انتشرت العلمانية في المجتمعات الغربية المعاصرة الأمر الذي أثّر على سلوكيات أفراد مجتمعات العالم الثالث وعلى بنياتها، وهو سلوك وليد علاقة الغالب بالمغلوب كما أكّد ابن خلدون “المغلوب مولع أبدًا في تقليد الغالب”، فعلى سبيل المثال، وقع طلاق صريح بين الدين والعلم في المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة، فحدث تقليد هذا الأمر من طرف علماء المجتمعات النامية ومفكّريها، تضرّر البعد الديني عموديًا لدى نخب العلماء والمفكّرين، ثمّ أفقيًا لدى عامة الناس في المجتمعات الغربية الحديثة، والدين يمثّل جزءًا مركزيًا من هويات الناس والشعوب، ويجوز وصف انحسار البعد الديني بأنه ضرب من التصدّع الثقافي في منظومة الهويّات التي تتكوّن من مجموعة من العناصر الثقافية، وفي طليعتها اللغات والديانات.
العلمانية ذات البعد الواحد
أمّا لغات المجتمعات الغربية فلم يقع تهميشها بين أفرادها ومؤسّساتها، فالألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية بقيت اللغات الأولى في الاستعمال بين المواطنين وفي مؤسّسات تلك المجتمعات الأوروبية، ولا تقتصر مكانة تلك اللغات على مجرّد الاستعمال الشامل لهذه اللغات، بل توجد علاقات نفسية حميمة بين مواطني ومؤسّسات تلك المجتمعات ولغاتها الوطنية، إذ إن وجود علاقة سليمة للغات في مجتمعاتها يشمل جبهتين: الاستعمال الشامل والكامل للغات الوطنية في كلّ أنشطة تلك المجتمعات، من جهة، وحضور مواقف نفسية قويّة تغار على اللغات الوطنية وتدافع عنها، من جهة أخرى، في حين تمسّ العلمانية في المجتمعات الغربية الحديثة قطب الدين المسيحي بفروعه المختلفة فقط.
التصدّع المزدوج … العلمانية المغشوشة
مقارنةً بمفهوم العلمانية ذات البعد الواحد في المجتمعات الغربية كما رأينا، فإن النخب المغاربية ومجتمعاتها تتبنّى علمانية ذات بعدين اثنين، فبينما حصرت – ولم تزل – النخب الغربية ومجتمعاتها تعاملها مع العلمانية في تهميش دور الدين في حياة الأفراد والمجتمعات، لاتزال النخب المغاربية ومجتمعاتها في المجتمع التونسي ونظيريْه في الجزائر والمغرب تجنح إلى تهميش كلٍّ من الدين الإسلامي واللغة العربية من حياة الناس الشخصية والحياة الاجتماعية، فيجوز القول هنا إن تقليد تلك النخب ومجتمعاتها للعلمانية الغربية هي عملية مغشوشة، إذ إن النخب ومجتمعاتها انحرفت عن المثال الأصلي الغربي للعلمانية الذي يهمّش الدين فقط، بينما هي أضافت أيضًا عملية التهميش إلى لغتها العربية، وعلى مستوى ثانٍ، يتمثّل الغشّ كذلك في عجز تلك النخب ومجتمعاتها عن الوفاء لأخلاقيات المناداة بقيم المجتمع المدني، فالعناية باللغة العربية وحمايتها ومنحها المكانة الأولى كلغة وطنية هي مطلب مدني في مجتمعات تقول إن العربية هي لغتها الوطنية الأولى.
وبالتأكيد فإن ممارسة العلمانية المغشوشة لدى نخبنا ومجتمعاتنا هي ذات جذور استعمارية أحدثت نوعين من التصدّع في هوية نخبنا ومجتمعاتها أدّيا إلى ميلاد علمانية مغشوشة تهاجم ليس الجانب الديني من هوية الشعوب المغاربية فقط، بل الجانب اللغوي لمنظومة الهويّة العربية الإسلامية في المغرب العربي.
