من وسط ركام المدن المتناثر، وأشلاء الضحايا المترامية، وحبات الرمل التي باتت معجونة بالدماء تدخل الأزمة الإنسانية في سوريا منتصف عامها الثالث والإنسان السوري يئن ألماً ووجعاً، جوعاً وقهراً، إلا من أمل يبرق في عيني طفل وامرأة وشيخ طاعن في السن يجلس على بقايا ركام بيته المتناثر لعل أحداً يسهم في إعادة الحياة إلى ما كانت إليه أو أفضل حالاً.
منذ أن اندلعت الثورة السورية في منتصف آذار / مارس عام 2011 اتجهت عيون المؤسسات والهيئات الإغاثية نحو سوريا في خطوة نحو إغاثتها وبدء خطوة في العمل الإنساني هناك، وفي بداية الأمر كانت المهمة ضرباً من الخيال حيث كان المسعف أو المتطوع الإغاثي هو في مرمى قناصة النظام كما هو المقاتل، فالكل في عين القاتل حينها سواء؛ من يعمل للحياة فهو مجرم، فسوريا أعلنتها القوات الحكومية ساحة للموت عقاباً لمن طالب بالحرية والكرامة.
ومع استمرار القتل والدمار زادت الحاجة للإغاثة والأعمال الخيرية الإنسانية وهذا ما دعا إلى إيجاد مؤسسات مجتمع مدني تعمل في هذا المجال داخل سوريا وخارجها تتخصص في إغاثة السوريين سواء كانوا داخل الحدود أو في دول الشتات المجاورة التي نزح إليها السوريون هرباً من القتل والموت أو الاعتقال أو التغييب القسري، أو حتى الاغتصاب بالنسبة للنساء.
اليوم – بعد سنتين ونصف من بداية هذه الجهود الإغاثية – المشهد الإغاثي في مجمله لا يزال في ذات المجال مع اتساع لكمية الاحتياج وكمية الإغاثة، وبالرغم من الجهود الدولية المبذولة إلا أنها في كثير منها بقيت مرتبطة بأجندات سياسية تزيد تلك المعونات وتضعف تبعاً للهوى السياسي، وهذا ما دعا بطبيعة الحال إلى تكثيف الجهود الشعبية التي لم ترقى لسد جزء بسيط من الاحتياج اليومي المتزايد، فأعداد النازحين في الداخل ممن هجروا قراهم وديارهم بحسب تقديرات الجهات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة تجاوزت أربعة ملايين ونصف شخص، إضافة إلى مليوني شخص هاجروا إلى الدول المحيطة بينهم مليون طفل على الأفل.
إن طول مدة الأزمة يحتم على العاملين في المجال الإنساني البدء بالتفكير بطرق أخرى للإغاثة تضمن ديمومتها، وتعمل على إعادة بناء الإنسان الذي تعرض للتدمير جزئياً أو بأحسن أحواله تعرضت معنوياته لشظايا أجهضت كثيراً من طموحاته وتطلعاته، ولعل هذا المقال يحاول أن يضع بعض النقاط التي يمكن أن تقود إلى رؤية جديدة لخارطة العمل الإنساني في سوريا.
1- لا تنظر بعين واحدة
تشير التقارير الميدانية إلى تحرر ما يزيد عن 60% من الأرض السورية وانتقالها إلى ما يشبه حكماً إدارياً ذاتياً، إضافة إلى تقلص سيطرة جيش النظام السوري على كثير من المناطق نظراً لطول المدة وتقلص الأعداد، وهذا ما يدعو إلى إعادة النظر لتشكيل خارطة عمل إنساني جديدة لسورية تتجاوز حدود الإغاثة العاجلة في كثير من المناطق إلى مشاريع تخدم الإنسان، وهذا يتأتى وينتج من تلاشي الرؤية الواحدة لكافة المناطق السورية على أنها مناطق صراع ينعدم فيها الأمن، وترزح تحت تهديد المواجهات، إلى رؤية كل منطقة بشكل مستقل عن المناطق الأخرى لها ظروفها الخاصة المتعلقة باستقرارها وسير الحياة فيها، مع الأخذ بالاعتبار بقاء إمكانية تعرض جميع المناطق السورية لهجمات جوية إلى حين فرض غطاء جوي أو ما شابه.
