عرفت التنظيمات الجهادية وخصوصًا تلك التي ظهرت في العقد الأخير من القرن العشرين تركيزًا وعناية بالظهور الإعلامي وبالتعاطي مع الإعلام، ظهر هذا الأمر بوضوح بعد الغزو الأمريكي الأطلسي لأفغانستان حيث كان مقاتلو القاعدة وحركة طالبان يصورون عملياتهم ضد القوات الأجنبيّة ويبثونها على شبكة الإنترنت لتتولى بعد ذلك قنوات مثل الجزيرة والعربية وغيرها بث تلك المقاطع التي تصور عمليات انتحاريّة ضد دبابات أو آليات أو جنود، عمليات كانت تصور بكاميرات نصف احترافيّة وتصحبها آيات قرآنية أو أحاديث نبويّة أو أغاني جهاديّة يحرص منفذوها على أن تروّج بقوة على المنتديات الإسلاميّة والجهاديّة؛ لتنتقل بعد ذلك إلى الهواتف النقالة للشباب العربي الّذي كان ينتشي بهذه العمليات أيما انتشاء.
تداول هذه الفيديوهات والصّور تواصل وتطوّر بدخول الاحتلال الأمريكي للعراق؛ فتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بالإضافة إلى تنظيمات مسلحة كثيرة كان يحرص على تصوير عمليات القنص والتفجير التي انتقلت من المنتديات العربيّة إلى القنوات العربيّة ومنها إلى القنوات الأجنبية؛ لتسبب صداعًا إضافيًا لقوات الاحتلال، وكلنا يذكر مقاطع فيديو “زفة الشّهيد” الذي يظهر فيه الشخص المكلف بتنفيذ العملية الانتحاريّة في لباس أبيض منشرح الأسارير بصدد تحية أصدقائه و”إخوانه في الجهاد” وتلقي تهانيهم باختياره لتنفيذ العملية، ثم ينتهي الفيديو المصوّر بتفجير ضخم لقاعدة أو لموكب عسكري أمريكي، تعاد عملية التفجير ثلاث أو أربع مرات في نهاية الفيديو تصحبها صيحات التكبير و أغاني جهاديّة حماسيّة وصورة منفذ العمليّة واسمه تسبقه صفة “الشّهيد فلان”.
كلنا يذكر مقاطع فيديو قناص بغداد الذي اشتهر بقدرته على قنص الجنود الأمريكيين من مسافات بعيدة وبأعداد كبيرة، وهي المقاطع التي كانت تتداول بقوة في تونس في فترة معيّنة لما يروّج عن كون قناص بغداد تونسي الأصل.
المتفحّص في الفيدوات التي كانت تصوّر في كل من أفغانستان والعراق يلحظ بسهولة أن القائمين عليها من الهواة كما أن صعوبة ظروف الحرب والعمليات القتاليّة الدائرة هناك جعل من عمليّة التصوير والرّصد عمليّة صعبة وخطيرة، وهو ما يفسّر استخدام الكاميرات الصغيرة أو النصف احترافيّة وهو ما يؤثر بطبيعة الحال على جودة الصورة في التسجيلات التي تروج على الإنترنت وقد عملت التنظيمات الجهاديّة في السنوات الأخيرة بشكل مكثف على تطوير أساليبها الإعلامية وتجاوزت الكثير من التحفظات والفتاوي التي تُحرِّم التصوير وتجرِّم المصوّرين.
ظهور تنظيم الدولة الإسلامية صاحبه تطوّر نوعي ونوعي جدًا في العمل الإعلامي للتنظيم، فـ “الدولة” حاضرة بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر ويوتيوب وتتحدث إلى متابعيها بالعديد من اللغات والأساليب التواصلية الاحترافيّة والذكيّة، وهي تبرر وتسوّق لما تقوم به من ذبح وتنكيل بأسلوب فيه الكثير من العناية والابتكار، على عكس ما كان يقوم به تنظيم الدولة عندما كان ينشط في العراق باسم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، إذ كان يكتفي بمشاهد ذبح الجنود الأمريكيين وجنود قوات الصحوات العراقية دون إضافات كبيرة، وحتى يكون القارئ على إطلاع أكثر فإن أحد أسباب الانشقاق بين جبهة النصرة لأهل الشام ( تنظيم القاعدة في سوريا ) وأغلب قادته من السوريين وبين تنظيم الدولة الإسلامية الذي يعتبر امتداد لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين (العراق) كان الاختلاف حول تعمّد تنظيم الدولة التنكيل بضحاياه والتمثيل بجثثهم ونشر تسجيلات هذه الممارسات رغم قيام بعض منتسبي جبهة النصرة نفسها بالقيام بممارسات مماثلة في بعض المناسبات.
