ترجمة وتحرير نون بوست
انتقلت شبه جزيرة سيناء من كونها على هامش الجسم السياسي المصري لتتربع في مركز الإعلام بدون منازع خلال الفترة الماضية؛ فالزعيم المصري العسكري الرئيس عبد الفتاح السيسي، يرى أن التمرد الذي يزداد قوة مع مرور الوقت، يضعضع من مظهره العسكري القوي، خاصة بعد سلسلة الهجمات الأخيرة المنسقة والقاتلة التي استهدفت المؤسسة العسكرية والأمنية في مصر في 29 يناير، والتي أدت إلى تحطم معنويات الجيش المصري؛ مما دفعه للإمعان في استخدام القوة ضمن الحرب الدائرة في المنطقة، والتي لا يمكن الفوز بها إلا عن طريق الدهاء والحنكة السياسية، بدلاً من القوة العسكرية.
إن الهجوم الأخير الذي ضرب سيناء في 29 يناير، أدى إلى تهشم شعور الرضا عن النفس وتراجع الأنفة العسكرية التي شعر بها النظام المصري إزاء انخفاض مستوى التحركات المتشددة في سيناء، حيث كان النظام يُرجع هذا الهدوء إلى الرد العسكري الحاسم الذي استمر لعدة أشهر، وعندما نفّذ المسلحون هجومًا منسقًا على عدة نقاط تفتيش للجيش المصري في سيناء في 24 أكتوبر، أسفر عن مقتل 31 شخصًا وإصابة كثيرين، بالطبع كان الرد الحكومي والإعلامي جاهزًا، حيث أصاب تنبؤ أغلب المتابعين عندما انتقدت الحكومة الأجانب والغرباء عن الحادثة، التي هي أساسًا نابعة من تردي الوضع الأمني المحلي وازدياد المحنة السياسية التي تعيشها البلاد.
وبدلاً من قيام النظام بإعادة النظر في النهج الحكومي الذي يتم اتباعه في منطقة شمال سيناء الفقيرة، تحرك الجيش لعزل غزة عن سيناء، التي كانت أساسًا تحت حصار إسرائيلي – مصري خانق منذ عام 2007، وما حدث في سيناء منذ أكتوبر الماضي كان مُحطِمًا للآمال، حيث كان يُنظر إلى تحركات النظام المصري في سيناء على أنها نوع من حملات التطهير العرقي التي تُمارس تحت اسم محاربة الإرهاب، فالجيش والأمن أجبر الآلاف من الأسر على إخلاء منازلهم، لمشاهدتها وهي تدمّر في منتصف الليل.
نتيجة لهذه الممارسات نما الحقد والاستياء من ممارسات الدولة المصرية العنصرية، ومع الاستياء يأتي التحدي، حيث لخص أبو مسلم، أحد سكان سيناء، موقف شعبه من عنف الحكومة بقوله “إنهم يدمرون منازلنا، ونحن سنبني أكواخًا، وإن أحرقوا الكوخ، سنبني كوخًا آخر، إنهم يقتلوننا، ونحن سنتكاثر”.
الدولة المصرية تعمل على تنفيذ خطة أمنية نوقشت منذ فترة طويلة، لبناء “منطقة عازلة” ما بين مصر وغزة، ولكن أغلب المتابعين يرون أن تنفيذ هذه الخطة جاء على درجة عالية جدًا من التدمير والتخريب وبشكل أكبر بكثير مما كان متوقعًا لها، وعلى الرغم من سياسة التعتيم الإعلامي المتبعة في سيناء، إلا أن مشاهد الدمار التي خلّفتها الحملة العسكرية أصبحت واضحة وملموسة، حيث ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في أحد التقارير”عن طريق الجرافات والديناميت، هدم الجيش ما لا يقل عن 800 منزل وشرّد حوالي 10.000 شخص”، ومن جهته أشار المتحدث باسم السيسي أن الأحياء التي تم هدمها في سيناء هي “بؤر” إرهابية، كما نقلت صحيفة أورشليم بوست عن صحيفة اليوم السابع المصرية قولها إن “قوات الأمن ستعمل على هدم الأنفاق المؤدية إلى غزة، وستهدم أي أبنية أو منشآت قد تستخدم في حركة التهريب”.
إن منطق الربط بين ما يحدث في سيناء وبين غزة هو منطق غريب ومحيّر، حيث لا يمكن بشكل من الأشكال أن يتم إيجاد علاقة لغزة بما يحدث في سيناء، لأن مثل هذه الهجمات لا تساعد غزة، بل تؤدي إلى تشديد الحصار وتضييق الخناق عليها؛ فالأنفاق هي شريان الحياة الأساسي لأهالي غزة المحاصرين، وفي حال كانت الهجمات تحمل رسالة سياسية، فهي حتمًا تخدم أعداء غزة مثل إسرائيل والتنظيمات الفلسطينية المنافسة لحماس.
ولكن السيسي الذي اعتاد التسرع بإلقاء الأحكام وعدم الالتفات وإعادة النظر إلى الوضع المزري والفقر المدقع الذي تعيش فيه سيناء في ظل الإهمال شبه التام لها من قبل الحكومة المركزية في القاهرة، لم يخرج عن طبيعته هذه المرة أيضًا حينما وجه أصابع الاتهام إلى غزة، حيث وجه خطابه إلى الشعب المصري بقوله “يجب أن نكون حذرين مما يحاك ضدنا، كل ما يحصل معروف لنا، وكنا نتوقعه، وتحدثنا عنه قبل الثالث من يوليو”، في إشارة من السيسي إلى تاريخ قيام الجيش بعزل محمد مرسي.
