لطالما سمعت عنها الكثير قبل أن أزورها، وكثيرًا ما قرأنا عنها في مناهجنا الدراسيّة، كيف لا وهي عاصمة دولة الخلافة الإسلامية؟ كيف لا وهي منبع العلمانية التي وفدت علينا ولطالما حاربت ديننا وغرّبتنا عن محيطنا العربي والإسلامي؟ إنّها بلا شك تركيا.
تركيا التي طالما سمعت عن مدنها من إسطنبول وأنقرة وأنطاكيا وأنطاليا، لأجد نفسي أحطّ الرحال في مدينة لم أسمع باسمها من قبل، إنّها يوزغات مدينة صغيرة في نظر الأتراك، فهي لا تعدّ سوى ثلاث وسبعين ألف ساكن، صغيرة ربّما بعدد سكانها، أو بمساحتها ولكنّ مكانتها كبيرة في نفسي، كيف لا وهي المدينة التي استقبلتني بصلاة الصبح وأنا أصلها في حدود الساعة الثالثة والنصف صباحًا؟ وهي المدينة التي أكرمني أهلها، لا لشيء سوى أنّي عربي.
كثيرًا ما ظننت أن العروبة هي اللعنة الوحيدة التي لا أملك إلاّ أن أعشقها سواء برضاي أو عن مضض، فالعروبة منبع لغتي وثقافتي ولسان حال كتابي المقدّس “القرآن” الذي يقول فيه ربّ العزة: “إنّ أنزلناه بلسان عربي”، نعم أحبني الترك لأنّي عربي وأحبوني أكثر لأني مسلم.
في يوزغات أحسست بأني ملك، لم أصل إلى الكرسي بالوراثة ولا على ظهر دبابة ولا بتعيين أمريكي ولكن بأمر خالق السماء، كيف لا أكون ملكًا وأنا أدرّس في جامعة البوزوك للإلهيات؟ كيف لا أكون ملكًا وطلبتي يحملون عني ما خفّ وثقل، لا يسبقونني في السير، لا يأكلون طعامهم حتى آكل، يغسلون ثيابي ويكونوها، ينظفونا أطباق طعامي، يرتبون غرفتي، ليس ذلك لطمع بل فقط لأنّي “الأستاذ” كما يقولون، ولأنّي العربي التّونسي من تحمّل مشاق السّفر ليدرسهم.
في يوزغات تعلمت عدة دروس لم أتلقاها في مدارسنا ولا في معاهدنا ولا في جامعاتنا ولا تعلمتها من الكتب التي قرأتها، في يوزغات تعلّمت كيف كوّن العثمانيون إمبراطورية امتد مجالها على كل البلاد العربية، إمبراطورية سعت الصهيونية جاهدة لتمزيقها، وما تمكّنت الصهيونية من الأراضي العربيّة إلاّ بعد سقوط الخلافة العثمانية.
لقد كوّن العثمانيون إمبراطورية الإحسان وإمبراطورية الأخلاق، وقد حدثني الناس في تركيا أن العثمانيين كانوا إذا دخلوا غرفة بها مصحف لا يرضون أن يخرجوا من الغرفة بوجوههم حتّى لا يولوا المصحف ظهورهم، وإنما يخرجون منها بظهورهم ليولوا المصحف بوجوههم، بل إنّهم كانوا إذا ما دخلوا الحجرة للنوم وجدوا بها مصحفًا ناموا جلوسًا احترامًا للمصحف.
أما أبناءهم اليوم فلم يبتعدوا كثيرًا عن نهج الأجداد رغم ما سعى إليه مصطفى كمال أتاتورك لسلخ تركيا عن دينها وتجذرها في الحضارة الإسلامية، فقد شاهدت مراهقين وشباب أتراك وهم يستقيمون ويعتدلون في جلستهم كلما ارتفع صوت الآذان بل إنّهم لا يوجهون سيقانهم للقبلة أبدًا، ويتزاحمون مسرعين لأداء صلواتهم على وقتها.
في يوزغات تعلمت بحق كيف يكون خادم القوم سيّدهم، كيف لا أتعلّم ذلك وأنا أرى عميد الكليّة والأساتذة الجامعيين يزرعون الخضار في حديقة صغيرة في الكليّة، كيف لا أتعلّم وأنا أرى العميد صاحب المؤلفات العديدة كموسوعة “أطلاس” للمواقع التي تم ذكرها في القرآن يصلي مأمومًا بطالب يدرس في السّنة الأولى.
كيف لا أتعلّم وأنا أرى الإمام الخطيب يعيّن طلاب الصف الأول الواحد تلو الآخر ليصعدوا المنبر في صلاة الجمعة أئمة خطباء عليه، كيف لا يكون هؤلاء الطلاّب سادتي وهم يخدمونني كلّ يوم حتّى جعلوني أصدح بكلمات قد لا تعبّر عمّا أشعر به في مركز الخلافة الإسلامية.
أما في وطني فترتفع الأيادي وتتشابك داخل جامع الزيتونة المعمور بين إمام تؤكد السلطة وهي وزارة الشؤون الدينية استيلاءه على المنبر وآخر عينته الوزارة يريد اعتلاء المنبر عنوة، في بلدي غيرت الثورة كل شيء، الأخلاق والنظام السياسي والأمور الاقتصادية، أما في تركيا فقد حافظوا على ثوابتهم، وتمسكوا بقيمهم.
في تركيا كل شيء يحدثك أنك في وطن جمع بين الأصالة والحداثة، نهل من منابع الأمة الإسلامية وحاكى تطور وتقدم الحضارة الغربية؛ فكانت البلاد مركز ثقل جمع بين سياسة لم تتخل عن قيم دينها واقتصاد يزاحم الغرب بل ويتفوق عليه أحيانًا.