2- انطلق إلى ما بعد الحدود
من الملاحظ في عمل كثير من المنظمات الإقليمية والدولية وحتى العربية والإسلامية التي تعمل في مجال الإغاثة في سوريا أنها توصل المساعدات التي تود إيصالها إلى المعابر الحدودية فقط، ومن ثم تسلمها للجمعيات في داخل سوريا بدون التحري عن ما بعد ذلك، بالرغم من الأهمية الكبرى لمرحلة التنفيذ التي تمثل الجزء الأكبر من عملية الإغاثة، وهذا كان له ما يبرره في الفترات السابقة.
في الوقت الحالي يمكن لكثير من المنظمات أن ترافق الجمعيات والجهات التي تنفذ في الداخل للتأكد من وصول المساعدات إلى مستحقيها خصوصاً مع توفر مناطق محررة في الداخل، والتسهيدلات التي توفرها بعض دول الجوار لدخول المنظمات الإغاثية لممارسة مهامها على الوجه المطلوب.
وهي خطوة ستساعد كثيراً في رفع مستوى الخدمة المقدمة؛ حيث أن وجود متابعة من هذا النوع ستمثل رقابة على عمل الجمعيات والجهات المنفذة، إضافة إلى كونها تكسر كثيراً من حواجز الرهبة لدى كل من المتبرع والمتلقي، وهذا سيساهم بتغذية راجعة إيجابية تساعد في دفع عجلة المهمة الإنسانية التي يمثلها كلا الطرفين.
3- تعامل مع خصوصيات المناطق
عندما نرى إلى خارطة سوريا كمنطقة صراع وحرب فإن توجهنا في العمل الإنساني سيتجه تلقائيا نحو إغاثة الطواريء والأزمات لإنقاذ المناطق المنكوبة، ولكن عندما نمعن النظر فإننا سنلاحظ ببساطة أن لكل منطقة اليوم – بعد حوالي عامين ونصف من الثورة والصراع – خصوصيتها من حيث الاستقرار وطبيعة الحياة، وحتى من حيث الموارد والاحتياجات.
وللوصول إلى إمكانية التعامل مع خصوصيات المناطق من الممكن تقسيم المحافظات السورية إلى عدة مستويات:
المستوى (أ): يمثل المناطق التي تم تحريرها بشكل كامل وتقع تحت إدارة محلية ذاتية منتخبة من أهل المنطقة، وهذه المناطق تشكل بحسب التقديرات ما نسبته من 60 – 70% من الأراضي السورية، وتتميز هذه المناطق أنها هادئة ومستقرة إلى حد كبير مع إمكانية تعرضها لبعض الغارات أو الضربات الخفيفة في فترات متباعدة قد تزيد عن شهر أو شهرين، وهي مناطق يناسبها تنفيذ مشاريع إعادة إعمار متوسط وخفيف للبنية التحتية، إضافة إلى مشاريع خدمية معيشية وثقافية وبيئية، كما يمكن تنفيذ مشاريع تحقيق دخل لأبناء هذه المناطق.
المستوى (ب): يمثل المناطق اللصيقة بمناطق الصراع، وهي المناطق البينية بين المناطق الهادئة والمناطق المشتعلة أو الساخنة، وتعرف بمناطق الخطوط الخلفية، وتشهد هذه المناطق فترات هدوء متقطعة، ويناسب هذه المناطق تنفيذ مشاريع إعادة إعمار خفيفة ذات تكاليف قليلة، إضافة إلى المشاريع الإغاثية الغير عاجلة، ومشاريع إمدادات وخدمات للخطوط الأمامية كمشافي ميدانية ومستوصفات ومخابز ومستودعات للمواد التموينية وما إلى ذلك.
المستوى (ج): تمثل المناطق المشتعلة أو ما تعرف بالمناطق الساخنة والمعرضة للقصف المستمر والصراع ما بين قوات النظام والثوار، ويناسب هذه المناطق مشاريع الإغاثة العاجلة، والمشافي المتنقلة، إضافة إلى توفير الأغذية الجاهزة وسريعة التحضير.