لم يكتف تنظيم الدولة بالنشاط المكثف على مواقع التواصل الاجتماعي، بل ركّز عمله الإعلامي على مجموعة من الإصدارات الوثائقية أشهرها “صليل الصوارم” الذي صدر في ثلاثة أجزاء إلى حد الآن، أكثر هذه الأجزاء احترافية ودقة من حيث جودة الصورة والمؤثرات وتتابع اللقطات والشحن الدرامي والتلاعب بالصّور كان الجزء الأخير “صليل الصوارم 3” وهو الجزء الّذي لفت الانتباه إلى أن عمل التنظيم على المستوى الإعلامي على الأقل ليس عمل هواة ولا حتى عمل شخص محترف بل هو عمل فريق متكامل يضم نخبة محترفة جدًا في التصوير والتركيب والجرافيك والمؤثرات والترجمة، فريق يبدو جليًّا إطلاعه وتمكّنه من آخر التقنيات التصويرية والإخراجية، فهل يملك تنظيم الدولة بالفعل هذه الكفاءات؟
لا تتوقف الأسئلة عند إصدار “صليل الصوارم”، فـ “داعش” أرسلت قبل الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة التونسيّة بثلاثة أيام عبر من يبدو أنه أبوبكر الحكيم (المتّهم بقيادة وتنفيذ عمليّة اغتيال السياسي التونسي محمد البراهمي) رسالة تهديد ووعيد للسياسين التونسيين المشاركين في العملية الإنتخابيّة، حيث بدت من خلال هذه الرسالة التي من المفترض أنها صورت في سوريا قدرات تصويرية وإخرجيّة عالية جدًا، فحركة المتحدثين وخطابهم ومشيتهم وحركاتهم وسكناتهم ولباسهم كلها كانت مدروسة بشكل لافت وكأننا أمام فيلم سينمائي هوليودي.
حرق الكساسبة
التسجيل الّذي نشره تنظيم الدّولة لحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيًا أثار صدمة واسعة لدى الرأي العام العالمي وتسبب في حالات أرق واضطراب لذوي المشاعر الحساسة، وهذا يعني أن التنظيم نجح في إحداث حالة الصّدمة العنيفة في صفوف من لا يتفقون معه وحالة الانبهار مع من يتعاطفون أو يتفقون مع منهجه، والملاحظات حول هذا التسجيل هي تقريبًا نفسها حول باقي التسجيلات والإصدارات، فنحن أمام عمل محترف جدًا بالمعايير التواصلية والتقنية، وأبرز تفاصيله:
اعترافات الكساسبة وإشارته إلى أن التحالف الدولي لمحاربة داعش يجتمع في قطر لينسّق ويخطط لعمليات استهداف التنظيم والسؤال هنا من أين لضابط برتبة ملازم أول أن يعرف بمعلومة حساسة من هذا النوع – على فرض صحتها – وإذا كانت المعلومة غير صحيحة فماذا تعني هذه الإشارة نحو قطر.
نلحظ كذلك بوضوح آثار العنف والإرهاق الجسدي والنفسي البادية على وجه الكساسبة والتي تؤكد تعرضه للتعذيب وسوء المعاملة.
