تحدٍ جديد للدولة القومية: حكومات افتراضية تقدم خدمات عامة

Schnurer_CyberState

ترجمة وتحرير نون بوست

في ديسمبر الماضي، قامت دولة إستونيا بخطوة غير مسبوقة بمنحها الفرصة لأي شخص بالعالم ليصبح مقيمًا إلكترونيًا فيها (e-resident)، وهي إقامة تتيح لحاملها الوصول لكافة الخدمات الحكومية الموجودة على الإنترنت.

يعني هذا، على سبيل المثال، أن يتمكن رائد أعمال هندي من تأسيس شركة إستونية تُدار من دبي، مع إجراء مُعظم العمليات الخاصة بأعمالها من إسبانيا، بالإضافة إلى استخدامه لتوقيعه الإلكتروني لإبرام الصفقات والعقود مع المستهلكين في كافة أنحاء الاتحاد الأوربي، وعدم دفع أي ضرائب عن أرباحه في إستونيا.

لا عجب إذن تقدّم حوالي 13،000 شخص لتجربة البرنامج الأوليّ في أقل من ثلاثة أشهر، بل وحصول 500 بالفعل على بطاقات الإقامة الافتراضية، وهو برنامج تطمح إستونيا عن طريقه لجذب رواد الأعمال الأجانب، وتأسيس موقع قوة لها في مجال جديد متنامي من المنتظر أن يحوّل الاقتصاد العالمي: الخدمات العامة العابرة للقوميات Transnational Public Services.

تقتصر الخدمات العامة التي تقدمها الحكومات اليوم على مواطنيها والقاطنين داخل حدودها القومية، بيد أنه في المستقبل القريب، ومثلها مثل الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، ستصبح الحكومات والخدمات التي تقدمها عابرة للحدود القومية، وستتمكن تلك الدول من زيادة دخلها بتقديم خدمات للمستهلكين دون النظر لجنسياتهم أو أوطانهم، وهو ما سيتيح لها تحويل الخدمات العامة إلى مشاريع تجارية افتراضية، وهو مجال تسير فيه بقوة العديد من الدول الآن، لا سيما الدول الصغيرة مثل أستونيا.

أهلًا بك في إي-ستونيا e-stonia
تتسم إستونيا بجغرافيا ضئيلة للغاية متاخمة للعملاق الروسي، وبتعداد سكاني قليل لا يتجاوز المليون ونصف المليون، وقد عانت بُعَيد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي من بنية تحتية متهالكة، خاصة في مجال التكنولوجيا والاتصالات، ومن منظومة إدارية هشة، وهي مطالبة في نفس الوقت بحُكم رشيد للبلاد التي انضمت بعد مطلع القرن للاتحاد الأوربي، مما دفعها نحو أتمتة (automatization) الكثير من العمليات الإدارية في ظل غياب الموارد البشرية الكافية.

لذلك، تُعَد إستونيا واحدة من أهم البلدان الرائدة في مجال التكنولوجيا على مستوى العالم اليوم، حيث يشكل قطاع التكنولوجيا فيها 15٪ من الناتج القومي، ويتمتع المواطنون بوصول يسير للإنترنت عن طريق خدمات الواي فاي المتاحة في كل الأماكن العامة تقريبًا، وهي الأسرع في العالم، ويقومون بإجراء كافة التعاملات البنكية والمالية عبر الإنترنت، بما في ذلك شراء الأطعمة من الباعة الجائلين، ويحصلون أيضًا على خدمة اشتراك إلكتروني في خدمات الرعاية الصحية.

صورة: نسبة الشركات المسجلة حديثا مقارنة بعدد الشركات الموجودة

لم تتوقف إستونيا عند هذا الحد، بل فرضت على كافة المدارس الحكومية تدريس الطلاب مبادئ البرمجة منذ الصف الأول الابتدائي، وقررت عام 2000 اعتبار التوقيعات الإلكترونية للمواطنين سارية بنفس الدرجة التي تسري بها التوقيعات بخط اليد، ليصبح القطاع الحكومي اليوم مهيئًا بالكامل للتعامل مع، وقبول، الوثائق الإلكترونية.

تباعًا، دشنت إستونيا بطاقات قومية إلكترونية تتيح لحامليها الوصول الإلكتروني لكافة الخدمات العامة باستخدام التوقيع الإلكتروني، وهي خطوة لاقت نجاحًا كبيرًا، إذ يدفع اليوم 95٪ من المواطنين في إستونيا ضرائبهم عبر الإنترنت في عملية تستغرق أقل من خمس دقائق.

