إن الصفقات السابقة المُبرمة ما بين الحكومة المصرية وشركات الطاقة الأجنبية، قد يكون لها تأثير واسع النطاق على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في مصر اليوم، فالنفط والغاز اللذان ينبغي لهما أن يكونا أحد أكبر مصادر الثروة والاستقلال الاقتصادي، أصبحا الآن يستخدمان كسلاح لإذلال وإخضاع الأمة، وأي نقاش حول كيفية استعادة الاستقلال السياسي المصري، واستعادة السيادة الاقتصادية المصرية، وتحسين ظروف الشعب المعيشية، يجب أن ينبع من خلال طرح مسألة إعادة التفاوض على عقود إنتاج النفط والغاز المصري.
تدّعي السلطات المصرية بأنها تعاني من نقص في الطاقة ناجم عن الزيادة المحمومة بالطلب عليها؛ مما أدى لقصور الإنتاج عن تلبية الطلب المتزايد؛ وهذا ما سيدفع مصر لاستيراد الطاقة من بلدان الخارج المجاورة، بما في ذلك الكيان الإسرائيلي، من أجل تلبية احتياجات السكان، حيث يتم طرح هذه الأسباب لتبرير الانقطاع المتكرر بالتيار الكهربائي الذي يعاني منه الشعب المصري في الفترة الأخيرة.
ولكن الواقع يختلف عن ادعاءات السلطة؛ فالنقص الشديد في الطاقة ليس ناجمًا عن ارتفاع الطلب عليها من قبل السكان المصريين، لكنه بالحقيقة ناجم عن طلبات شركات الطاقة التي تستهلك ما يقارب نصف الطاقة المنتجة في البلاد؛ فعلى الرغم من أن موارد الطاقة المصرية كافية، إلا أنها لا تكفي مصر وشركات الطاقة سويًا.
إن الصفقة القياسية المبرمة ما بين الحكومة المصرية وشركات النفط والغاز العملاقة تنص على التزام الدولة المصرية بمنح الشركات حق امتياز الأرض، وهذا الحق يعطي الشركات امتيازًا حصريًا بالبحث والتنقيب عن النفط ضمن الأراضي التي أعطيت لهم مجانًا من قبل الدولة؛ بالمقابل فإن هذه الشركات تستخرج النفط والغاز وتستحصل على نصف الإنتاج لتبيعه في السوق الدولية، أما النصف المتبقي فيذهب لتلبية الاحتياجات المحلية المصرية، وبإجراء حساب بسيط يمكننا استنتاج أن مصر تستهلك فقط نصف الطاقة التي يتم إنتاجها، أو بعبارة أخرى، مصر تنتج من الطاقة ضعف ما تستهلكه حاليًا؛ وهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال تعريفه على أنه نقص بموارد الطاقة.
العلاقة التعاقدية التي تجمع مصر وشركات الطاقة تنص على وجوب قيام الدولة المصرية بتعويض شركات الطاقة عندما تعمد إلى تحويل جزء من حصة هذه الشركات من ناتج الطاقة لتلبية الحاجة المحلية؛ فوفقًا للعقود، تعمد مصر لشراء مواردها الخاصة من الطاقة من شركات النفط، كون احتياطيات النفط والغاز المصرية تصنف وفقًا للعقود على أنها ضمن أصول شركات الطاقة وليست ملكًا للدولة؛ لذا فإن الدولة تقوم بتعويض الشركات عن الطاقة التي تقوم بتحويلها داخليًا من حصة هذه الشركات، بمبلغ يعادل ربح هذه الشركات في حال قامت ببيع هذه الحصة خارجيًا.
إن تطبيق بنود العقد سالفة الذكر، أدى إلى ترتب مبلغ دين يعادل حوالي 6 مليار دولار في ذمة الحكومة المصرية لصالح شركات الطاقة، وهذا المبلغ بالطبع ناجم عن قيام مصر بتحويل قسم من حصة شركات الطاقة للاستهلاك المحلي، مما يحتم على الدولة تعويض هذه الشركات عن أرباحها الضائعة وفقًا لبنود العقد، وأن المواطن المصري مجبر على الوفاء بهذا الالتزام، إلى جانب دفعه لثمن استهلاكه للكهرباء، وعمليًا فإن المواطن المصري يدفع ثمن الطاقة التي يستهلكها مرتين: فأولاً يقوم بدفع المبلغ المترتب عن استهلاكه للكهرباء للدولة، وبعدها يعمد إلى وفاء دين مصر تجاه شركات الطاقة والناجم عن استهلاكه للكهرباء أيضًا، ناهيك عن حقيقة أن هذه المبالغ ستزداد حاليًا نظرًا لقيام الحكومة المصرية بتخفيض دعمها للطاقة.
إن نتائج هذه السياسة المالية ستؤثر على حياة المواطن المصري بعدة طرق، كونها ستؤدي إلى زيادة تكاليف النقل بالنسبة للأفراد، وزيادة تكاليف الشحن والتصنيع بالنسبة للشركات، وهذا الوضع سيلقي بظلاله على كامل القطاع الاقتصادي مؤديًا بالنتيجة إلى ارتفاع الأسعار بشكل عام بالأسواق.
