أقيم معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام في أجواء قمعية لا مثيل لها، المخبرون والمخبرات في ردهات المعرض، يقومون بما يُطلب منهم، يتبرعون بما لا يُطلب، يزايدون على الضباط والشاويشية الذين يوجهونهم، إنها لحظة مواتية، فرصة للترقي في سلم الانحدار الوظيفي، البقاء في نظام السيد “سيسي” للأوسخ، المنافسة في الانحطاط تضع المخبرين في اختبار صعب، وفي الوقت نفسه تداعب خيال المخبرين بما تشتهيه أعين السافلين، وتلذه أنفس الأنذال!
في هذا الزمن أصبح أتفه مخبر وزيرًا، وأصبحت العاهرة التي تضاجع تلاميذها أستاذة جامعية، وتحول كل كلب مسعور إلى إعلامي، وكل مجهولي النسب في عالم السياسة إلى مشروع نائب برلماني من “تيار الاستغلال”، وكل “بلطجي حواري” إلى شيخ معمم يسب الأئمة والعلماء القدماء والمحدثين.
إنها اللحظة الحاسمة التي يقدم فيها أسفل الناس في قاع المجتمع قرابينهم إلى أوسخ الناس في قمة السلطة!
فماذا يفعل هؤلاء في هذه الأجواء؟
في معرض القاهرة الدولي للكتاب ساء كثير من المخبرين أن يروا كتب الشيخ العلامة، إمام أهل السنة، الفقيه المطلق، مجدد المائة الخامسة عشرة، الدكتور يوسف القرضاوي، ساءهم أن يروا كتبه تبيع أضعاف أضعاف ما تبيعه كتب رموزهم التي فرضوها على الناس في وزارات التثقيف، وفي الإذاعات والتلفزيونات ليل نهار.
ساءهم أن تبقى كتب عمائم أهل الباطل التي صدروها في إعلام الغوازي على الأرفف، عليها غبار النسيان، وازدراء الشباب، وتجاهل الكبير والصغير، فهي كتب ألفها نكرات، جهلة، باعوا أنفسهم منذ عشرات السنين لضباط أمن الدولة، فكافؤوهم بالترقي في سلم الانحدار الوظيفي، حتى أصبحوا معدودين في العلماء زورًا وبهتانًا!
ساءهم حجم الإقبال على كتب الإمام القرضاوي، ساءهم أن يروا هذه المبيعات كلها، وكل تلك الرغبة في العودة إلى النهج الوسطي وسط تيارات التطرف والمغالاة، وهذه الطوابير الطويلة، وكل تلك الثقة من ملايين البشر، بعد هذه الحملات كلها التي استهدفت علمه، ودينه، وذمته المالية، وأخلاقه الشخصية، وأبناءه وبناته، ووطنيته، وانتماءه، بل بلغت حد التشكيك في قواه العقلية واتهامه بالجنون والخرف، كل ذلك لأنه وقف أمام الأصنام بمطرقة الحق، فهشمها تهشيمًا، ووقف أمام العمائم الملوثة التي تدلس دين الله، فبصق في وجوههم بصقة أغرقتهم في العار إلى أبد الآبدين.
يقول لك المخبرون في مانشيتات الصحف “إن كتب الشيخ قنابل للتطرف”، هل هي قنابل (هيكلية) مثل التي تزرعها أجهزة الأمن قبل كل مناسبة ثورية؟
أم قنابل حقيقية مثل التي تفجر ضباطنا المساكين، ليكتشفوا أن بدلاتهم المقاومة للقنابل قد صنعت في الصين، وجلبها من جلبها لهم لكي يربح من وراء الصفقة،
ثم يموتون هم بلا ثمن، بل يموتون على الهواء مباشرة لكي يوظف الحاكم دماءهم في بركة السياسة القذرة؟
أم هي قنابل كالتي فجرت الكتيبة 101 في سيناء وجنودنا مشغولون بمتابعة مباراة كرة قدم، دون أن يعبأ أحد بتأمينهم؟
أم هي قنابل معلوماتية مثل تلك التي فجرتها أجهزة الإعلام المضادة للانقلاب حين أظهرت حقيقة رجالات الدولة المصرية وهم لا يعرفون – حتى هذه اللحظة – كيف استطاعت جهة ما أن تدخل مكاتبهم، وأن تسجل كل ما يقولونه؟
سأجيبك أنا …!
كتب الشيخ القرضاوي قنابل بالفعل، قنابل حقيقية، قنابل شديدة الانفجار!
ولكنها تنفجر في وجه الباطل فتدحضه، وفي وجه الطاغية فتفضحه، وفي وجه الجاهل فتفحمه، وفي وجه الخسيس فتهينه.