وفي خطاب متلفز، حمّل السيسي مسؤولية ما يجري في مصر للـ “أيادي الأجنبية” التي “تحاول كسر ظهر مصر”، متعهدًا بمحاربة التطرف في حملة طويلة الأجل، حيث استغل السيسي شعور الشعب المصري بالغضب والحزن الشديدين حول الهجمات الإرهابية، للحصول على تفويض سياسي من الشعب لإطلاق يده في تنفيذ السياسة العسكرية التي تناسب مصالحه في سيناء، بدءًا من بناء منطقة عازلة مع قطاع غزة.
أثناء انتظار السيسي لوصول جثماين الجنود القتلى إلى مطار ألماظة العسكري في القاهرة، تحدث عن “حرب كبيرة” يخوضها جيشه في سيناء، وقال “هذه الحوادث العنيفة هي رد فعل على جهودنا في مكافحة الإرهاب، إن الخسائر خلال الأشهر القليلة الماضية كانت عالية جداً، وكل يوم يتم قتل العشرات من الإرهابيين، نحن قمنا بتصفية المئات منهم حتى الآن”.
سيناء التي تجري أحداثها بدون رقيب، والتي يتسرب منها بين الفينة والأخرى قصص رعب مخيفة تحصل في الصحراء المطوقة تمامًا والتي تبلغ مساحتها 60.000 كم2، ومع قصص قتل العشرات في كل يوم، يمكننا القول بأن سيناء حاليًا تترنح ضمن حلقة عنف مفرغة، لن تفضي إلى نتيجة.
إن الاستياء من الحكومة في سيناء يعود لسنوات عديدة ماضية، ولكنه بلغ ذروته منذ الإطاحة بالرئيس مرسي؛ فعلى الرغم من أن حكم مرسي الذي استمر لمدة سنة واحدة في السلطة شهد الكثير من العنف، إلا أن مستوى العنف في زمنه لم يصل إلى الحدود التي نراها اليوم، ومنذ ثورة يناير 2011، حكم مصر أربعة أنظمة مختلفة: المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حكومة محمد مرسي، الحكومة الانتقالية بقيادة عدلي منصور، وأخيرًا الحكم العسكري المتنكر بالهيئة المدنية للسيسي، وجميع هذه الأنظمة لم تستطع السيطرة على العنف المتزايد في سيناء.
يُصِر السيسي على التعامل مع الأزمة المصرية باستخدام العنف، بما في ذلك الهجمات الأخيرة التي أصابت ثلاث مدن مختلفة في وقت متزامن (العريش والشيخ زويد ورفح) والتي كانت تهدف لتحقيق مكاسب سياسية محدودة، حيث بادر السيسي بإلقاء اللوم على جماعة الإخوان المسلمين مرة أخرى بدون تقديم الأدلة على هذا الاتهام، وبادرت الجماعة بدورها للرد على الاتهامات عن طريق بيان مقتضب، ألقت فيه اللوم على إهمال الحكومة والوحشية والعنف التي يتم فيها التعامل مع أهالي سيناء، حيث أصبح الوضع مهدد بالتفاقم إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه.
بعد الأحداث التي ضربت البلاد في أكتوبر الماضي، كتبت في إحدى مقالتي “إذا كانت النوايا تتجه نحو كبح جماح الهجمات في سيناء، فإن الحلول العسكرية غير المحسوبة ستأتي بنتائج عكسية”، كما ناصر هذا الرأي حينها صحفيون آخرون، الذين أشاروا إلى أن الحل الأمني يدق ناقوس الخطر.
بنظرة بسيطة إلى الواقع المصري يمكننا ملاحظة أن السباق نحو الحل العسكري أدى إلى نسيان بديهيات الحل؛ فمشاكل سيناء معقدة وموجودة منذ أمد طويل، وعلى الرغم من وجود شبه إجماع دولي على عدم جدوى الأعمال العسكرية في سيناء، إلا أن وجهة النظر هذه يتم إنكارها محليًا في خضم السباق المحموم نحو العسكرة، وليس هناك دليل أبدى على حالة الإنكار هذه، من التحليلات “الفذة” التي يبتدعها الإعلام المصري حول الهجمات الأخيرة، حيث يقول الخبير العسكري سلامة جوهري إن “الإرهابيين في حالة موت سريري”، ودليله على ذلك هو قيامهم بثلاث هجمات على ثلاث مدن في وقت واحد في 29 يناير الماضي؛ فوفقًا لزعمه يعتبر “تشتت” الأهداف دليلاً على “الموت السريري” للإرهابيين، وألقى الجوهري في تحليله اللوم على قطر وتركيا لدعمهم متطرفي أنصار بيت المقدس، الذين أعلنوا ولاءهم للدولة الإسلامية منذ نوفمبر الماضي، حيث تم تسمية المنطقة بـ “ولاية سيناء”.
إن العودة الهائلة للمسلحين المتشددين في سيناء وتغيّر التكتيكات على الأرض لمواجهتهم، يشيران إلى أن الحرب في سيناء تتجه إلى مرحلة غير مسبوقة منذ اندلاع الثورة؛ فمنذ بدء التشدد في سيناء انطلاقًا من التفجيرات المميتة التي حصلت في أكتوبر من عام 2004، ومن ثمّ الهجوم على السياح في شرم الشيخ في أبريل 2005، وعلى دهب في عام 2006، أصبح المتشددون أكثر جرأة وعنفًا وتنظيمًا، وتزايد جرأة المتشددين تعكس الشعور باليأس الذي تشعر به قبائل سيناء، التي علقت في رحى الدوافع السياسية المدمرة للحرب على الإرهاب.
ويبقى السؤال: كم من الوقت سيلزم حتى تدرك القاهرة أن العنف لا يمكنه حل المشاكل ذات الجذور السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
المصدر: ميدل إيست آي