في نوفمبر من عام 2012، قمت بحضور مؤتمر في فندق ترايدنت في مومباي، وكنت أحد الأمريكيين القلائل الذين حضروا هذا المنتدى الذي كان برعاية منظمات الأعمال الهندية والصينية البارزة، وكان موضوع المنتدى يتمركز حول التكامل المالي الأسيوي.
بالنسبة لي، فقد كان هنالك شيء ما يزعجني بكوني الأمريكي الوحيد في مؤتمر يناقش النظام المالي في بقعة من مومباي – الهند وعلى ضفاف نهر ميثي، وإنني على ثقة بكمون سبب ورمزية عميقة خلف وجود هذه الحفنة “البائسة” من الأمريكيين الذين كانوا معي للاستماع إلى أكبر مضاربي الصين والهند واليابان، في نقاش يبحث في كيفية إعادة تشكيل النظام المالي لكامل أسيا.
بشكل عام، يمكننا القول إن الولايات المتحدة هي المُهيمنة على الاقتصاد العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية وحتى الآن، وهذا المركز الأمريكي هو نتيجة ثانوية للدور الفريد الذي يلعبه الدولار الأمريكي في سوق الاقتصاد العالمي، فضلاً عن أن سيطرة الولايات المتحدة على أهم المؤسسات العالمية المختصة بالخدمات المالية، هي من بين أهم العوامل الأخرى التي مكّنت أمريكا من التربع على عرش الاقتصاد العالمي.
ولكن على الرغم من الاستبداد الأمريكي في الحكم المالي الذي استمر على مدى العقود الماضية، لا ينبغي على الأمريكيين أن يتفاجأوا في حال ظهرت قوى منافسة لمركزهم في السوق الاقتصادية؛ فبغض النظر عن الدلالات الرمزية العميقة التي يمكن أن تحملها الاجتماعات مثل اجتماع التكامل المالي الأسيوي، يمكن اعتبار أن هذه الاجتماعات هي ثمرة للجهد الأسيوي الذي تم بذله منذ الأزمة المالية الأسيوية في أواخر التسيعينيات، وهذه الجهود لم يتم اختراعها في الصين لوحدها، على الرغم من أن الأخيرة سعت للاستفادة منها لصالحها، ويمكننا القول إن بذل الجهد وعقد الاجتماعات التطويرية سوف تبقى السمة الدائمة للواقع السياسي والاقتصادي في أسيا، ومن شبه المؤكد أن هذا الاقتصاد سوف يشكل تحديًا تنافسيًا متزايدًا على قيادة الولايات المتحدة الاقتصادية في مناطق المحيط الهادئ.
واشنطن مجبرة على قبول هذا التحدي، وعليها في بادئ الأمر أن تتكيّف وتتحضر لهذه المنافسة، وهذا التحضير سيتطلب بشكل أولي، فهمًا واضحًا وعميقًا لجذور التغيير في أسيا، وبكلمات أبسط لا يمكن للولايات المتحدة أن تنجح في سعيها لمنافسة أسيا سواء في الأمور الجيوسياسية أو في الأعمال التجارية، ما لم تفهم بشكل صحيح جذور ومصادر هؤلاء المنافسين في المقام الأول.
أسيا الجديدة بالأفكار القديمة
لقد أصبح من المألوف أن تنسب جهود بناء النظام الاقتصادي والمؤسساتي في عموم أسيا للإصرار الصيني، أو بتعبير أدق للطموح الصيني، ولكن في الواقع، إن هذه الرواية المتواترة هي طريقة مبسّطة لشرح جزء من القصة فقط، كون الاقتصاد الأسيوي الإقليمي المعاصر، نجم عن الرغبة في إحداث الوحدة والتعاون فيما بين التنوع الهائل الموجود في الإقليم الأسيوي، وبناء هذا الاقتصاد الإقليمي تم في جميع أنحاء أسيا وليس فقط في الصين وذلك على مدى عدة عقود سابقة.
