لا يعرف أصحاب العقول السويِّة في عالم الأفكار الألوان النقية الصافية، نقاءً يُخلِّصها من شَوْبِ التأثر بما سبق إنجازه، كما لا يصحّ لديهم النظر إلى الفكر بمنطق ردِّه – قسرًا – إلى طَرَفَيِ الأبيض والأسود، أو إلى الخير المحض والشر المطلق؛ إذ يدركون جيدًا أن كثيرًا من الأفكار تنتمي إلى المنطقة الواقعة ما بين اللونين الأبيض والأسود، كما يَعُون أن الأفكار إنما يتأثر بعضها ببعض، ويخرج بعضها من رحم بعض، فكثيرٌ منها محض أمشاجٍ وأخلاطٍ لا ينفصل بعضها عن بعضٍ إلا باقتسار.
إن دورة حياة الأفكار وتطورها تسير فيما يُشبه الدوائر المتصلة، التي يجوز لك معها القول بأن لكل منها كيانًا مستقلاً، في الوقت الذي تترابط فيه وتتصل بشكلٍ يعسر معه الفصل بينها.
وقد بُلينا في أيامنا هذه بـ “التصنيفية” و”القولبة”؛ إذ يُفضِّل الكثيرون – عن وعيٍ أو بغيره – تصنيف الأشخاص فكريًّا وأيديولوجيًّا قبل التعامل معهم، كما يهرع بعض السطحيين والقِشْرِيِّين إلى نسبة الشخص إلى فكرٍ معين أو طرفٍ ما حين يعثرون في ثنايا كلام هذا الشخص على ما يؤيد هذا الفكر أو ذاك، غافلين أو متغافلين عن أن المفكر الحر كثيرًا ما يقترب من مجمل الأفكار حين يُعمل عقله في إحدى القضايا الفكرية أو السياسية، أو أية قضيةٍ كانت.
وهذا التصنيف السطحيّ للأشخاص مريح للكثيرين ممن لا يعرفون للأفكار عمقها وتداخلها واختلاطها في نفوس وتكوين العقول الحرة؛ حيث يُسَهِّل ذلك عليهم التعامل مع الأشخاص بناءً على القوالب والنماذج التي لا يعرفون غيرها، دون أن يدركوا أن هنالك نماذج لا تُحصى في المنطقة الوسطى الرمادية لا يسهل تصنيفها أو نسبتها بسهولةٍ إلى تيارٍ دون آخر.
وإذا ما أسقطنا هذه الفكرة النظرية على واقعنا ألفينا الأعاجيب، حيث الاتهامات الجاهزة، والقوالب المعدة سلفًا، وما ذاك إلا لأن حياتنا قد غصَّت بأنصاف العقول، وضعافها، والمنتفعين من وَصْم كل مفكرٍ مخالفٍ بالأوصام الجاهزة.
إن الأفكار والقضايا يحدث بينها من التداخل ما يصعب معه تلمُّس البدايات والإرهاصات؛ فالتصوف – مثلاً – وهو من القضايا المهمة في الفكر الإسلامي، لا يعرف المتتبع له سنة محددة يستطيع الجزم بأنها سنة ظهوره وبدايته، بل كل ما يستطيع المرء قوله هو إن التصوف باعتباره طريقةً في التعبد والتنسك شديد الصلة بعالم (الزهد) الذي أرسى دعائمه الحسن البصري، ولمّا تَرسَّخ أمر الزهد في العراق – تحديدًا – أخذ ينمو ويتطور إلى أن صار تصوفًا له رجالاته الذين صار لهم – من بعد – مريدون.
وهكذا عالم الأفكار، تتداخل حدوده، وتتلاقح مبادئه، ويحدث بينها من التأثير المتبادل ما يجعل التحديد القاطع معها والفصل الحاد محض تكلّف وادّعاء.
وإذا ما نظرنا إلى كثيرٍ من الخلافات السياسية التي تقع بين الكثيرين، لاسيما أهل الفكر والثقافة؛ فإنك واجد فيه كل صادم غريب، حتى ممن يُظن فيهم رجاحة العقل، وسداد المنطق، فإذا ما انتقد شخص الإخوان وسلَّط الضوء على بعض خطاياهم التي كانت سببًا في الإجهاز على ثورة يناير النقية، ألفيت من يتهمه بأنه من “عبيد البيادة” أو “الأمنجية”.. إلخ هذه الأوصاف المعروفة، وفي الجانب المقابل، فإن تُهم “الإخوانية” أو “الظلامية” أو “العمالة لتركيا وغيرها” في انتظار من يجرؤ مجرَّد جرأة على من ينتقد المذبحة الدامية التي حدثت في رابعة العدوية، أو ينتقد السيسي والطريقة التي وصل بها إلى الحكم، وهكذا صار الإعلام، وإلى هذا أضحى حال أغلب رواد البساط الأزرق “الفيسبوك”.
إن أمةً تتحفز لأية كلمة معارِضة، وتتوجس خيفةً منها، وَتَصِمُ صاحبها – نكايةً فيه وإقصاءً له – بأنه تابعٌ لهذا الطرف أو ذاك؛ لجديرة بأن تكون في ذيل الأمم، أو في ما هو أدنى.