ترجمة وتحرير نون بوست
توقف أمامي آدم، البالغ من العمر خمسين عامًا، وقال لي بحزن واضح وهو يهز ابنته الصغرى بين ذراعيه في محاولة لتهدئة بكائها “آمل أن تصبح طفلتي مثل سوزان رايس، وآمل أن تستطيع الزواج من شخص مثل أوباما”.
آدم وعائلته حالهم كحال حوالي 1.9 مليون شخص عراقي أُجبروا على ترك منازلهم جرّاء العنف المتزايد في شمال البلاد، ونزحوا داخليًا إلى المناطق العراقية الأكثر أمانًا، ولكن خلافًا لمعظم النازحين داخل العراق، فإن آدم من الجنسية السودانية.
“في عام 1986 كانت هناك صراعات دائرة في بلدي ما بين الميليشيات والحكومة، وأنا لا أحب القتال لذلك صرت لاجئًا” قال آدم في إشارة إلى الاضطرابات المستمرة التي تعاني منها بلاده منذ استقلالها عن بريطانيا ومصر في 1956.
آدم أبى حمل السلاح في الجيش السوداني الذي يفتقر للتمويل، ورفض المشاركة فيما يسمى بالمرحلة الثانية من الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان؛ ففي عام 1988 وعندما كان آدم يبلغ من العمر 24 عامًا، عمد للفرار من الخدمة العسكرية مسافرًا من مسقط رأسه في مدينة ود مدني في شرق وسط السودان عبر البحر الأحمر عن طريق القوارب، ليصل إلى جدة ومن ثم إلى مصر، حيث استطاع استقلال طائرة إلى بغداد، ليصبح واحدًا من أصل 670.000 لاجئ سوداني يعيشون خارج البلاد، بالإضافة إلى 2 مليون شخص نزحوا داخليًا في السودان، ويقول آدم “عندما تصل إلى العراق، سواء كان لديك عمل أم لا، فإن الحكومة العراقية ستدفع لك 1800$ في السنة في ذلك الوقت، كانت العراق مفتوحة لجميع الدول العربية آنذاك، وكان من الصعب أن تلجأ إلى دول الخليج؛ أنا لست مثقفًا ولا أحوز أي درجة علمية، أنا رجل بسيط، أعمل بالزراعة”، قالها آدم وهو يتربع على أرضية الخيمة البيضاء التابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
في يوليو الماضي فر آدم وعائلته من مدينة الشرقاط – بين الموصل وتكريت – وذلك بعيد سيطرة الدولة الإسلامية على المنطقة، وسافر شرقًا إلى مدينة كركوك المتنازع عليها، حيث أقام وعائلته في إحدى المدارس، ولكن عندما بدأ العام الدراسي في سبتمبر، أُجبر ومن معه على الانتقال إلى مخيم ليلان – جنوب غرب المدينة -، حيث يستقبل هذا المخيم حوالي 7500 لاجئ على الأقل، على الرغم من أن القدرة الاستعابية الأولية التي قدرتها المفوضية لهذا المخيم كانت 6000 شخص.
يقف آدم ذاهلاً، يحاول استذكار العراق الآمن والمتنوع اجتماعيُا، هذا العراق الذي بقي في الذاكرة الجماعية للشعب العراقي فقط، يقول آدم “الحياة كانت جيدة، لا يمكنك تخيل كم كانت جيدة، في تلك الأيام كنا نستطيع التنقل بحرية وبأمان تام ما بين المحافظات المختلفة”.
في فترة حكم صدام حسين، تم التعاقد مع اللاجئين الشباب – ومن ضمنهم آدم – للعمل في موقع لبناء مصنع للأسلحة، ويذكر آدم أنه كان يعمل مع حوالي 30 شخصًا أجنبيًا من بنجلادش والسودان، ويقول آدم مبتسمًا “كل يوم كانوا يطعموننا الكثير من اللحوم والأجبان”.
آدم هو أحد اللاجئين السودانيين الأكثر حظًا في العراق؛ فوفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام 2008، عانت مجموعة من 97 سودانيًا فروا من السودان في أواخر الثمانينات من حصار في مخيم مؤقت في الصحراء العراقية منذ عام 2005، حيث تم الاعتداء عليهم وابتزازهم وطردهم من قبل الميليشيات المسلحة بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
ولكن عندما اندلعت أحداث العنف الطائفي في عام 2006 تغيرت حياة جميع قاطني العراق بشكل كبير، وأصبح اللاجئون أكثر عرضة للخطر من غيرهم، يقول آدم “في ذلك الوقت شعر جميع السودانيين في العراق بالخطر، كانت المليشيات السنية والشيعية تأخذ أموالنا التي نتحصل عليها من عملنا، حتى إن بعض السودانيين ذهبوا للعمل في القواعد الأمريكية بهدف الحصول على الحماية، أما أنا فلم أستطع العمل هناك لأنني أعيل عائلتي ولا يمكنني التحرك بشكل سهل”.
على الرغم من أنه كان يعمل في العراق، أصرّ آدم على أن المال الذي كان يجمعه لا يكفي لإدخار قسم منه لإرساله لأسرته في السودان، وعلى حد تعبير آدم فإن المال الذي كان يحصل عليه من العمل لم يكن حتى كافيًا بالنسبة له ولعائلته، أما حاليًا فهو يعمل بتوزيع الكيروسين على الأسر داخل مخيم ليلان، وهذا العمل بالكاد يكسبه حوالي 200 دولار في الشهر، ويقول آدم “هذا المبلغ لا يكفي لإطعام أسرتي المكونة من ستة أفراد، لفترة طويلة لم تعطنا الأمم المتحدة أي معونات غذائية، والآن ليس لدينا خيار، يجب علينا شراء الطعام”.