فمثلاً، اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت طوكيو تعتبر الحليف المقرب من الولايات المتحدة، كما أنها تمتلك قوة لا يستهان بها في مناطق المحيط الهادئ، حتى وصل الأمر بالبعض للقول إن اليابان والولايات المتحدة ينبغي أن تتشاركا للقيام بثورة مضادة ردًا على الطموح الصيني المفترض، الذي يسعى لإنشاء هوية اقتصادية قومية أسيوية، ولكن على الرغم من أن أمريكا واليابان تتشاركان التخوف حول نوايا بكين، إلا أن اليابان حضنت لفترة طويلة مجموعة متنوعة من الأفكار والأيديولوجيات التي تهدف لإنشاء حركة اقتصادية في عموم أسيا، وخاصة فيما يتعلق بالتكامل النقدي، حيث كانت اليابان هي المسؤولة عن اقتراح إنشاء صندوق النقد الأسيوي في عام 1997، وهو الاقتراح الذي مهّد لبزوغ مبادرة شيانغ ماي، الذي تتضمن مقايضة العملات الثنائية بين دول جنوب شرق أسيا ودول شمال شرق أسيا.
لم تكن اليابان وحدها ضمن هذا المسعى؛ فالأزمة المالية التي اجتاحت أسيا بين عامي 1997- 1998 تركت آثارًا مدمرة على العديد من البلدان الأسيوية، من أندونيسيا إلى تايلاند، وحينها كان يُنتظر من الولايات المتحدة أن تُنقذ بعض الدول الأسيوية من أزمتها، خاصة بعد أن أنقذت المكسيك عام 1994 من أزمتها المالية، ولكن تبين نتيجة للأزمة بأن أمريكا هي دولة منفصلة ومنعزلة عن الواقع الأسيوي، حيث كان دورها يقتصر على إملاء الحلول القديمة فقط، وتعززت هذه الصورة عندما رفضت واشنطن مساعدة تايلاند بعد ثلاث سنوات فقط من مساعدة المكسيك، وردًا على ذلك، بدأت الدول الأسيوية تلتمس حلولاً خاصة بها، وكانت أغلب هذه الحلول تطرح أفكار ومقترحات تستبعد الولايات المتحدة، وتخرج عن الحدود الداخلية لتصبح حلول إقليمية، مثل حل مقايضة العملة الأسوية (مبادرة شيانغ ماي)، وحل التجارة واتفاقات الاستثمار الأسيوية، وصناديق السندات الإقليمية، وغيرها من الحلول التي تشمل تغطية كامل الإقليم الأسيوي.
إن أغلب الأفكار الأسيوية مبنية على المفاهيم والأطر القائمة والموجودة، وفي كثير من الأحيان، تعتمد الأفكار الاقتصادية على الكيانات الإقليمية متعددة الأطراف، مثل كيان اتحاد دول جنوب شرق أسيا (أسيان)، حيث تم بناء عدة اتفاقات ارتكازًا على هذا الكيان مثل اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، وهو الاتفاق المنافس لاتفاقية واشنطن للتجارة الحرة، حيث يشمل اتفاق (RCEP) أعضاء دول الأسيان زائد ستة دول إقليمية أخرى هي أستراليا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا، ولكنه لا يشمل الولايات المتحدة، كما نجم عن أسيان أيضًا اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، فضلاً عن أن التعاون الأسيوي أنتج اتفاقات ومؤسسات أخرى، من بينها قمة شرق أسيا، التي انضمت واشنطن إليها مؤخرًا، ومجتمع أسيان الاقتصادي.
أسيا الجديدة وقواعد اللعب الجديدة
في تسعينيات القرن الماضي وعندما كان التعاون الأسيوي لايزال في بداياته كان من الممكن لواشنطن ببساطة أن تسحق هذا الإقليم الوليد، عن طريق التعاون مع مجموعة السبع (مجموعة اقتصادية تتضمن الدول السبع الصناعية الكبرى في العالم وهي كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية)، ولكن حقبة التسعينيات ولّت بغير رجعة، وهي مختلفة عن الواقع الحالي، فالتعاون الأسيوي الآن يشكل تحديًا أكثر صرامة مما مضى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تغيّر الإطار الذي تعمل فيه هذه الدول.
على الرغم من أن الولايات المتحدة هي وجه اقتصادي مهم جدًا في الاقتصاد العالمي، إلا أن هذه الأهمية لم تعد – نسبيًا – بذات الحجم الذي كانت عليه في عام 2008، كما أن هذه الأهمية تناقصت بشكل واضح منذ عام 1998؛ فالأزمة المالية لعام 2008 أنهت عقدًا من التحكم الصارخ للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، حيث جاءت هذه الأزمة بالضبط بعد عشر سنوات من الأزمة الأسيوية؛ مما أدى إلى تأجيج النقاشات الأسيوية التي تحتج على الاعتماد المفرط على الاقتصادات الغربية الواهنة، والتي تعد أهم أسواق التصدير التقليدية للمنطقة الأسيوية.
