ذكرنا في المقالات السابقة [1] معنى الاستغراب الذي نقصده، وقلنا هو “دراسة الغرب – أو موضوع متعلق به – دراسة أصيلة، انطلاقًا من المرجعية الإسلامية”، وموعدنا في هذا المقال واللذيْن بعده – إن شاء الله – مع رواد دراسة الغرب في التاريخ الحديث.
ولد قبل تولي محمد علي باشا بأربع سنوات، ودرس في الأزهر على مجرى العادة، فلما كان في شبابه كان عهد البعثات العلمية قد بدأ، فكان ضمن بعثة علمية إلى فرنسا قضت خمسة أعوام هناك (1826 – 1831م) فأتقن الفرنسية وقرأ أهم الأعمال الفكرية حينئذ، وسَجَّل هذه الرحلة في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، ولما عاد إلى مصر كان من أهم رجال الدولة في مجال التعليم والترجمة إدارة وإشرافًا ومتابعة، ثم حين مات محمد علي تغيرت الإرادة السياسية في عهد حفيده عباس، فنال الطهطاوي من ذلك النفي إلى السودان (1850م) بذريعة افتتاح مدرسة هناك، وكانت أيامًا عصيبة عليه، ثم عاد إلى مصر بعد أربع سنوات حين مات عباس وخلفه سعيد (1854م) فعاد للطهطاوي بعض قدره وشيئًا من أيامه لثمان سنوات قبل أن يتغير عليه سعيد فيفصله ويغلق مدرسة أركان الحرب التي كان مديرًا لها (1861م)، لكن لم تمض سنتان حتى مات سعيد وجاء إسماعيل (1863م)، وقد عاش الطهطاوي في زمن إسماعيل عشر سنوات ارتفع فيها شأنه وعادت له أيامه الأولى، وصار من واضعي المناهج التعليمية وعضوًا في عدة لجان، وكان له نفوذ توجيه المطبعة المصرية (مطبعة بولاق) إلى نشر أعمال بعينها مثل مقدمة ابن خلدون، وظل على هذه الحال حتى توفي (1873م) [2].
ويعدّ كتاب الطهطاوي “تخليص الإبريز” أول تقرير عربي وافٍ في موضوعه، فقد وصف اللغة والأدب والسياسة والقانون والعادات، حتى إنه سجل ميزانية ما ينفقه الفرنسيون على الطعام والشراب.
ورغم سعة علم الطهطاوي وغزارته يشعر المرء أحيانًا وهو يقرأ هذا الكتاب بالانقطاع الحضاري بينه وبين التراث الحضاري الإسلامي، فهو يتكلم أحيانًا عن أشياء في فرنسا وكأنها جديدة غير مسبوقة، بينما نقرأ في كتب تراثنا الحضاري وجودها قبل هذا بقرون طويلة، كما في حديثه – مثلاً – عن وجود تخصصات في الطب ووجود عيادات طبية [3] أو غيره، وهذا يدلك على ما غاب عن المسلمين من علومهم هم في فترات تخلفهم الحضاري.