ليس مستغربًا أن تكون الخطوة التالية إذن هي الإقامة الإلكترونية، لتفتح إستونيا بذلك أبوابها للأجانب للاستفادة من خدماتها عبر بطاقات هوية مزوّدة بشريحة إلكترونية مشابهة لتلك التي يستخدمها مواطنو إستونيا، وهي إقامة يمكنك الحصول عليها فقط بزيارة إستونيا مرة واحدة لتسجيل تفاصيل الهوية الخاصة بك، بل وربما لن يحتاج المقيمون إلكترونيًا لتلك الزيارة أصلًا مكتفين بتسجيل بياناتهم عبر السفارة الإستونية في بلادهم في المستقبل.

ماذا ستسفيد إستونيا من كل هذا؟ نظرًا لبنيتها التحتية الإلكترونية الممتازة، سيكون هناك طلب كبير على خدماتها العامة، وهو ما يعني إقبال كبير على الإقامة الإلكترونية فيها، والمتوقع أن تعزز تعدادها السكاني الضئيل بعشرة ملايين مقيم إلكترونيًا، وهو ما سيجلب لها دخلًا يصل لنصف مليار دولار سنويًا فقط جراء رسوم الإقامة، أضف إلى ذلك الأرباح التي ستجنيها من أي ضرائب تجارية للمستفيدين من خدماتها لتسهيل تجارتهم وأعمالهم، وتعزيز وضعها الاقتصادي بشكل عام.

الصورة: إستونيا تأتي ضمن الدول الأعلى في الحوكمة الإلكترونية في أوروبا

خدمات للبيع
قد يعتقد البعض أن بيع الخدمات العامة عن طريق الحكومات أمر جديد، ولكنه في الواقع مجال سبقت فيه إستونيا بلدان عدة.

تُعتَبَر ولاية نيفادا الأمريكية واحدة من أوائل من استخدموا خدمة عامة حكومية بعينها، وهي توثيق الطلاق، بشكل يتجاوز حدودها، وذلك نظرًا لإجراءات الطلاق اليسيرة نسبيًا لديها منذ عشرينيات القرن الماضي، حيث قامت الولاية بتخفيف قيود الإقامة المفروضة على المتقدمين بطلب لتوثيق الطلاق لستة أسابيع فقط، وهو ما جلب لها سيلًا من المقيمين الراغبين فيما عُرف حينها بـ”طلاق الهجرة”، والذي وصل لـ20،000 حالة في السنة، ورُغم أن معظم من أتوا إلى نيفادا تركوها بعد الحصول على خدمة توثيق الطلاق، إلا أن مجرد زياراتهم لستة أسابيع فتحت الباب أمام قطاع البناء والخدمات، وعززت من قطاع السياحة في نيفادا.

على الناحية الأخرى من القارة الأمريكية، تُعَد ولاية دلاوير المقر القانوني لأكثر من مليون شركة أمريكية رُغم عدم وجود أي مكاتب لمعظمها على الأرض في الولاية، إذ تتيح الولاية للشركات قوانين تحمي العاملين بالإدارة فيها، وتمكنّها من تأسيس شركات جديدة أو دمج شركات موجودة بسهولة، كما تضم محاكم منفصلة بقضاة متخصصين في التجارة والأعمال للبت في أي منازعات، وهو ما استفادت منه بشكل كبير في العائد من الضرائب التي تدفعها تلك الشركات، والتي تشكل خُمس دخل دلاوير.

على غرار ديلاوير، قامت دولة ليختنشتاين في أوربا بخفض الضرائب التجارية، وتسهيل إجراءات تأسيس الشركات، وتخفيف القيود الرقابية عليها، لتجذب حوالي 75،000 شركة قابضة أسست وجودًا رسميا وشكليًا فيها لتستفيد من القوانين هناك، وهي شركات تجلب للبلد الصغير 30٪ من دخلِه، أضف إلى ذلك سويسرا والمعروفة بقوانين خصوصية البنوك التي جعلتها معقل أموال الكثير من أغنياء العالم، رُغم أن بعضهم لم تطأ قدماه أرض سويسرا من قبل.

لم يقتصر الأمر على الاستفادة من القوانين والخدمات العامة، بل ووصل أحيانًا إلى الاستفادة من سيادة دولة أخرى، حيث شاع في العقود الماضية بين مالكي السفن اختيارهم للدولة التي يريدون التمتع بحمايتها عن طريق تسجيل السفن فيها مقابل دفع رسوم لها، وجرت العادة بالطبع أن يتم اختيار الدول التي تتسم بقواعد رخوة فيما يخص السلامة وهكذا، وهو ما يعُرف باسم “العلم الملائم”، وكان السبب في أن تُبحِر الكثير من سفن الشحن بأعلام ليبيريا وجزر مارشال وبنما — جدير بالذكر أن بنما هي الدولة التي كانت سفن وعبارات رجل الأعمال المصري ممدوح إسماعيل مسجلة فيها.