ويمكننا تلخيص أهم التغيرات التي طرأت على السوق الأسيوية خلال الفترة الماضية بالآتي:
التغير الأول: الاتجاه نحو السوق الداخلية
بعد خروج أسيا من أزمة عام 2008، اشتدت المناقشات حول مدى ضرورة التحوط الإقليمي – أو الحذر – ضد التقلبات المستمرة المستقبلية التي ستشهدها السوق الغربية، وفي ذات الوقت، عمدت الكثير من الدول الأسيوية إلى تكريس اقتصادها نحو الطلب المتزايد في السوق الداخلية بدلاً من توجيهه نحو الصادرات الخارجية، وهذا الوصف ينطبق على الصين التي قامت بعد الأزمة بتنمية استثماراتها في الأصول الثابتة عن طريق الاستفادة من قيمة صادراتها التي بدأت في الفترة الأخيرة بتخفيضها، كما أن نموذج الاتجاه نحو الداخل واضح في أماكن أخرى أيضًا، مثل كوريا الجنوبية، والتي تلقت ضربة موجعة في أسواق التصدير التقليدية بالنسبة لها، نتيجة لانخفاض قيمة الين والتقلبات التي شهدها السوق.
التغير الثاني: تغيّر علاقة الاقتصاد الأسيوي بالسوق العالمية
على مدى عقود عمدت مجموعة السبع إلى تغيير المسار الاقتصادي وتحويره عن أسيا، ولكن الآن تغيرت علاقة الاقتصاد الأسيوي بالاقتصاد العالمي بشكل كبير؛ فحاليًا تعتمد كثير من الاقتصادات الغربية بشكل متزايد على المستهلكين الأسيويين، لذا أصبحت البلدان الأسيوية أكثر من مجرد بلدان للتجارة، فهي بلدان تشارك في البناء والإقراض والاستثمار وفي بعض المناطق، تعتبر هذه البلدان محركًا للنمو الاقتصادي.
للتوضيح، دعونا نأخذ على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية: منذ بداية الستينات عمل الطلب الأمريكي المتزايد على السلع الأسيوية على دعم القطاعات الأسيوية التي تعتمد على واردات التصدير، حيث استوردت أمريكا الإلكترونيات الدقيقة من اليابان وكوريا، واستوردت المطاط من تايلاند، والمنسوجات من فيتنام، ولكن الأسيويين بدورهم أصبحوا من كبار المستهلكين لكل الصادرات الأمريكية تقريبًا، بما في ذلك الذرة وفول الصويا (لتغذية الحيوانات)، ولحم الخنزير (للاستهلاك البشري)، والغاز الطبيعي (لتغذية محطات الطاقة).
التغير الثالث: الاقتصاد الأسيوي مصدر لرأس المال
أسيا هي الآن مصدر لرأس المال، وليست مجرد متلقي لرأس المال، الأسواق المالية تتشكل حيثما تتركز رؤوس الأموال، وأن الأسيويين أصبحوا الآن يشترون حصصًا وأسهمًا في الشركات الأسيوية وفي شركات الولايات المتحدة وأوروبا أيضًا، وعملت هذه التدفقات النقدية الصينية واليابانية والكورية عبر أسيا، على التسريع من إعادة تركز رأس المال.
للتوضيح، دعونا نأخذ كازاخستان، وهي عضو مؤسس في بنك الاستثمار الأسيوي للبنية التحتية (AIIB) المدعوم من قِبل بكين، حيث عوّلت النخبة الاقتصادية في كازاخستان لزيادة رأس المال على لندن والبلاد الغربية منذ فترة طويلة، ولكن مؤخرًا تحولت المصالح المالية والصناعية الكازاخستانية للنظر نحو الشرق، لأن الشرق هو مصدر رأس المال، كما قال حاكم المصرف المركزي الكازاخستاني السابق غريغوري مارتشينكو.