إجماع مغاربي على الهويّة
تُجمع الشعوب المغاربية على أنها صاحبة هويّة عربية إسلامية، حيث يمثّل الدين الإسلامي واللغة العربية قطبيْ هذه الهويّة، تفيد المؤشّرات الكثيرة بأن الاستعمار الفرنسي للمغرب العربي قد أثّر سلبًا، وبخاصّة لدى نخب تلك المجتمعات على القطبيْن المذكورين، يجوز وصف هذا الوضع بأنه يرقى إلى مستوى تصدّع قوي في تماسك منظومة الهويّة العربية الإسلامية الذي جاء نتيجة للاحتلال الاستعماري الفرنسي الذي نشر لغته ومدارس أفكاره، ولاسيّما بين النخب الثقافية والسياسية والعسكرية المديرة لشؤون تلك البلدان في العصر الحديث، ولتسهيل بيان معالم هذا التصدّع لدى تلك الشعوب اليوم نفحص جوانب هذا التصدّع على مستوى قطبيْ الهويّة العربية الإسلامية.
مع مجيء الاستعمار الفرنسي إلى مجتمعات المغرب العربي انتشرت اللغة الفرنسية بدرجات مختلفة، ويُعْرف الاستعمار الفرنسي اللغوي الثقافي بأنه أكثر شراسة من نظيره الإنجليزي، وذلك بحسب ما يتضح ممّا تعرّض له الشعب الجزائري من استلاب لغوي وثقافي كان الأبشع في الوطن العربي. ومن ثم، يجوز الحديث عن صنفيْن من التصدّع اللغوي في العالم العربي: تصدّع قوي في المغرب العربي وتصدّع متوسط أو ضعيف في المشرق العربي. فمن معالم التأثير اللغوي السلبي للاستعمار الغربي في النخب المغاربية والعربية ظاهرة إقصاء اللغة العربية من تدريس العلوم ليس في المستويات الجامعية فقط، بل في مرحلة التعليم الثانوي أيضًا، كما هو الحال في المجتمع التونسي، ولابدّ أن لذلك أثرًا في تردّي وضع لغة الضاد في الوطن العربي كما عبّر عن ذلك بيان مؤتمر بيروت حول وضع اللغة العربية في مطلع شهر نيسان 2012 “اللغة العربية في خطر”: “إن ثمّة أزمة كبيرة تواجه اللغة العربية وتزداد يومًا بعد يوم بتأثير التغيّرات والتطوّرات والتراكمات التي أدّت إلى هذه الأزمة الخطيرة….. “. يلخّص كتاب “لننهض بلغتنا” (2012) أزمة تصدّع حال اللغة العربية كالتالي: انتشار المدارس والجامعات الخاصة والأجنبية التي تتضاءل فيها اللغة العربية إن لم تنعدم، وتكاد العملية التعليمية كلّها تتمّ بلغة أجنبية ليس في العلوم الصحيحة والتطبيقية فقط، بل أيضًا في العلوم الإنسانية، ففي أيّ بلد آخر على الكرة الأرضية يحدث هذا؟”.
أدوات رسم طبيعة التصدّع اللغوي
لتشخيص معالم هذا التصدّع اللغوي بين النخب وسواد الشعوب في المغرب العربي، أنشأنا مجموعة من المفاهيم لقياس هذا التصدّع اللغوي بطريقة مجسّمة شبه كميّة في المجتمع التونسي كعيّنة للمجتمعات المغاربية على وجه التحديد. نقتصر هنا على ذكر مفهومين فقط هما “الثنائية اللغوية الأمّارة” و”فقدان التعريب النفسي”. نُعرّف المفهوم الأول كالتالي: “الثنائية اللغوية الأمّارة هي تلك التي تجعل التونسيين والجزائريين والمغاربة قاصرين عن الذود عن لغتهم الوطنية (العربية) وغير مبالين إزاء عدم استعمالها في شؤونهم الشخصية وفي ما بينهم وفي أسرهم ومؤسّساتهم بحيث تصبح عندهم في حالات عديدة لغة ثانية أو ثالثة، أما مفهوم “فقدان التعريب النفسي” فهو ألا تكون للمواطنين في المجتمعات المغاربية علاقة حميمة مع اللغة العربية، فلا تكون لها المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم، ولا يغيرون عليها، ولا يدافعون عنها بكلّ حماس في الدوائر الخاصة والعامة في مجتمعاتهم.