مساكين هؤلاء … يظنون أن الشيخ القرضاوي صنعه منصب، مثل شيوخهم الذين ليسوا أكثر من مناصب، ينساها الناس بمجرد أن يرحلوا منها.
لقد كان فضيلة الإمام عميدًا لكلية الشريعة والقانون في جامعة قطر، وهو من أسس هذه الكلية، وبعد أن قضى ثلاث فترات متتاليات في موقعه عميدًا، اقتضت سنة الحياة أن يتغير شخص العميد، وعرض عليه أمير دولة قطر في ذلك الوقت (الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني)، أن يصدر قرارًا بمقتضاه يظل الشيخ في موقعه مدى الحياة، وذلك استثناء له بحكم أنه مؤسس الكلية، خصوصًا أن الشيخ كان مشغولاً في ذلك الوقت في موقعه مستشارًا لجامعة الأمير عبدالقادر الإسلامية بالجزائر، فقال الشيخ أطال الله عمره “بل أفضل أن أرى أحد تلامذتي في موقع العميد … سيسعدني ذلك أكثر من أن أظل عميدًا إلى الأبد”، وهذا ما حدث، وترك منصب العميد، وجاء أحد تلامذته.
لقد حاصروا دور النشر التي تنشر كتب الشيخ بشكل شرعي، ولكنهم نسوا أن كثيرًا من كتب الشيخ تطبع بشكل غير شرعي.
لقد أصبحت كتب سماحة الوالد الشيخ القرضاوي في هذا المعرض فاكهة غالية، وهي متاحة لكل من يرغب، وأجهزة الأمن قبضت ثمن دخولها لقاعات العرض، وفي النهاية بيعت الكتب ووصلت للقارئ الكريم الذي جاء من أصقاع الدنيا كلها.
أجهزة الأمن الفاسدة تمنع الشيء المباح ليصبح محرمًا، ثم تقبض ثمن غض بصرها عن هذه “الممنوعات”!
أستطيع أن أقول بكل ثقة إن مبيعات كتب الإمام القرضاوي، والإمام البنا، والشهيد سيد قطب، لم تصل من قبل إلى مثل هذه الكميات في تاريخها أبدًا، والفضل في ذلك بعد الله لهؤلاء الأغبياء الذين حكمهم الله في مقاليد أمور الثقافة والسياسة في مصر المحروسة.
لقد زادت هذه الدولة الغبية كتب الشيخ إمتاعًا، فهي بطبيعتها تمنح القارئ متعة في القراءة، ولكن بفضل أغبى الأنظمة العسكرية على كوكب الأرض أصبحت هناك متعة أخرى … هي متعة الشراء!
وكأنك تضع لافتة في معرض الكتاب مكتوب عليها (اشتر كتابًا للشيخ القرضاوي واحصل على فرصة “صك” الحكومة على قفاها)!!! أو (اضرب الحاكم على قفاه واشتر كتاب الإيمان والحياة)!!!
كل المطلوب منك أن تذهب لأي دار نشر وأن تقول للبائع (عندك كتب الشيخ؟)، سيقول لك (أي كتاب تريد؟)، ستقول له – مثلاً – (أريد كتاب الحلال والحرام)، سيقول لك (للأسف .. هذا الكتاب ليس عندي، ولكن بإمكانك شراؤه من دار كذا، اسأل المخبر الأسمر الذي تراه في آخر الممر، وسوف يدلك)!!!
زادت المبيعات؟
بل تضاعفت!!!
ولن أشكر تلك الصحافة الغبية، صحافة “الدبة” التي قتلت صاحبها رميًا بالتقارير الصحفية، ولن أشكر رئيس الهيئة إياها، ولن أشكر الغلام الوزير إياه، ولن أشكر التافه المتظاهر بالزعامة والثقافة، ذلك التافه الذي يريد أن يصحح لنا ديننا وهو لايستطيع تلاوة آية، أو قراءة جملة عربية صحيحة … لا شكر لهم، بل أعدهم بمزيد من الانتشار، ومزيد من التصدي لأفكارهم العفنة، ومزيد من الصمود ضد مشروعهم المخابراتي الصهيوني الظلامي.
إن قراءة بعض التقارير الصحفية التي أملتها المخابرات على هؤلاء الحمقى تدفعك للضحك، فهم لا يعرفون مواضيع الكتب، ولا يعرفون معلومات أساسية عن كتب يعرفها القاصي والداني، فهم يظنون أن كتابًا كالحلال والحرام في الإسلام، ذلك الكتاب الذي طبع عشرات الطبعات الشرعية، ومئات الطبعات غير الشرعية، وترجم لأكثر من خمسين لغة … لا يعرفون أن هذا الكتاب لا علاقة له بالسياسة!