التغير الرابع: خروج الدول الأسيوية من مظلة الاتفاقات الاقتصادية الغربية
إن الدول الأسيوية الناشئة اقتصاديًا مثل الهند والصين، لم تعد ترضخ للركون بصفة دائمة ضمن البيئات الاقتصادية التي بنتها – إلى حد كبير – الدول الغربية؛ ففي عام 2000 كان إجمالي الناتج المحلي (الإسمي) في الصين 1.2 تريليون دولار وبحلول عام 2014 أصبح هذا الناتج 10 تريليون دولار، وبالمثل كان الناتج المحلي الإجمالي (الإسمي) للهند في عام 2000 حوالي 463 مليار دولار، وفي عام 2013 تجاوز هذا الرقم مبلغ 2 تريليون دولار؛ إذن من غير المستغرب أن تكون هذه البلدان التي نما اقتصادها بواقع عشرة أضعاف خلال السنوات الماضية، غير راغبة بالاستمرار في الخصوع لترتيبات مؤسساتية كانت سائدة قبل عقد من الزمن.
ثار الكثير من الجدل مؤخرًا حول الجهود الصينية والهندية لإنشاء مؤسسات مالية جديدة، فالهند انضمت كعضو مؤسس في بنك الاستثمار الأسيوي للبنية التحتية (AIIB)، كما عملت على دعم قمة وبنك وصندوق طوارئ البريكس، وعملت بذات الوقت على شراء الحصص والأسهم المعدلة في مؤسسات بريتون وودز التابعة لواشنطن، هذه السياسة الثنائية التي تدعم بناء المؤسسات الجديدة وبذات الوقت تدعم المؤسسات القائمة اتبعتها الصين أيضًا، حيث قامت بإعطاء 41 مليون دولار لصندوق الطوارئ دول البريكس في عام 2014، وبذات الوقت أعطت مبلغ 43 مليار دولار لتجديد موارد صندوق النقد الدولي في عام 2012.
التغير الخامس: الارتفاع الصيني
الصين التي تتطابق سياساتها الخارجية مع سياساتها الاقتصادية، أصبحت من أكبر اقتصاديات العالم، حيث تمتلك هذه الدولة 4 تريليون دولار كاحتياطي من النقد الأجنبي (هذا المبلغ أكبر من الناتج المحلي الإجمالي (الإسمي) لكل من الهند وكوريا الجنوبية وتايلاند مجتمعين) ووفرة رأس المال التي تتمتع بها بكين أصبحت امتدادًا لسياستها الخارجية، حيث رصدت بكين (وأنفقت) مبالغ هائلة من المال، للاستفادة من المؤن المالية المدعومة من قِبل الدولة لأغراض دبلوماسية واقتصادية، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الصين هي أكبر مصنّع وتاجر في العالم من حيث القيمة المضافة الإجمالية، كما أنها تمتلك 17 ميناء من أكبر موانئ الشحن في العالم.
هذا الوضع أدى إلى إحاطة بكين بالمنافسين، فضلاً عن كونها ضحية للجغرافيا الإستراتيجية التي توجد ضمنها، لذا حاولت الصين الاستفادة من ظروف الجغرافيا الاقتصادية المواتية لها؛ حيث عملت على استغلال المنطقتين ظروف جيرانها، حيث إن المنطقة الأولى التي تتاخمها تتميز بكثرة اليد العاملة ونقص رأس المال (وسط وجنوب أسيا)، أما المنطقة الثانية المتاخمة لها فتتميز بوفرة رأس المال وضعف اليد العاملة، وهذا الوضع جعل الصين الملاذ المناسب للتشغيل من كلا الجانبين.
يقال، إن الصين يمكن أن تستعمل على نطاق أسيا ذات السياسة التي تستعملها الولايات المتحدة على النطاق العالمي، وهذه السياسية تتمثل بكونها الملاذ الأخير للإقراض، ومع تزايد الاستخدام العالمي لليوان الصيني في المعاملات التجارية، فقد تصبح هذه السياسة أداة لإكمال بناء الهيكل المالي الذي يخدم مصالح بكين.
واشنطن إلى أين؟
الولايات المتحدة لديها تاريخ طويل وعلاقات متجذرة وعميقة ومصالح إستراتيجية واقتصادية حيوية في منطقة المحيط الهادئ، ولكنها الآن يجب أن تواجه السياسة الإقليمية الأسيوية التي بزغت فيما بعد أزمة عام 2008.
