ترجمة وتحرير نون بوست بتصرف
بدا مما جرى في العراق والشام العام الماضي أن أحدًا لا يمكنه أن يوقف زحف داعش، والتي تمددت في غضون أشهر لتسيطر على مساحات شاسعة بعد حملتها الناجحة في محافظة الأنبار، وضربتها لجيش المالكي، وسيطرتها على مدينة موصل؛ وهو ما دفع البعض للتكهّن بسقوط بغداد في وقت ليس ببعيد.
بيد أن داعش حاليًا قد بدأت في التراجع سريعًا كما تمددت سريعًا، لتثبت أن المخاوف التي بُثَّت عنها في كل مكان كان مبالغًا فيها، وأنها كيان هشّ أكثر مما اعتقد كثيرون، فداعش التي اعتمد صيتها بشكل كبير على وحشيتها في معاملة أعدائها وأسراها – أو على الأقل قدرة البعض على إبراز أفعالها باعتبارها وحشية مقارنة بأفعال أخرى مثيلة تجري برًا، عن طريق ميليشيات أخرى، وجوًا، عن طريق طائرات الدول الكبرى – قد ارتكبت في الحقيقة أخطاءً استراتيجية فادحة.
توسعّت داعش فجأة دون أن يتخيّل أحد أن كيانًا سنيًا يمكن أن ينشأ بتلك السرعة والجرأة، وبالتالي لم يكن أحد ممن استهدفتهم داعش في البداية على استعداد لمواجهتها لحظة ظهورها، لاسيما وقد عانت أطراف مثل جيش المالكي ضعفًا شديدًا، ولم تُختَبَر في معارك واسعة بهذا الشكل، ولكن أعداء داعش الآن، وبعد أشهر، يضعون داعش في حساباتهم، ويعرفون إمكانياتها، بشكل لم تعد يملك معه التنظيم الوليد القدرة على شن “هجوم الفجأة” كما في السابق، بل يملك فقط المال والأرض، مثله مثلهم.
أخطاء إستراتيجية
يسأل كثيرون كيف نجحت داعش في بناء تلك القوة في وقت قصير، وهي في الواقع لم تكن تلك قدرات داعش الوليدة فقط، ولكنها كتلة من المجموعات السنية التي تضم أعضاء سابقين بحزب البعث، وقطاعات واسعة من قيادات القبائل السنية، وهم حلفاء بدأت داعش مؤخرًا في محاولة إقصائهم ظنًا منها أنها تستطيع أن تمضي الآن منفردة بقوتها، لاسيما بعد إعلان الخلافة العام الماضي، والذي قال صراحة إن شرعية الدول الجديدة تُنهي بشكل تلقائي شرعية أي كيان أو مجموعة ودولة كائنة على أراضي الدولة.
ليس أدل على ذلك من الاصطدام بالبعثيين في الموصل في يوليو الماضي، وهو اصطدام أدى لمشاكل بالنسبة لداعش لأن البعثيين كانوا يديرون الشؤون اليومية في المدينة ويحكمونها فعليًا منذ خروج قوات المالكي، وكان القبض على الكثير منهم من قِبَل داعش واحدة من أبرز أسباب تدهور الخدمات العامة سريعًا، والتي لا تملك داعش خبرة توفيرها.
بالإضافة إلى محاولة إقصاء عناصر داخل المعسكر السني لم تملك لها داعش حتى اليوم بديلًا، قامت داعش في أغسطس بخطأ آخر وهو الاصطدام بكردستان العراق، والتي كانت تعاني أصلًا من مشاكل مع بغداد، ولربما وقفت على الحياد لو اقتصر توسّع داعش على العراق وسوريا، ولكن الدخول الواضح إلى الأراضي الكردية، بل ومحاولة إبراز صورة عنيفة بما فعله التنظيم في اليزيديين دفع البشمركة إلى الاصطدام من ناحيته للحفاظ على الأراضي التي يحكمها فعليًا، وبدلًا من أن تنأى إربيل بنفسها عما يجري، اضطرت للدخول في المواجهة، واستفادت بطبيعة الحال من الناحية المعنوية والدعائية كونها جزءًا من “حرب على الإرهاب”.
الحرب على الإرهاب بحد ذاتها لم تكن حتمية على الإطلاق، وكانت داعش قادرة على تفادي استعداء الغرب، أو على الأقل استعداء الشارع الغربي بأكمله، لو لم تمض في عمليات الإعدام المصوّرة للصحافيين والنشطاء بالشكل المروّع الذي قامت به، والذي زوّد حملة الغرب بالوقود الذي تحتاجه، بافتراض أن الغرب كان ليجد عودة السنة بأي شكل خطرًا على المنظومة الجديدة التي دشنها في العراق (وهو أمر صحيح إلى حد كبير).
أخيرًا، يأتي إعدام الصحافي الياباني مؤخرًا كخطأ أهوج آخر سيؤدي إلى توسيع دائرة أعداء داعش، وهم أعداء لا ناقة لهم ولا جمل مثل اليابان، بل وسيعزز من التحالف الغربي في مواجهة داعش، وتباعًا سيكون رصيدًا لدى أعداء داعش على الأرض، لاسيما المحور الإيراني.
