ترجمة وتحرير نون بوست من الألمانية
شهد الدولار في الفترة الأخيرة صعودا لم يشهده من قبل، الأمر الذي يمثل مشكلا بالنسبة للمنتجات الأمريكية الموجهة للتصدير، كما يهدد بكبح النمو الاقتصادي الأمريكي بالكامل.
ويُعتبر الحصول على دولار قوي من أهم ما يشتغل عليه أي وزير مالية أمريكي، وفي هذا الصدد صرّح مؤخرا “جاك لو” وزير المالية الحالي في مرتمر صحفي: “الدولار القوي أمر جيد لأمريكا”.
فهل هذا صحيح فعلا؟ فكبرى الشركات الأمريكية تعاني بسبب العملة القوية: شركة “ماك كورميك” (التي تُلقب ب”ملكة التوابل”)، أسطورة الدراجات النارية “هارلي ديفيتسون”، شركة معجون الأسنان “كولجايت” و عملاق البحث “جوجل” وغيرها من الشركات في كل القطاعات؛ كل الرؤساء التنفيذيون لهذه الشركات يتذمرون من الخسائر في المداخيل بسبب الطفرة في قيمة الدولار.
وتؤثر قوة الدولار بالأساس في الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات والتي تُسجّل أكثر من 40% من قيمة مداولاتها في الخارج، فبالإضافة إلى ارتفاع العملة يجعل أسعار منتجاتها أغلى ثمنا عند التصدير، تتقلص عائداتها الخارجية بالدولار بشكل واضح.
ويحقق الدولار ارتفاعا متواصلا لأحد عشرة سنة مقابل اليورو، و لم يصل اليان الياباني في الوقت الحالي إلى مثل هذا المستوى المنخفض منذ أكثر من 8 سنوات؛ و لا يزال الضغط في ارتفاع: في شتى أنحاء العالم، من سنغافورة إلى كندا حتى كرغيزستان تتنافس البنوك المركزية حول من يقوم بخفض قيمة الصرف قبل غيره.
وأكد رئيس البنك المركزي الأوروبي “ماريو دراغي” أن عملية شراء السندات (التي دعى إليها سابقا) لا تهدف إلى إضعاف اليورو، وأن ذلك إذا حصل فهو لا يزيد عن كونه تأثيرا جانبيا. في حين اعتبر “روبرت بروسكا” كبير الخبراء الاقتصاديين لدى مكتب الشؤون الاقتصادية لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (“فاو”) في نيويورك أن هذا هراء، قائلا: “إنه السبيل الوحيد التي يمكن لعملية التسهيل الكمي من خلاله من أن تنجح في أوروبا، ففي أوروبا – وعلى عكس أمريكا – تنجح عملية التمويل عبر البنوك وليس عبر سندات الشركات.
ولذاك لا يمكن للفوائض المتأتية من السوق المالية أن تساعد الشركات إلا بتوفر شروط معينة. وفي هذا السياق صرّح “ماتيو رانزي”رئيس الوزراء الإيطالي لصحيفة “وول ستريت” بأنه يحلم بتكافؤ بين الدولار واليورو؛ إذ أن ضعف اليورو سيعوّض نقص بلاده في القدرة على المنافسة، و تصل نسبة إنتاجية إيطاليا إلى حوالي 73% بالمقارنة مع الولايات المتحدة.
المزيد من المنافسة للمنتجات الأمريكية:
وتعود قوة الدولار إلى أن الولايات المتحدة تنمو بسرعة أكبر من الإقتصادات المجاورة؛ ورغم ذلك فهي تُعتبر “كصاحب العين الواحدة في مجموعة من العميان”: فمعدل النمو الأمريكي لم يبلغ سنة 2014 سوى نسبة 2.4%، وهي في حد ذاتها نسبة بعيدة جدا عن أوروبا و اليابان؛ ويأمل “محاربو العملة” الحصول على قطعة من الكعكة الأمريكية، وذلك لأن الدولار يبقى ذلك المرفأ الآمن الذي يفرّ إليه المستثمرون من جميع أنحاء العالم، ويتأكد هذا بعدما أصبح الملاذ العالمي الثاني في الآونة الأخيرة غير ثابت وذلك بعد ما قام به محافظو البنوك المركزية السويسرية فجأة من فك ارتباط الفرنك باليورو.