زوجة آدم تدعى عواطف سعيد وهي امرأة أنيقة بسلوكها وتتحدث برصانة وهدوء، عواطف تبلغ من العمر 32 عامًا وهي من مدينة البصرة وتحمل الجنسية العراقية، ولكن أولادها (ثلاث بنات وصبيين) ورثوا جنسية أبيهم السودانية، وبسؤالها عن أحداث سقوط الموصل والغارات الجوية اللاحقة لها أجابت بقولها ” أطفالي أرادوا الانتقال من الشرقاط، لأننا عندما نمنا في الحديقة، سمعنا أصوات الطائرات، والأولاد كانوا خائفين جدًا”.
يقول آدم “أنا لم أكن خائفًا من داعش، فهم لا يشكلون خطرًا على المدنيين، كونهم يوجهون أنظارهم نحو قوات الجيش والشرطة، ولكن أطفالي كانوا خائفين من الأسلحة، لقد ذعروا من لحى داعش ومن أقنعتهم، ولكن بالنسبة لي، فإن المشكلة الكبيرة تتمثل بالضربات الجوية العراقية”.
يشير آدم أنه خلال الأسابيع الأولى من سيطرة الدولة الإسلامية على المنطقة، كانت الغارات الجوية العراقية تحصد أرواح حوالي 80 أو 90 شخصًا داخل وحول المدينة أسبوعيًا، ويوضح بقوله “إن الضربات كانت تستهدف المدنيين في الشوارع، صديقي مات، جيراننا ماتوا، كما توفي أطفال أيضًا نتيجة لهذه الغارات؛ أنا شخص مؤمن، وأعلم أن الموت علينا حق، ونحن جميعًا سنموت في يوم من الأيام، ولكن عندما رأيت أطفالي وهم خائفون من الطائرات …”، سكت عندها آدم وأطرق بالأرض.
عندما سألنا آدم حول سيطرة داعش على الموصل، أشار إلى أنه كان مندهشًا عندما رآهم، وأوضح أنهم ظهروا فجأة وسيطروا على جميع المباني الحكومية، في ظل غياب تام للشرطة والجيش في ذاك الوقت، وأضاف آدم أنه قبل الوصول إلى كركوك، اتجه بعائلته إلى مدينة مخمور حيث حصلت هناك اشتباكات عنيفة بين قوات البيشمركة الكردية والدولة الإسلامية؛ لذا قام بتغيير وجهته بسرعة باتجاه كركوك، وقال آدم “أهالي كركوك رحبوا بنا بكل حفاوة، الجميع ساعدنا هناك، الكنائس والمساجد والبيوت، لقد واجهنا صعوبات كبيرة، فالمدينة لا يوجد فيها كهرباء أو مياه أو غذاء أو مال، لقد كنا نتناول الخبز ونشرب الشاي فقط”.
أما بالنسبة لعواطف، فالترحيب الحار ليس ذو شأن، كونها تعترف بعدم وجود علاقات قوية مع بقية العائلات في المخيم، لذا تفضل أن تبقى لوحدها، حيث تقول “الجميع هنا يثرثر، يتحدثون عن الأشخاص الذين يحصلون على مال من الحكومة والأشخاص الذين لا يستطيعون ذلك، أنا لا أحب هذه الأحاديث وهي تجري دائمًا في المطبخ، لذا أسعى للبقاء بعيدًا عن الجميع”، ومن جهته يشير قيس أحد جيران آدم في المخيم وهو أب لطفلين “لا توجد علاقات قوية بيننا وبينهم، نحن نعرفهم ونرحب بهم”، وعند سؤاله عن العلاقات داخل المخيم قال “هناك صداقة قوية بيننا وبين بقية الأشخاص”، ملمحًا بذلك إلى أن أسرة آدم السودانية هي أسرة مهمشة، أما مدير برنامج التنمية والإغاثة الدولي في المفوضية آزاد عبد الحميد، فقد كان مصممًا على أن عائلة آدم ليس لديها أي صعوبة في الاندماج في مجتمع المخيم، لدرجة أنه وظّف آدم لتوزيع الكيروسين ضمن المخيم.
عمر ذو الـ 14 عامًا، الابن الأكبر من بين أطفال آدم الخمسة، تحدث إلينا حول أوضاع المخيم قائلاً “أنا لا أحب هذا المكان، إنني أشتاق لكل شيء في منزلنا القديم”، ووافقت كوثر شقيقة عمر البالغة من العمر 9 سنوات على كلام عمر وأضافت “كان لدينا مدرسة ومنزل، أما هنا فليس لدينا أي شيء”، ولكن على الرغم من كراهيتهم للمخيم، يبدو أن عمر وكوثر استطاعا تكوين صداقات مع كل أطفال المخيم، حيث إن هذه المهمة غالبًا ما تكون أسهل على الأطفال من البالغين.
أخيرًا وعلى الرغم من أن مخيم ليلان لا يمكن أن يشكل منزلاً لهذه العائلة، إلا أن خيار العودة إلى السودان ليس حلاً بديلاً مطروحًا لدى آدم، حيث يقول “لا يمكنني شراء تذاكر سفر لأخذ جميع أفراد أسرتي إلى السودان، أنا أحب العراق، والعراقيين بالنسبة لي لا يختلفون؛ فاليزيديين والمسيحيين والسنة والشيعة جميعهم ذات الشيء”، قالها وهو في طريقه للخروج من خيمته متجهًا مرة أخرى إلى الطرق الترابية التي تلتف حول المعسكر القاحل.
المصدر: ميدل إيست آي