الصورة: البطاقة الإلكترونية الخاصة بالصحافي البريطاني لوكاس إدوارد، أول مقيم إلكتروني في إستونيا

خدمات إقليمية وعالمية
على صعيد آخر، تقوم بعض الدول اليوم بتقديم الخدمات بشكل يتجاوز حدودها ولكن على مستوى إقليمي، وهو ما فعلته البوسطة النرويجية، والتي بدأت في تقديم خدماتها في السويد، لتدفع بالسويد والدنمارك نحو تأسيس أول خدمة بريد مشتركة بين دولتين منذ خمس سنوات لتعزيز التنافس في هذا المجال بمنطقة إسكندنافيا.

التعليم، وهو واحدة من الخدمات العامة الأهم، أصبح متاحًا على الإنترنت مؤخرًا بشكل متزايد، خاصة التعليم العالي، حيث تقدم الكثير من الجامعات الكبرى اليوم شهادات وكورسات عبر الإنترنت، ويبدو أن التعليم الثانوي والأساسي في الطريق، ففي الولايات المتحدة، تقدم الآن الكورسات الإلكترونية كخدمة عامة عن طريق مدرسة فلوريدا الافتراضية، والتي تبيع المواد الدراسية لمدارس في الولايات الأخرى، وهو ما يتوقّع أن ينتشر خارج الولايات المتحدة بالنظر لانتشار التعليم الأمريكي في بلدان مختلفة، ليصبح التعليم مرشحًا ليكون خدمة عامة عالمية عابرة للقوميات هو الآخر.

التأمين أيضًا على قائمة الخدمات المنتظر تحوّلها للعالمية الإلكترونية، فالتأمين الاجتماعي والصحي، مثل نظام مِديكير الأمريكي، سصبح أرخص من ناحية بالنسبة لكثيرين مقابل الفائدة التي تعود عليهم منه، ومن ناحية أخرى ستستفيد الجهات المسؤولة عنه من توسيع قاعدة المشتركين فيه لتضم الموجودين خارج البلد الأم، والذين سيدفعون رسومًا بالطبع مقابل ذلك، وهي تعاملات تجري بالفعل في الاتحاد الأوربي وفي عدد من الدول الكاريبية، كما توجد بالتحديد في السويد والدنمارك، واللتان بدأتا في تصدير أنظمة الرفاهة الخاصة بهما لغير القاطنين فيهما، عبر شركات الرعاية الصحية على سبيل المثال، والتي بدأت بالتوسّع داخل دول الاتحاد الأوربي.

الجغرافيا الافتراضية
يثير كل ذلك تساؤلًا أساسيًا: إلى أين ستأخذنا الدولة الافتراضية؟ لعل نموذج إستونيا يعطينا جوابًا شافيًا بالنظر لما يطمح له البلد الصغير، والذي يتطلع إلى تحويل الحكومة الإلكترونية الخاصة به بالكامل لنظام الحوسبة السحابية عبر أجهزة سِرڤر موجودة في سفاراتها بالخارج، وهو ما سيتيح ليها ميزة غير موجودة لأي بلد آخر: الاستمرار في العمل بشكل طبيعي كدولة حتى ولو تم احتلال أراضيها، باستمرار منظومة الخدمات العامة الخاصة بها عبر الحكومة الافتراضية ولو بدون أرض!

إذا ما نجح هذا النموذج، فإنه يدشّن للجغرافيا الافتراضية، أي أن تصبح مساحات واسعة من المجال الافتراضي ذات أهمية حيوية بشكل لا يقل عن المساحات الحقيقية التي نعيش عليها، كما يُنذر بتلاشي الخط الفاصل بين الدول والشركات، لتصبح المنظومة العالمية أقرب لمجموعة من المؤسسات والمنظومات التي تقدم السلع والخدمات بشكل عالمي أو إقليمي عابر للقوميات، وليصبح البشر في شتى أنحاء العالم المحدد الرئيس لرواج أو قوة أي منها باعتباره متلقي تلك الخدمات، دون أي قيود سياسية.

بطبيعة الحال، لن ينتشر النموذج بهذا الشكل في غضون سنوات أو حتى عقود، وسيحتاج إلى إثبات نجاحه على الأرض قبل أن يبدأ في الانتشار بشكل واسع، أفقيًا، في قارات العالم المختلفة، ورأسيًا، في مجالات شتى، من التعليم والصحة حتى القضاء والتأمين والاجتماعي.

يومًا ما قد يقرر الأمريكيون الانضمام لمنظومة التأمين الاجتماعي في السويد، ودفع الضرائب طبقًا للقوانين الإستونية، والتمتع بالأمن الإلكتروني الذي تقدمه شيلي، والتعليم القادم من سنغافورة، مع الخضوع للتحكيم في ولاية دلاوير.

المصدر: فورين آفيرز