اللغة التركية كانت قبل استقرار الأتراك في الأناضول لغة شفوية ليس لها حروف محددة، وحينما استقروا في الأناضول (الأراضي التركية الواقعة في الشطر الآسيوي اليوم) وجدوا أنفسهم محاطين بثلاث أمم متقدمة عليهم مدنياً وهي: الفرس والعرب والروم البيزنطيون.
كما وجدوا أسلافهم من الأتراك السلاجقة المعروفين بسلاجقة الروم قد سبقوهم بتأسيس الدولة وتنظيمها مستفيدين من الموروث الحضاري الإسلامي الذي خلفه العباسيون، فراحوا يقتبسون من هؤلاء جميعاً ما يحتاجون إليه.
فأخذوا من السلاجقة نظم الدولة ومؤسساتها، ومن الفرس الشعر والأدب، ومن البيزنطيين العمارة وهندسة المدن والحصون، ومن العرب معظم ما له علاقة بالثقافة والدين والتاريخ، كما اقتبس الأتراك من العرب الحروف العربية لكتابة لغتهم.
يقول البروفيسور الهندي محمد حميد الله: ليس الأتراك وحدهم من اتخذ الحروف العربية لكتابة لغتهم، بل شاركهم في ذلك معظم الشعوب المسلمة من غير العرب مثل: الهنود والفرس ومسلمي المالايو في جنوب شرق آسيا وكذلك مسلمو أفريقيا وغيرهم.
وقد علل حميد الله ذلك برغبة المسلمين من غير العرب في تطعيم لغاتهم المحلية بالمفردات العربية لكي يسهل عليهم تعلّمها والاقتراب أكثر من الثقافة الإسلامية وعلى رأسها القرآن الكريم والحديث الشريف.
لا يُعرف على وجه الدّقّة متى تم اعتماد الحروف العربية لكتابة اللغة التركية التي ستعرف لاحقاً بالتركية العثمانية. غير أنّ ثمّة روايات تقول بأنّ السلطان مراد الأول هو أول من اعتمد اللغة التركية لغة رسمية للدولة؛ بينما تذهب روايات أخرى إلى أنّ الغازي أورخان ابن عثمان مؤسس الدولة العثمانية هو الذي اعتمد اللغة التركية. وقيل إنّ إمارة قارمان التي كانت تعتبر نفسها وريثة لدولة سلاجقة الروم هي أول من اعتمد اللغة التركية وقيل غير ذلك. وكيفما كان الأمر فإن المؤكد أن الأتراك كانوا قبل ذلك يعتمدون الفارسية في الإدارة والأمور الرسمية. أما في الأدب والفنون فقد سلكوا مسلك أدباء وشعراء الفرس فيما يكتبون.
فلما تم اتخاذ التركية لغة رسمية في الإدارة وصارت تكتب بالحروف العربية، شرع الأتراك في كتابة أدبهم بالتركية مواكبين تطور الأدبين العربي والفارسي في نفس الوقت.
ولما كانت التركية لغة شفوية فإن مفرداتها كانت تفتقر إلى الكثير من المعاني الأدبية والفنية والتقنية والقانونية والعلمية. وهكذا وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الاقتباس من هاتين اللغتين. وهكذا ما إن جاء القرن 16 الميلادي حتى كانت الكلمات العربية تشكل قريبا من نصف المفردات التي يستعملها الأتراك في لغتهم. بالإضافة إلى آلاف المفردات الفارسية. حتى قيل إنّ السلطان سليم الأول لما أعلن نفسه خليفة للمسلمين أوشك أن يجعل اللغة العربية لغةً رسمية في الدولة العثمانية، إلا أن بعض مستشاريه أشاروا عليه بصعوبة تطبيق ذلك في الواقع، فصرف النظر عن الفكرة.
وفي نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 بدأت موجة جديدة في الأدب التركي واللغة التركية، تمثلت في اقتباس المفردات الفرنسية واستعمالها في اللغة التركية. وقد كانت هذه الموجة ناتجة عن تأثر المبتعثين الأتراك الذين كانت ترسلهم الدولة العثمانية إلى فرنسا للدراسة. فعاد هؤلاء وهم مبهورون بكل ما هو فرنسي بما في ذلك اللغة. وهكذا دخلت مئات المفردات إلى التركية.
بقي أن أشير إلى أن السلطان عبد الحميد الثاني روي عنه رغبته في تعريب الأتراك وجعل اللغة العربية لغة رسمية، على غرار ما فكر فيه السلطان سليم الأول. غير أنّه صرف النظر هو الآخر عن الفكرة لذات السبب الذي حال دون تحقيق السلطان سليم الأول لهذه الغاية.
وبتدقيق النظر في اللغة التركية التي كانت مستعملة في عصر السلطان عبد الحميد الثاني وما بعده، أعني في الحرب العالمية الأولى حتى الأربعينيات يجد كثافة شديدة في المفردات العربية التي كانت تذخر بها اللغة التركية. بل يقال أن ثلثي مفردات التركية في عصر عبد الحميد الثاني كانت عبارة عن مفردات وتراكيب عربية ومشتقاتها.
ولما تم تحويل اللغة التركية إلى الحروف اللاتينية سنة 1928 تأسس مجمع اللغة التركية، واتخذ قرارات متعددة أهمها: تطهير التركية من الكلمات الأجنبية. والمقصود هنا الكلمات العربية والفارسية.
فتم حذف آلاف الكلمات العربية والفارسية من المقررات المدرسية وغيرها. غير أنّ افتقار التركية إلى العربية والفارسية بل تكونها على أساس هاتين اللغتين جعل من المستحيل التخلص من هاتين اللغتين اللتين غدتا بمثابة الرجلين اللتين تقوم عليهما اللغة التركية والأدب التركي.
واليوم بالرغم من مرور قرابة ثمانين سنة على تأسيس مجمع اللغة التركية، وبداية سياسة تطهير التركية من الكلمات العربية، لا زالت اللغة التركية تحتوي على آلاف المفردات العربية التي لا يستطيع التركي الاستغناء عنها. لأنه بدونها لا يمكنه أن يكوّن جملتين صحيحتين دون الاستعانة بكلمة عربية أو أكثر.
المصدر: نُشر المقال لأول مرة في ترك برس