لم تكن داعش بحاجة لأعداء لا من الأكراد، ولا من الشارع الغربي، ولا في أسيا واليابان، وكان يكفيها أن تتوسع ببطء أكثر بالتركيز على النظام العراقي وأي محاولة أمريكية لمقاومة تلك الانتفاضة السنية التي بدأت العام الماضي، وهي مقاومة لم تكن لتجد صدى في الشارع الغربي الذي فقدت فيه واشنطن مصداقية كبيرة، لولا الوحشية التي أبرزتها داعش دون مبرر، ودون منطق.
كل ذلك لم يُفقِد داعش أطرافًا كانت يمكن أن تكون محايدة فقط، بل وأفقدها أيضًا الرأي العام السني، والذي بدأ في رفع صوتها معارضًا في الموصل والأنبار، وحاول التمرّد على حكم داعش في دير الزور – وهي محاولة نجحت داعش في قمعها-، أضف إلى ذلك أن الاستمرار في الحُكم المنفرد دون خبرة الإدارة سيكلّف داعش الكثير في منطقة تعاني منذ سنوات من سوء الخدمات العامة، وكانت تلك أصلًا واحدة من أسباب انتفاضتها العام الماضي.
التراجع الحتمي
لعل أبرز علامات تراجع داعش هو أنها توقفت مؤخرًا عن توسيع نطاق سيطرتها على الأرض، لتكون هيت هي آخر مدينة مهمة تقع في قبضتها قبل أن يتوقف قطارها حيث هو الآن (باستثناء السيطرة على قرى صغيرة بين الحين والآخر)، بل وتراجع القطار في مدن كان من المتوقع أن تسقط لداعش مثل كوباني، والتي نجح الأكراد في السيطرة عليها مؤخرًا، وكذلك في سنجار التي انسحبت منها رُغم احتوائها على واحدة من أهم خطوط الإمداد لداعش.
علاوة على ذلك، تعاني داعش حاليًا من انكماش في مصادرها المالية والعسكرية نتيجة الضربات الجوية الأمريكية، والتي استهدفت بالأساس منشآت وإمكانيات تكرير وتصدير النفط، ورُغم أن داعش لاتزال تصدر كميات منه عبر السوق السوداء، إلا أن أرباحها لا تساوي بالطبع أرباح بيعه في السوق العادية، ولا تساوي كذلك أرباح بين النفط بعد تكريره.
على المدى البعيد، ستعاني داعش أيضًا من افتقادها للكوادر التقنية المهمة لإنشاء قاعدة صناعية عسكرية تستطيع إدارة المصانع الحربية الموجودة في محافظتي نينوى وصلاح الدين، والتي لا يمكن إلا للبعثيين السابقين ربما تشغيلها، وهو ما يعني تباعًا عدم قدرتها على إنتاج السلاح الثقيل الذي تحتاجه أي دولة، خاصة في هذا الوضع وهذه المنطقة، والدول بطبيعة الحال لا يمكنها الاعتماد على الأسلحة القديمة والمغتنمة من المعارك لفترة طويلة، وهو ما فعلته داعش آخر مرة في أغسطس الماضي، ويجعل قدراتها العسكرية رهن ما يملكه أعداؤها، ورهن قدرتها على هزيمتهم والسيطرة على ذخائرهم.
أضف إلى كل هذا أن العامود الفقري لداعش حتى اليوم من المقاتلين القادمين من الخارج، وهو مدد سيقل مع الوقت حين يفتر الزخم الذي يتمتع به التنظيم الوليد، لاسيما وهو غريب أصلًا عن المكوّن الديمغرافي للعراق والشام؛ مما يُنذر في المستقبل بتوترات مع أهالي وقبائل العرب السنة الموجودين، في حين تتمتع مجموعات مثل جبهة النصرة بالاعتماد أكثر على الجهاديين الشوام؛ وهو ما يجعل زحفها بطيئًا ولكن أكثر قدرة على الاستدامة، وهو ما يدلل عليه مؤخرًا مكاسبها في إدلب وحماة ودرعا.
بينما يتمتع أي تنظيم بتحقيق النجاحات، سيجذب زخم الحراك الذي يُحدثه الأتباع إلى صفوفه، وبالتالي سيوسّع من قاعدته ليزيد من نجاحاته، وهكذا، ولكنها ليست عجلة بلا نهاية، فتنظيم كهذا سيصل في مرحلة معيّنة إلى كتلة حرجة ليصبح قادرًا على الاستدامة دون استمرار الزخم وتعزيز الصفوف، وهي مرحلة لم تصل لها بعد داعش، مما يعني أنها تظل في حاجة إلى ذلك الزخم، هكذا كتب الصحافي البريطاني جون كانتلي ملاحظاته عن التنظيم ومحاولاته أن يصبح دولة شاملة.
لكن هل الطريق الذي تمضي فيه داعش أصلًا سيجلب لها الاستدامة ويدعم أركان دولتها في المستقبل؟ لا يبدو أن ذلك ممكنًا حاليًا، وهو ربما ما ستدركه مع الوقت، ولكن ما إذا كان ذلك سيدفعها لتغيير إستراتيجيتها أم لا هو أمر ستكشفه الأشهر القادمة.
المصدر: ذا أتلانتيك