إنهم مجموعة من المخبرين، يكتبون تقاريرهم لمجموعة من المديرين المخبرين، وهؤلاء بدورهم يرفعون آراءهم لمجموعة أخرى من الجهلة المخبرين، لكي يصدق عليها في النهاية ضابط حاصل على درجة النجاح (بالعافية).
هؤلاء الحمقى يمنعون كتب الشيخ القرضاوي، ولا يتجرأون على منع كتب أسيادهم الوهابيين السعوديين التي تروج لما يعتبرونه التطرف الحقيقي، والتخلف الحضاري، لذلك لا تلفت نظرهم كتب في دور النشر السعودية، أو حتى في الجناح السعودي الرسمي، عن مواضيع مثل “تحريم تعليم البنات”، أو “فرض النقاب”، أو “تحريم جميع أنواع الفنون”، أو بيع كتب تحتوي على أصول أفكار التطرف والفكر التفكيري الجهادي الحقيقي، الذي يرى في كل فكر مختلف عنه أو معه حرباً ينبغي أن تخاض.
من المضحك أن يتظاهر بعض المسؤولين الرسميين في هذه الأجواء بأنهم مع حرية الفكر، وأنهم لم يصادروا كتاباً، والحقيقة أنهم حاولوا وعجزوا، فرغبة الناس في الكتب، وتعاون أمناء الشرطة … أمور لا تُقهر!!!
في النهاية … لا بد أن يعلم القارئ حقيقة ما حدث، وأنا أسرده باختصار:
دخلت كتب الشيخ القرضاوي معرض الكتاب مثل كل عام، وما قيل كله عن اعتراض الجمهور كذب، لم يعترض على وجود كتب الشيخ سوى أجهزة الأمن، ولكن كما يصدر لنا من يزعم رئاسته للجمهورية بلطجية في مظهر مواطنين شرفاء، فقد صدرت لنا أجهزة الأمن مخبرين في مظهر زوار للمعرض، والرواية كلها مكذوبة من أساسها.
كان التركيز على دار نشر معروفة شهيرة، وكانت غالبية كتب الشيخ قد بيعت بالفعل من اليوم الأول، فقررت تلك الدار ألا تجلب المزيد من المخازن.
استغل ذلك صحفي مخبر، تموله دولة عربية تافهة يعرفها القاصي والداني، فبدأت حملة ابتزاز، فادعت كذبًا أن زوار المعرض اعترضوا على وجود كتب الشيخ في المعرض، وهو أمر لم يحدث إلا في خيال ذلك الطفل المنغولي الذي تربى في سرير ضباط أمن الدولة، حتى فقد قدرته على نطق الحروف بشكل سليم !
بعد ذلك … ارتبك الجميع، فظهر الناشر الشهير يحاول بصفاقة غريبة أن يُقَيِّمَ الشيخ القرضاوي وكتبه رغم أن هذا الناشر أجهل من بقرة، وحاول أن يبرر طباعته لهذه الكتب بأن آراء الشيخ السياسية “متطرفة”، ولكن كتبه “وسطية معتدلة” !
وفي هذا الزمن لوم مثل هذا الناشر الذي سلم نفسه لأجهزة التخابر (تسليم مفتاح) عبث، إذ من الواضح أن من يُمسَكُ عليه أي زلة أو (ذلة) لا يمكن أن تلومه، ولكن في نهاية الأمر سيكون لنا حديث قريبًا، بعد أن نتخلص من المعاتيه الذين يحكمون مصر الآن.
في نهاية الأمر … استمتع الجميع!
وصلت الكتب للقارئ، وحصل السيد أمين الشرطة على (لقمته)، واقتسمها مع من سلطوه علينا، وحصل الصحفي المخبر على الخبر الذي يتقرب به إلى أسياده، وحصل المسؤول الأحمق على ما يريده من التظاهر بأنه لا يمنع كتابًا ولا فكرًا.
ولكن كان الشيخ القرضاوي أكبر الرابحين، فأرباحه المعنوية، وأجره الأخروي بإذن الله كبير كبير، فقد وصلت الرسالة، وانتشرت الفكرة السليمة، وظهر الحق، وزهق الباطل، ومن الممكن أن نسمي معرض كتاب القاهرة هذا العام (معرض القرضاوي) بامتياز!
بارك الله في هذا العلم، وجعله على أعناق أعداء مصر وعملاء الثورة المضادة وكارهي الإسلام أشد من السيف … اللهم آمين.
وكل عام وأنتم بخير.
المصدر: نشر لأول مرة على موقع عربي21