ترجمة وتحرير بوست
بردائها الرياضي الأسود، وحقيببتها المتدلية على كتفها، مشت حياة شعبان في شوراع المدينة، وفي طريقها نظرت إلى الساعة العثمانية الموضوعة فوق أشجار النخيل والمنازل ذات الأسطح الحمراء في ساحة التل في مدينة طرابلس اللبنانية.
إن الطريقة التي تختار فيها حياة – البالغة من العمر 19 عامًا – ثيابها التي ترتديها، هي طريقة مألوفة للمراهقين في لندن ونيويورك، ولكنها غريبة ودخيلة على ثقافة مدينة طرابلس المحافظة في الساحل اللبناني على البحر المتوسط، ولكن الغريب بالنسبة للمدينة ليس فقط لباس حياة، بل عملها أيضًا؛ فهي طالبة في كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية في الكورة، وهي الأنثى الوحيدة في طرابلس التي تمارس فن الكتابة على الجدارن (الجرافيتي).
“غالبا ما يستغرب الأشخاص هنا في البداية، يرون فتاة في الشارع لوحدها تقوم بالكتابة على الجدران، من غير العادي أن ترى هذه الأشياء هنا”، تقول حياة.
ولدت حياة وترعرعت في ضيعة أبو سمرة الطرابلسية الجبلية، المطلة على القلعة الصليبية في المدينة، وهي شابة طويلة القامة (حوالي ستة أقدام) شعرها بني طويل تربطه بشكل اعتيادي وبسيط على شكل ذيل حصان، وغالبًا ما تراها ممسكة بكراسة الرسم في يدها، “أهلي يدعموني، بعض الجيران يعتقدون أني غريبة الأطوار، أو مخربة نوعًا ما”، قالتها حياة وهي تبتسم بضحكة طفولية.
حياة تعتمد في أسلوبها على المزج بين النمط الإسلامي التقليدي للخط العربي وبين التقنية الغربية للكتابة على الجدران (جرافيتي)، وهي تقوم بأداء هذه الرسومات في بيئة يتزايد توترها تدريجيًا؛ فمنذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا في عام 2011، شهدت مدينة طرابلس معارك متقطعة بين حييها الفقيرين، باب التبانة المدينة التي يغلب عليها السنة والمتعاطفة مع الثورة السورية، وجبل محسن المدينة الجبلية التي تطل على طرابلس ذات الأغلبية العلوية والتي تدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وخلال هذه الأحداث اعتقل الجيش اللبناني من طرابلس مئات الأشخاص من المشتبه بهم المتعاطفين مع الدولة الإسلامية (داعش)، والذين كانوا يرفعون أعلام الدولة السوداء فوق سياراتهم أو فوق بعض المباني في بعض أجزاء المدينة، وهذه الممارسات أثارت التخوف حول انجراف شباب السنة في المدينة نحو التطرف، خاصة وأن هؤلاء ينظرون للجيش اللبناني على أنه تابع لحزب الله، الحزب الشيعي الذي بعث بميليشياته لتقاتل إلى جانب الأسد في سوريا.
قبل سنوات من اندلاع ثورات الربيع العربي والتي جلبت العنف والانقسامات إلى مدينتها، بدأت حياة بتجربة الخط العربي في المدرسة، حيث قامت بكتابة الخط العربي القديم بحروف صغيرة على أوراق غش صغيرة “راشيتة”، بشكل لم يستطع معه الأساتذة فك اللغة المكتوبة على الورقة، وفي وقت لاحق اكتشفت حياة عمل السيد وعلي رافع، المختصان بفن الشارع التونسي واللذان يعتمدان في أسلوبهما على الدمج بين الخط العربي مع تقنية الكتابة على الجدران (الجرافيتي) لجلب الفرحة والألوان السعيدة إلى المدن الداخلية الفقيرة، كما استعملا هذا الأسلوب لإيصال رسائل مباشرة ناقدة ضد النخب السياسية؛ لذا عمدت حياة إلى التمرس على هذا الأسلوب لمدة سنوات في المنزل على دفاترها القديمة وعلى الحائط فوق سريرها، ومن ثمّ أخرجت هذا الأسلوب إلى النور في العام الماضي، عن طريق تطبيق هذه التقنية من الرسم في شوارع مدينتها.
باشرت حياة عملها على الجدران الخلفية الهادئة لمرفأ طرابلس، حيث تعلو هناك أصوات الناس نتيجة لصخب الأسواق، استطاعت حياة من خلال عملها أن تجسر هوة الانقسامات الطائفية في بلدتها، حيث تفاعلت دائمًا مع الأغلبية السنية في المدينة وأيضًا مع السكان المسيحيين الذين يشكّلون أقلية في تلك المنطقة.
في سبتمبر، وبعد الانتهاء من رسم لوحة من لوحاتها بالقرب من سلالم حديقة التل في طرابلس (اللوحة تتضمن أربعة تدرجات لونية بمساحة 4×2 متر وتتحدث عن فوائد الفن العلاجية عن طريق عبارة “ما أضيق الحياة لولا فسحة الفن”)، تواصل معها إمام الجامع القريب ودلّها على مبنى سكني مهجور بالقرب من المنطقة، وقال لها إنه سيدفع ثمن اللوحة في حال استطاعت تحويل كآبة جدار المبنى إلى فن جميل، وفعلاً رسمت حياة لوحتها على الجدار الذي يبلغ طوله عشرة أقدام، حيث تظهر اللوحة على شكل دوامات من أحرف الخط الكوفي المعقدة والمتشابكة مع بعضها لتغطي كامل الحائط تقريبًا.