مشهد التصدّع اللغوي مغاربيًا
نقدّم عيّنة سلوكية لغوية تتمثّل في الموقف المتصدّع للأكاديميين المغاربيين من اللغة العربية:
في ندوة حول نموّ المدن المغاربية عبر العصور في 26- 27/ 05/ 2005، كانت أغلبية المشاركين الأكاديميين من الجزائريين والمغاربة والتونسيين. اختار هؤلاء اللغة الفرنسية للقيام بمداخلاتهم وتقديمها ما عدا مشاركة مغربية واحدة اختارت اللغة العربية لإلقاء ورقتها، وقد أثار ذلك حيرة وصدمة واستهزاء بين زملائها وزميلاتها توحي بعدم استحسان الأمر، يشير ذلك إلى مدى استمرار رواسب الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي بين النخب الثقافية في هذه المجتمعات وذلك بعد عقود من الاستقلال، وهو تصدّع لغوي بيّن المعالم لدى تلك النخب في المقام الأول، وبعبارة أخرى، إنه تصدّع ناطق في صميم قطب اللغة العربية الذي يمثّل نصف منظومة الهويّة العربية الإسلامية للشعوب المغاربية.
التصدّع الديني لدى النخب
نجد نظيرًا لظاهرة التصدّع اللغوي في المجتمعات المغاربية يتمثّل في التصدّع الديني، فالنخب المغاربية الحاكمة والمثقّفة بعد الاستقلال لا ترحّب بمشاركة التيارات الإسلامية في الحكم، على الرغم من أن أصحاب هذه التيارات والحركات هم مواطنون كبقية المواطنين، ونتيجة لذلك، زحفت سياسات معالم تجفيف المنابع الإسلامية في المغرب العربي بعد رحيل الاستعمار، وتونس مثال حيّ على ذلك، فقد اتُخذت فيها سلسلة من القرارات أذن بها بورقيبة وأشرف عليها ومارسها شخصيًا بمساعدة رجال نظامه ونسائه، نقتصر على ذكر أهمّها: الحطّ من مكانة جامع الزيتونة منذ بداية الاستقلال، ودعوة الرئيس بورقيبة للإفطار في شهر رمضان، وقيامه بذلك جهارًا، وإقصاء الزيتونيّين ومَن لهم ثقافة عربية إسلامية مشرقية من المشاركة في الحكم على أعلى مستوى هرم السلطة السياسية بعد الاستقلال. كما مُنع الإسلاميون من النشاط السياسي في عهديْ بورقيبة وبن علي وسُجنوا ونُكّل بالذين لم يهربوا من البلاد إلى المنفى، وبناء على خلفية التصدّع اللغوي المذكور لدى النخب التونسية، يمكن القول بأننا أمام تصدّع فعلي في قطبيْ هوية الشعب التونسي: اللغة العربية والإسلام في عهديْ الجمهورية الأولى 1956- 2011، قادته وعزّزته وأشرفت عليه بالنيابة عن المستعمر نخب سياسية وثقافية تونسية متصدّعة الهويّة على قطبيْ هوية الشعب التونسي (اللغة العربية والإسلام)، وهو ما يؤكّد أن العلمانية في بلدان المغرب العربي هي علمانية ذات رأسين، وليست ذات رأس واحد كما هو الحال في الغرب، وهي بالتالي علمانية مغشوشة.
نشر هذا المقال لأول مرة على أفق