ويمثل كتاب الطهطاوي هذا نموذجًا للعلاقة السوية مع الغرب، وللاستغراب الصحيح المؤسس على أرضية ثابتة من الفخر والاعتزاز بالإسلام، والمنضبط في انطلاقته بالعدل والإنصاف، ففي كتاب الطهطاوي نقد واضح لما في فرنسا من الكفر والعري والفحش وأخلاق مثل الكذب – خصوصا المنتشر في صحافتهم – والبخل وغيرها، وفيه كذلك ثناء على ما لديهم من العلوم والمعارف وعلى تنظيمهم لأمورهم السياسية والإدارية والصحية والعلمية، وعلى أخلاقهم في النظافة والبشاشة في وجه الغريب، والتزامهم بالقوانين في المحاكمات، وتقييدهم لسلطة ملكهم، وإقبالهم على القراءة والتعلم، وابتكار الجديد في صناعاتهم وغيرها. وكانت المقارنات حاضرة دائمًا في ذهنه بين ما يراه في باريس وما هو كائن في الشرق، حتى في التفاصيل، فندر أن يوجد معنى عند الفرنسيين في الشعر والأدب أو غيره إلا وساق عليه من شعر العرب وآدابهم ما يعضده أو يناقضه، وحتى تقييد سلطة الملك لامسه أيضًا وإن بلهجة أخف، فهو في النهاية تحت حكم الجبار محمد علي، ومثل ذلك فعله في المقارنة بين اللغة العربية والفرنسية ونحوهما وإعرابهما وأساليبهما اللفظية والمعاني التي لا تصلح للترجمة بين اللغتين وغيرها، وكتب بصريح العبارة عن ضرورة التأسيس الشرعي للمستغرب لما لدى القوم من ضلالات يقيمون عليها الأدلة التي يعسر على الإنسان الخالي من الدين ردّها، فقال: “فحينئذ يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة حتى لا يغتر ذلك ولا يفتر عن اعتقاده وإلا ضاع يقينه” [4].
وكان للطهطاوي نشاط كبير وواسع في الترجمة وتنظيم المدارس بعد عودته إلى مصر، حتى بعد أن نُفي إلى السودان لم يتوقف إنتاجه، ويدهش المرء لغزارة إنتاجه مع ما كان يحمله من أعباء إدارية وتعليمية متعددة، وظل وافر النشاط حتى وفاته، التي حلت عليه وهو يكتب سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وتأسيس الدولة الإسلامية في كتابه “نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز”.
وبالرغم من أن “تخليص الإبريز” كان أول مؤلفاته إلا أنه ظل أبرزها وأشهرها، لكن أهم كتبه -وهو من آخرها – والذي أودعه خلاصة فكره هو “مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية”، غير أن الفكرة التي ظلت مستقرة ثابتة يدافع عنها من الكتاب الأول للأخير هي استقدام الغربيين ومخالطتهم للانتفاع بما عندهم، ففي تخليص الإبريز يدافع عن تقريب محمد علي للأجانب قائلاً: “يلتجي إليه أرباب الفنون البارعة، والصنائع النافعة، من الإفرنج، ويغدق عليهم فائض نعمته، حتى إن العامة بمصر، بل وبغيرها، من جهلهم يلومونه غاية اللوم بسبب قبول الإفرنج وترحيبه بهم وإنعامه عليهم، جهلاً منهم بأنه – حفظه الله – إنما يفعل ذلك لإنسانيتهم وعلومهم لا لكونهم نصارى، فالحاجة دعت إليه” [5]، ويقول في مناهج الألباب: “مخالطة الأغراب، لاسيما إذا كانوا من ذوي الألباب، تجلب للأوطان من المنافع العمومية العجب العجاب” [6]، مع ثبات اعتزازه بالإسلام والشرع واتباع “الطريقة التقليدية، مستشهدًا في إثبات كل مسألة بالنبي والصحابة” [7].
————————————
[1] راجع:
نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج1)
نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج2)
انطلاقة “الاستغراب” وروَّاده الأوائل
[2] انظر في ترجمة الطهطاوي وآثاره: فانديك: اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ص407 وما بعدها، شيخو: تاريخ الآداب العربية ص134 وما بعدها، الزركلي: الأعلام 3/29، عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 2/168، وانظر مقدمة د. محمد عمارة محقق أعماله الكاملة 1/39 وما بعدها.
[3] الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن “الأعمال الكاملة” 2/154، 155. ومنذ منتصف القرن الثالث الهجري روى الطبري ما يفيد وجود عيادات طبية خاصة ومتخصصة أيضا (تاريخ الطبري 5/646).
[4] الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن “الأعمال الكاملة” 2/186، 187.
[5] الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن “الأعمال الكاملة” 2/24، 25.
[6] الطهطاوي: مناهج الألباب، ضمن “الأعمال الكاملة” 1/499.
[7] ألبرت حوراني: الفكر العربي ص 96.