المشكلة الأولى تتمثل بأن واشنطن لا يمكنها ببساطة أن ترفض كل فكرة تتضمن التجمع الأسيوي الإقليمي، وذلك بغض النظر عن مدى الاستياء الذي تشعر به أمريكا جرّاء استبعادها من بعض الاجتماعات والنقاشات والاتفاقات، كون هذه المواثيق والمؤسسات الآسيوية استطاعت على مدى العقدين الماضيين تلقي الدعم ليس فقط من العواصم الأسيوية، بل حتى من البلدان التي تعتبر ضد سياسة الصين الاقتصادية والتي تعتبر من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها.
أصبح من شبه المؤكد أن إستراتيجية الرفض الأمريكية التي تواجه بها الاقتصادات الأسيوية سوف تأتي بنتائج عكسية، وواشنطن مهددة بخطر الظهور بمظهر المنافق عندما تعمد على الإصرار أنه يمكنها أن تسعى لتطبيق اتفاقية النافتا (اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا) أو لتطبيق اتفاقية منطقة التجارة الحرة في الأمريكتين (FTAA)، وبذات الوقت تزعم أن الدول الأسيوية لا يمكنها متابعة تطبيق الاتفاقيات الإقليمية الخاصة بها، وهذا الواقع المتناقض يزداد حدة في ظل أن بعض التشكيلات الأسيوية أصبح من غير الممكن تجنبها، حيث ستمضي هذه التشكيلات قدمًا في تطبيق خياراتها بغض النظر عن وجهات نظر واشنطن وأفضلياتها، لذلك يجب على الولايات المتحدة التعامل مع بعض الأمور المستحدثة عالميًا مثل المؤسسات الإقليمية الأسيوية، بذات الطريقة التي تتقبل بها واشنطن التعامل مع المؤسسات الأوروبية.
وحاليًا يجب على صناع السياسة الأمريكية الإجابة عن ثلاثة أسئلة هامة:
السؤال الأول: ما هي الاتفاقيات الأسيوية التي يمكن للولايات المتحدة أن تتعايش معها، وما هي الاتفاقيات التي تقوض المصالح الحيوية للولايات المتحدة؟
المجموعات التي يجب على أمريكا التخوف منها هي تلك التي تسعى لتحقيق أجندات وظيفية ضارة بأمن وازدهار وفرص سوق العمل في الولايات المتحدة، وهنا، يجب على واشنطن التمييز بين ما يجب أن يكون وما هو كائن فعلاً؛ فعلى سبيل المثال اتفاقيات التجارة الأسيوية التي لا تسمح للتكنولوجيات الأجنبية بالمرور بدون تعرفات جمركية يمكن أن تحبط جهود الولايات المتحدة لبناء بنية اقتصادية أكثر انفتاحًا، وعلى النقيض من ذلك، فإن بنك البنية التحتية الأسيوي الذي يموّل مد الجسور وفتح الطرقات وإنشاء خطوط السكك الحديدية ليس له طبيعة إقصائية، خاصة وأن الشركات الأمريكية يمكن أن تستفيد أيضًا من تحسين البنية التحتية في ظل أن واشنطن لا تمول مشاريعًا على نطاق واسع في الجانب الأسيوي؛ لذا يجب على أمريكا التعامل مع المؤسسات أو المواثيق أو الاتفاقيات التي تقوض مصالحها الحيوية، بمجموعة من الأدوات والقرارات المتينة والمتماسكة، مثل منع شركاء الولايات المتحدة الماليين من الاشتراك بهذه المؤسسات أو الاتفاقيات تحت طائلة المعاملة بالمثل.
في كلتا الحالتين، واشنطن بحاجة للتماسك الإستراتيجي والتكتيكي لتنفيذ هذه الخطوات، وحاليًا أمريكا تفتقد لهذين الخيارين؛ فعلى سبيل المثال، غضبت إدارة أوباما في ولايتها الأولى من استبعاد الولايات المتحدة من قمة شرق أسيا، حيث اعتبرت الإدارة الأمريكية أن هذه القمة تهدد مصالح الولايات المتحدة، وعملت حينها على تشجيع أستراليا للانضمام للمجموعة، وحثت حلفائها على التعامل بحزم معها، وفي نهاية المطاف انضمت واشنطن ذاتها للمجموعة، أما بالنسبة لبنك الاستثمار الأسيوي للبنية التحتية (AIIB)، فأيضًا عمدت واشنطن على حث حلفائها على عدم التعامل معه، وقامت هي ذاتها بمقاطعته، على الرغم من أنه لا يشكل تهديدًا للمصالح الأمريكية، ومن هنا يتوضح أن واشنطن ليس لديها إستراتيجية واضحة لتحديد كيفية اتخاذ قراراتها من السوق الأسيوية.