و يبيّن الخبراء الاقتصاديون أن العملة القوية لها تأثيرات إيجابية، فهي مثلا تجعل الواردات أقل تكلفة؛ وبالفعل، فقد قام الأمريكان في الأشهر الماضية بالتسوق بوتيرة غير مسبوقة، أما بالنسبة للسلع المصنوعة في الولايات المتحدة فإن ذلك يعني مزيدا من المنافسة في السوق المحلية. وفي هذا السياق اشتكت وكالة الأنباء “بلومبارغ” المختصة في شؤون الاقتصاد من أن “أمريكا خسرت حرب العملة”.
ويذكر أنها ليست المرة الأولى التي يكون فيها الدولار القوي سببا مثبطا للاقتصاد الأمريكي، ففي فترة حكم “ريغان” في بداية الثمانينات لم تكن الشركات الأمريكية تصارع المنافسة اليابانية فقط، بل كذلك العملة الباهظة، كما تتصارع الولايات المتحدة مع الصين منذ عقود حول رفع قيمة الرنمينبي (عملة الجزء القاري في الصين)، فسعر الصرف المنخفض سهّل على المصنعين الصينيين ولفترة طويلة إغراق السوق الأمريكية بالسلع الصينية وكانت النتيجة ترحيلا كبيرا لقطاع الصناعة الأمريكي للخارج، و طبعا أصبح العديد عاطلين عن العمل.
تراجع الإستثمار في قطاع الطاقة:
يهدد الدولار بتعطيل نمو الإقتصاد الأمريكي، فنسبة 2.6% التي تحققت في الثلاثية الرابعة تُعتبر علامة خطر – ففي الثلاثية الثالثة كان ممكنا أن تبلغ النسبة 5% . وبالإضافة إلى الدولار، تُؤثر أسعار النفط التي انخفضت بصفة كبيرة، ففي يونيو 2014 وصل سعر البرميل إلى حوالي 104 دولار، في حين وصل الأسبوع الماضي إلى 44 دولار. وللوهلة الأولى يبدو هذا مخالفا للمنطق. وفي الأخير يعني انخفاض أسعار الطاقة أسعارا استهلاكية منخفضة؛ و الأسعار المنخفضة في مضخات محطات الوقود – معدل ثمن مشروب “سبرايت” 51 سنت للتر – تُسعد مستعملي السيارات و شركات النقل.
أما بالنسبة لشركات النفط والغار فإن انخفاض سعر النفط يجبرها على التخفيض من استثماراتها، فقد أعلنت مثلا شركة الطاقة الجنوب إفريقية “ساسول” في الأسبوع الماضي إلغاء إنشاء محطة لها في “لويزسنيا”، وبعدها بيومين أعلن عملاق النفط “شيفرون” عن التخفيض في ميزانية بعض مشاريعه بقيمة 5 مليار دولار، فيما خفّض بعض المنافسين قيمة استثماراتهم المبرمجة إلى النصف. وتجدر الإشارة إلى أن هذه التأثيرات لم تقتصر فقط على شركات الطاقة، بل شملت كذلك الصناعات المتعلقة بها، مثل صناعة الأنابيب والصهاريج والمحطات. وفي نفس السياق أوقفت شركة “يو آس ستيل” (“الأمريكية للفولاذ”) مصنعا في “أوهايو” وسرّحت 640 عاملا.
أما في تكساس فقط كان التراجع أكثر وضوحا، إذ تراجع “مؤشر نشاط تكساس” الذي يعتمده بنك “دالاس” في حساب الأنشطة الإقتصادية في هذه الولاية آخر مرة في يناير بما يقارب 4.4 نقاط بعد أن كان يؤشر إلى 3.5 إيجابي في ديسمبر. و قال الخبير “بروسكا”: “إنها علامة خطر؛ لقد ساهمت تكساس بقوة في ارتفاع مستوى التشغيل في الولايات المتحدة”.
بالتوازي مع الدولار القوي ستزيد صدمة النفط من التأثير سلبيا وأكثر من المتوقع على الاقتصاد الأمريكي، وهنا لن تكون فرحة البعض في محلها، لأن ركود اقتصاد أمريكا يؤدي إلى مزيد اختفاء حظوظ النمو في أوروبا.
المصدر: زايت الألمانية