“عندما انتهيت منه قال لي الشيخ إنه في كل مرة كان يسير فيها بجانب الحائط كان يشعر بأن عبئًا ارتفع عن كاهله” قالت حياة.
بعد أشهر تواصلت حياة مع الأب إبراهيم سروج الكاهن من الطائفة المسيحية الأرثوذكسية، والقيّم على مكتبة في حي قديم من المدينة، المكتبة التي يرعاها الكاهن تضررت إثر حريق متعمد أضرمه مجهولون في العام الماضي، وذلك بعد انتشار شائعات بأن سروج نشر مقالاً على شبكة الإنترنت انتقد فيه الإسلام والنبي محمد، ويقول سروج “حياة لم تطلب مني شيئًا، قالت لي بأنها تريد أن ترسم لوحة للاحتفاء بالمكتبة لبقاءها صامدة بعد الحريق الذي نشب بها”، الآن أصبح بإمكانك ملاحظة لوحة حياة على بعد أمتار قليلة من أبواب المكتبة الخشبية القديمة، حيث كتبت فيها “تحديت الموت وانبعثت من الرماد”.
تقتبس حياة عبارتها التي تضعها في لوحاتها في كثير من الأحيان من أعمال الكتاب والموسيقيين اللبنانيين؛ ففي إحدى اللوحات التي رسمتها على جدار أبيض تحت وحدة خارجية لجهاز تكييف الهواء في منطقة بالقرب من منزلها، تحمل اللوحة اقتباسًا من أغنية للمطربة اللبنانية الشهيرة فيروز تتحدث عن دمار لبنان خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة وتقول اللوحة “الأرض لنا، وأنت أخي، لماذا إذًا تخاصمني؟”، لوحة أخرى مكتوبة على حائط متهالك لمدرسة محلية، تحمل اقتباسًا للشاعر جبران خليل جبران يقول “ويل لأمة تكثر فيها العقائد، وتخلو من الدين”.
على الرغم من أن بعض الرسائل التي توجهها حياة من خلال أعمالها قد تحمل رسائل سياسية تشجع على السلام والتعايش المشترك، إلا أن حياة تشير إلى أنها تسعى من خلال أعمالها إلى “تجميل” المدينة.
أعمال العنف الأخيرة التي ضربت طرابلس، المدينة التي يبلغ تعدادها حوالي 550.000 نسمة، جعلت منها منطقة محظورة في أعين الكثير من الشعب اللبناني، وهذه الظاهرة عززت من عزلة سكان المدينة عن بقية البلاد، خاصة في ظل الاستياء الأهلي من الإهمال الحكومي الذي تعاني منه المدينة.
خارج أوقات الرسم تعمل حياة كمتطوعة سياحية، حيث تأخذ السياح في جولات في أسواق العصور الوسطى في طرابلس، أو إلى الميناء، أو إلى المركز الدولي للمعارض في طرابلس، وهو البناء المهجور الذي بناه المهندس المعماري البرازيلي الشهير أوسكار نيماير في سبعينيات القرن الماضي قبيل الحرب الأهلية، واستخدم بعدها كقاعدة عسكرية للجيش السوري في لبنان.
تقول حياة “بعض الأشخاص يسعون لرؤية الوجه الحقيقي لطرابلس، وآخرون يختارون الانصياع خلف وسائل الإعلام، ويعتقدون أن الجميع هنا مؤيد للدولة الإسلامية، هذا الوضع هو أحد أسباب ممارستي لفن الكتابة على الجدران، وأحد أسباب خروجي إلى الشوارع، وتحدثي مع الناس، إنني أحاول أن أصنع فرقًا”، وتضيف “في إحدى المرات وعندما كنت أرسم لوحة في الشارع، جاء رجل ومر بجانبي وقال لي: لماذا تكلفين نفسك عناء القيام بهذا، إنك تهدرين وقتك، هذا البلد لا يستحق كل هذا، أغلب الناس يريدون فقط مغادرة البلاد”.
تشير حياة أنها تشعر بالألم من جراء أعمال العنف التي تجتاح مدينتها؛ ففي يناير 2015 نفّذت جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة هجومًا انتحاريًا على مقهى شعبي في جبل محسن، حياة كانت في منزلها حينها، “سمعت الانفجار” قالت حياة، وأضافت “قبل يوم واحد فقط كنت ممن شاركوا في فعاليات المينا، لقد كنا نقدم عناقًا مجانيًا، كرسالة لنشر الحب والسلام، ثمّ في اليوم التالي تمامًا حصل هذا الانفجار”.
حياة ستواصل رسم اللوحات، على الرغم من العنف المتنامي حولها، “شخص ما يجب أن يقوم بهذا”، قالتها حياة بشكل صارم، “في كثير من الأحيان، تراودني أفكار بأن عملي لن يحقق الغاية، بالطبع أنا سعيدة لأن الأشخاص بدأوا يتعرفون على أسلوبي بالعمل، ولكن بالنسبة لي، أنا أقوم بالرسم لأنني أحب ذلك، كما أن الرسم متنفس رائع أيضًا”.
المصدر: ميدل إيست آي