4- أمعن النظر قبل البدء
من الخصائص المهمة لتنفيذ برامج إغاثية وإنسانية ناجحة – سواء كانت إغاثات عاجلة أو بطيئة – هي المسح الميداني من خلال فرق بحث متخصصة تقوم برفع احتياجات المناطق المستهدفة قبل التنفيذ ليتم تصميم برامج تناسب وتلبي إحتياجات الفئات المستهدفة من تلك البرنامج.
وتتوفر اليوم طرق علمية متعددة أثبتت جدواها ونجاعتها من خلال أدوات بحث وأساليب متعددة تعتمد على العينات العشوائية أو العينات المنظمة لرفع الواقع، وهذا ما سيجعل كفاءة برامجكم الإغاثية أكبر، وأثرها على المدى القصير والمتوسط والبعبد أكثر، إضافة إلى انه سيبني لديكم قواعد بيانات أكثر دقة عن الفئات المستهدفة وإتجاهات الاحتياج وخطط الإنقاذ والتدخل التي تطمحون لها.
٥- من الإغاثة إلى بناء الإنسان
“رغيف الخبز لن يعيد بناء ما تحطم” انطلاقاً من ذلك كان لزاماً الإلتفات إلى الإنسان والاهتمام بتنمية وإعادة بناء ما تحطم داخله خلال الصراع، فهو العنصر الحضاري الذي يمكنه إعادة بناء ما حوله.
لا بد للعاملين في القطاع الإنساني في سوريا في الفترات القادمة التوجه نحو إعادة بناء الإنسان من جميع جوانبه الروحية والثقافية والاجتماعية لينتج جيل متوازن يستطيع تجاوز آثار الأزمة بسهولة ويسر، وهذا يستلزم البدء بالتخطيط لمشاريع تهتم ببناء الروح والثقافة كتفعيل دور المساجد والحلقات العلمية والدروس الدينية لما لها من أثر في الدعم النفسي والروحي ورفع للمعنويات، إضافة إلى إعادة بناء المنظومة التعليمية ودعم المشاريع التي تسعى لإعادة تفعيل التعليم من خلال تطوير مناهج التعليم وإعادة فتح المدارس، كما يستوجب توفير فرص معيشية من خلال تشجيع قيام مشاريع صغيرة ومتوسطة من خلال قروض ميسرة، وغيرها من المشاريع التي تساهم في إعادة الإنسان السوري لدوره الحضاري وتؤهله لمرحلة ما بعد سقوط النظام وزواله.
كما أنه من المجدي البدء بدعم مشاريع إعلامية محلية توجه المجتمع وتساهم برفع وعيه وسويته من خلال الإذاعات المحلية والنشرات والدوريات، إضافة إلى دعم المبادرات المجتمعية التطوعية التي تنمي شعور خدمة المجتمع والعطاء وتنشط في مختلف الجوانب الخدمية التي يحتاجها أهل حي أو منطقة أو مدينة معينة سواء كانت تعليمية أو طبية أو صحية أو ثقافية أو بيئية أو اجتماعية.
6- الاستدامة
مما يضمن استمرار التنمية والدورة الحضارية المرجوة هو إيجاد دوائر تأثير وعمل تضمن استدامتها، وهذا ما يستدعي أن يتم أخذه بالحسبان عند تصميم البرامج الإنسانية والتنمية من خلال وضع آليات لاستدامة هذه المشاريع والبرامج وديمومتها ونموها.
ولعل من أساليب الاستدامة الفعالة؛ المساهمة من خلال البرامج والمشاريع لإيجاد مؤسسات ومنظمات مجتمع مدني محلية في المناطق التي يتم تنفيذ المشاريع فيها بحيث يتم تأهيلها لتستمر بذات الدور بشكل مستدام، إضافة إلى دعمها لاحقاً لإنماء المشاريع وتطويرها، وهذا يتطلب جهوداً تنصب في مجال التدريب والتطوير بشكل مستمر وإيجاد شركاء محليين معتمدين في المناطق المختلفة لضمان استمرار الدور المنوط بهم.