إن بعض الشركات الكبرى تفضّل استخدام مصادر طاقة أرخص لتخفيض تكاليف الإنتاج، ولكن هذه المصادر تنتج مستوى من التلوث أكبر مما توفره من التكاليف؛ فمثلاً تعمد بعض شركات الأسمنت العاملة في مصر مثل شركة إيتالسيمنتي وشركة لافارج إلى استخدام الفحم في مصانعها لإنتاج الطاقة، ولكن نظرة إلى الوقع تبيّن لنا أن هذه الشركات لا تلتزم بمصالح الصحة العامة والرعاية الاجتماعية، لذا فهي لا تأبه في حال تسبب حرق الفحم بكارثة بيئية، أو أدى إلى انتشار الأمراض على نطاق واسع، أو ساعد على حدوث الخراب الزراعي، أو ساهم في تدهور المناطق الحضرية في جميع أنحاء البلاد.
إذن ما تحاول الحكومة المصرية الترويج له من قضايا وهمية مثل قضية الديون ونقص الطاقة، هي حجج واهية لتبرير ارتفاع أسعار الوقود وتخفيض الدعم عن الطاقة، كون هذه النتائج ترتبط مباشرة مع الشروط التعاقدية التي تربط مصر مع شركات الطاقة الأجنبية.
بشكل عام، عندما تحصل ثورة في الدول، يتم إيقاف جميع العقود والاتفاقات التي أبرمها النظام السابق الفاسد مؤقتًا حتى تتم مراجعتها، كما يتم إلغاء الديون المستحقة الناجمة عن إدارة النظام المخلوع، أو على الأقل يتم التدقيق بها قبل وفائها، ولكن للأسف فإن هذا لم يحدث في مصر، فحكومة مرسي لم تتخذ أي إجراء إطلاقًا بخصوص هذه القضايا، كما أنه من الواضح عدم اتخاذ أي إجراء أيضًا في ظل حكم السيسي، وذلك على الرغم من أن العقود المبرمة مع الشركات الضخمة مثل شركة أباتشي وشركة شل وشركة بي بي (بريتش بتروليوم) وغيرها، والتي تقدر مقدراتها الاقتصادية مجتمعة حوالي 11 ضعف الناتج المحلي الإجمالي لمصر، تشكّل ضررًا فادحًا على مصالح الشعب المصري، وتعمل على تقويض السيادة الاقتصادية المصرية.
إن اتفاقيات الامتياز التنقيبية التي توزع الطاقة الناتجة بواقع النصف بالنصف ما بين الحكومات والشركات، هي بالواقع اتفاقات قياسية، لذا فإنه لا يتم تدقيقها وتمحيصها لمعرفة مدى تحقيقها لمصالح الشعب، ومدة مطابقتها للقواعد الشرعية الإسلامية.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن النفط والغاز الطبيعي يندرجان تحت فئة الموارد الطبيعية الموجودة مسبقًا ضمن الدولة، وبالتالي وحسب قواعد الشريعة الإسلامية، تعتبر هذه الموارد الطبيعية هي ممتلكات عامة تابعة للشعب، وينبغي أن تُستخدَم لخدمة الشعب وتحقيق مصالحه، وحقوق شركات الطاقة التي تقوم بالتنقيب عن النفط يجب أن تحسب على غرار الأجرة التي تُعطى للشخص الذي يتم التعاقد معه لحفر بئر حتى الوصول للماء، فالأخير حسب الشريعة الإسلامية له الحق في مبلغ ثابت عن العمل الذي يؤديه، ولكن ليس له أي حق في الماء الذي يجده، ونجد ذات هذا الحكم في القرآن الكريم في الآية التالية: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} (يوسف 72)، والحكم المستفاد من الآية الكريمة هو المكافأة بقيمة ثابتة لأي شخص يستطيع إيجاد صاع الملك، حيث لم يتم تقديم نصف صاع الملك لمقدّم الخدمة، كما أن الشريعة الغرّاء تحتوي على ذات هذا الحكم، حين وافق الرسول محمد ﷺ على مكافأة أي شخص يتمكن من علاج مريض يعاني من قرصة ثعبان بثلاثين رأسًا من الأغنام في حال تمكّن من علاج المسموم بتلاوة القرآن عليه، ومرة أخرى، يكون الحكم المستفاد من هذا الموقف هو وجوب المكافأة الثابتة لمقدم الخدمة، حيث لم يقدّم الرجل المسموم نفسه باعتباره عبدًا لمن يشفيه من سم الثعبان.
في حال لم نعتبر أن موارد الطاقة هي عبارة عن موارد طبيعية وُضعت تحت تصرف البشرية من قبل الخالق، يمكننا حينها تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة باستزراع الأراضي، علمًا بأن تطبيق هذه الأحكام على حالة شركات الطاقة التي تقوم باستخراج النفط والغاز لا يلقى سنده في الواقع، كون النفط والغاز موجودان في الأرض (مثل المياه)، ولا تتم زراعتهما وحصادهما من قبل شركات الطاقة؛ لذلك فإن هذه المسألة يجب أن تُحكم بالقياس، وهذا يعني قياس حالة التنقيب عن النفط واستخراجه على حالة حفر بئر للمياه، وهنا نخرج بحكم شرعي بناء على القياس يستوجب تطبيق أحكام عقود الجعالة على حالة التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجهما، وهذه العقود توجب تأدية مكافأة ثابتة مقابل الحصول على نتيجة محددة، في كل مرة لا يمكن فيها معرفة التفاصيل الدقيقة حول مقدار العمل الذي سيتطلبه الوصول إلى النتيجة، مثل شفاء الرجل من السم، أو تحديد مكان صاع الملك.
بناءً عليه، يجب أن تتم معاملة شركات الطاقة وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، والتي توجب دفع مبلغ ثابت عن خدماتهم، بدلاً من تخصيصهم بحصة من موارد النفط والغاز التي يتم استخراجها، كون هذه الموارد ليست من حقهم لأنها ملك للشعب.