السؤال الثاني: ما هي الأفكار الأسيوية التي يمكنها تكملة نهج الولايات المتحدة الاقتصادي، وما هي الأفكار التي تهدف لتحل مكانه؟
بداية، لا بد من الاعتراف أن المقاربات الكبيرة يمكن أن تنبع من البدايات الصغيرة، ولكن من الناحية العملية، فإن الطريقة التي يعمل بها السوق العالمي والإقليمي حاليًا لن تبقى على حالها إلى الأبد؛ فلو كان أسلوب تصميم السوق الحالي قد بلغ ذروة الكمال، لن يكون هناك أي دافع أو سبب للابتكار؛ لذا فإن واشنطن مجبرة على التعامل مع المشاريع الأسيوية التي تحقق تكاملاً مع الهياكل الاقتصادية القائمة حاليًا، وعلى الأرجح يمكن اعتبار صندوق احتياطي الطوارئ الأسيوي وبنك الاستثمار الأسيوي للبنية التحتية ضمن هذه قائمة أفضل الخيارات.
السؤال الثالث: ما هي الأدوات التي ستعتمدها واشنطن للتغلب على السياسات الاقتصادية التي تقف بوجهها؟
واشنطن لا يمكنها مواجهة السياسيات الاقتصادية الأسيوية وهي خالية الوفاض، لذا عليها اتخاذ خطوات لتحديد قواعد اللعبة الجديدة، وفي هذا المجال يبرز اتفاق الشراكة الاقتصادية الإستراتيجية عبر المحيط الهادئ (TPP) كمثال واضح على تحديد القواعد، فإذا كانت اتفاقيات مثل اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) تهدد مصالح الولايات المتحدة، فهذا يجب أن يشكل سببًا إضافيًا لوضع ثقل حكومة الولايات المتحدة لدعم اتفاق (TPP)، وأيضًا يتوجب على الولايات المتحدة تغيير قراراتها لدعم بنك الاستثمار الأسيوي للبنية التحتية.
ولكن فوق كل الاعتبارات واشنطن تحتاج إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية والاقتصادية الخاصة بالعلاقات الأسيوية، ليس فقط بهدف إعادة التوازن الاقتصادي مع أسيا، بل لتشجيع نظام السوق المفتوح الليبرالي في المنطقة، ولتحقيق هذه الغايات يجب على واشنطن أن تضمّن جدول أعمالها توسيع معاهدات الاستثمار الثنائية مع الصين والهند؛ وتحقيق شراكات مع القطاعين العام والخاص تهدف إلى إدخال الولايات المتحدة في مشاريع تطوير البنية التحتية في جنوب شرق آسيا، ويمكن أن تشمل هذه الشراكة التعاقد على اتفاقات قطاعية (كقطاع الخدمات والقطاعات ذات الصلة بالتكنولوجيا على سبيل المثال)، كما يجب على واشنطن تعزيز التعاون مع حلفائها مثل اليابان وكوريا الجنوبية، فضلاً عن أن محاولة إجراء إصلاحات في المؤسسات المالية الدولية يمكن أن تساعد أمريكا على تحقيق أهدافها في السوق الدولية.
بطبيعة الحال، فإن الولايات المتحدة لا تسعى من خلف هذه التغييرات لأن تكون القوة الوحيدة في منطقة المحيط الهادئ، بل يمكن أن تعمل هذه الإجراءات كموازن إستراتيجي أساسي، لتعديل وضع الولايات المتحدة في المنطقة؛ فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تكن تخشى في يوم من الأيام وجود منافس معها في السوق الدولية، إلا أنه للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة، يجب على أمريكا التكيّف مع الخطوط العريضة للتغيرات الاقتصادية الأسيوية.
المصدر : فورين أفيرز