسلطة واحدة وقرار في الحرب والسلم واحد.
حقًا إنه لمشهد رائع وإيجابي للغاية، وبحق، ما عرفه يوم الأربعاء في 28/1/2015 وما بعده حتى الآن، من حماسة شعبية عارمة عربيًا وإسلاميًا كما ما أبداه الكثيرون من الأحزاب والنخب والقوى السياسية من دعم للمقاومة الإسلامية وحزب الله، والإعجاب إلى الحدّ الأقصى بالعملية الرائعة الاستثنائية التي نفذتها “مجموعة شهداء القنيطرة”؛ الأمر الذي يفتح آفاقًا واسعة جديدة للتفاؤل وهو ما أظهرته التحليلات للأبعاد التي حملتها هذه العملية.
وهنا لا يسع المرء إلاّ أن يسأل كثير من هؤلاء، وليس الكل بالتأكيد، لماذا لم تتخذوا موقفًا ولو بمستوى عُشْر موقفكم الحالي من المقاومة في قطاع غزة وهي تخوض حربًا دامت 51 يوميًا، وأنجزت من ناحية عسكرية ما يدخل في نطاق الإبداع والإتقان، إلى جانب بطولة شعب، وإنزال الهزيمة العسكرية بالجيش الصهيوني ميدانيًا، فنتنياهو وجيشه ما كانا ليكونا في هذا الوضع المزري لو تمكنا من اكتساح قطاع غزة وإنزال الهزيمة بالمقاومة، فوضعهما سياسيًا ومعنويًا وشعبيًا صهيونيًا وحتى عسكريًا كان سيكون أقوى كثيرًا مما هو عليه الآن.
ولهذا يُفترَض بالذين يُحمَد لهم موقفهم الرائع الذي اتخذوه من عملية مزارع شبعا العظيمة، أن يراجعوا موقفهم الذي اتخذوه بحق المقاومة في قطاع غزة، والتي وقعت عليها صفة المقاومة المظلومة وهي القوية والمنتصرة والشقيقة التوأم للمقاومة الإسلامية في لبنان في محاربة العدو الصهيوني، فكيف يُسمح بطمس أو تجاهل أو التقليل من أهمية، إنجازات المقاومة في قطاع غزة، بل كيف يسمح أن يُستمر حصارها الخانق، ولا تشعر بكل هذا الدفء الواجب الذي يحيط بالمقاومة في لبنان.
إن الانتصار الكبير الذي حققته عملية “مجموعة شهداء القنيطرة” يجب أن يُعيد الاعتبار من قِبَل الكثيرين للمقاومة في قطاع غزة وإخراجها من مظلوميتها وحصارها، وبهذا يتعزّز هو بدوره، الأمر الذي ترجمته مواقف فصائل المقاومة جميعًا في قطاع غزة حين وصل الأمر، وبحق إلى الاستعداد لفتح جبهة غزة إذا ما واجهت المقاومة في لبنان عدوانًا وحربًا من قبل العدو الصهيوني.
هذه الروحية .. هذا التضامن .. هذه الوحدة بين أهل المقاومة هو ما يجب أن يتعزّز ويتثبّت ويكون يومنا الراهن والمستقبل القريب، وعندئذ سيعلم نتنياهو وقادة الكيان الصهيوني ومن ينصرهم أيّ منقلب سينقلبون.