أما المشهد الأكثر بشاعة وإثارة للأسئلة في الآن ذاته كان ولا شك مشهد عملية الحرق؛ جنود “الدّولة” مصطفون في زي عسكري موحّد يتقدّم معاذ بخطى وئيدة .. يتوقّف.. يرفع رأسه .. يطالع المشهد من حوله ثم يواصل سيره قبل أن يتوقف مجددًا، يتخلل المشهد لقطات لآثار قصف التحالف الدولي للمناطق الخاضعة لسيطرة الدولة من دمار وقتل، يعود مشهد معاذ في قفص حديدي هذه المرة، رأس معاذ مطئئ، يرفعه بسرعة، يرتعد معاذ، يتصاعد صوت دقات قلبه، يأخذ أمير منطقة استهدفها طيران التحالف الدوّلي المشعل، يضرم النار التي تتجه نحو معاذ، يرتفع صوت أغنية تتحدث عن قتال حلف الضلال، تلتهم النيران جسد معاذ، يصارع معاذ النيران حتى يسقط صريعًا ينتهي كل المشهد في دقيقة، تأتي الجرافة وتكمل بقيّة المشهد، مشهد يحمل علامات كثيرة وغريبة.
مشهد حرق معاذ الكساسبة صُوِّر بطريقة سينمائية عالية الاحتراف من حيث اختيار الزوايا واللقطات، ويبدو أن معاذ نفسه أُجبر على المشاركة في صناعة المشهد، ومن الواضح أيضًا أن أكثر من مصوّر شارك في تصوير عملية الحرق وأن مخرجًا ساهم في إعداد المكان والإطار وطريقة الحرق، واختيار الزوايا كان بنيّة إظهار بأكبر قدر ممكن بشاعة العمليّة ودمويّتها، وقد حرص المصوّر ومخرج العمل على اختيار أكثر الصّور و الزوايا إيلامًا ووحشيّة.
يضيف تسجيل “شفاء الصدّور” إلى الجدل القائم حول هوية الجهة التي صنعت داعش جدلاً حول الهدف الحقيقي وراء ما تبثه وتنشره وأسئلة لا حصر لها حول قدرتها على النشاط المستمر والمنظم على فضاءات التواصل الاجتماعي وحول القدرات الفنية “الهوليديّة” التي يتمتع بها مصوروها ومخرجوها.
في فوضى الأسئلة والاستفهامات تبدو الإجابة بعيدة لكن طريق الحقيقة يبدأ ربما بطرح الأسئلة السليمة والدقيقة؛ من أين لتنظيم الدولة كل هذه المعرفة الفنية والقدرات التكنولوجية والدراية التواصلية ليتواجد في شبكة الإنترنت دون حسيب أو رقيب ويؤثر في نفوس ضعاف النفوس وخاصة الآلاف من الشباب المسلمين الّذين يحسون بانسداد الأفق في بلدانهم؟ من أين لهؤلاء القتلة والمجرمين بالأسلحة والذخائر و لقدرة على ضبط حدود اصطنعوها؟ وغير بعيد عن حادثة شار لي إيبدو هل يعتقد الدواعش أنهم بمثل ما صنعوه يخدمون الإسلام أم أنهم يعطون لأعدائه الذرائع والحجج لاعتباره دين عنف ودموية لا رسالة سلام ورحمة.
بعد حرق معاذ حيًا تهاطلت عبارات الشجب والتنديد بوحشية الفعل وبدموية الفاعل، والإنسانية إذ تشكر لهؤلاء استنكارهم لهذا الفعل، فإنها تُذكِّر من تعطلت ذاكرته وأصاب فؤاده عمى المشاعر أن عاصمة عربية اسمها القاهرة قد شهدت بدورها حرق المعتصمين أحياءً ذات صيف، وأن خنادق جماعية أُحرق فيها المسلمون أحياءً في أفريقيا الوسط، وأن أطفال المسلمين في بورما قُطِّعت وسُلِخت أجسادهم وقًدِّمت طعامًا للغربان الجائعة، وأن كل ذلك حدث دون أن يشجب أحد أو يستنكر أحد أو يتحدث أحد من جموع المستنكرين المذهولين لنضيف في حانة الوحشيّة إلى جانب داعش قومًا أخرين يلبسون لباس الحداثة والإنسانية، ويخفون قلوبًا أشد سوادًا من أفعالها.