مرّت العلاقات الفرنسية المغربية بشتاء طويل إثر أزمة دبلوماسية اندلعت في فبراير الماضي نتيجة حادثة استدعاء عبد اللطيف الحموشي، مدير الاستخبارات المغربية، من طرف الشرطة الفرنسية من أجل المثول أمام محكمة فرنسية في علاقة باتهامات حول التعذيب وسوء المُعاملة قدمها مغاربة من أصحاب الجنسية الفرنسية ضده، أثناء زيارته لباريس.
حادثة فتحت الباب لسلسلة من الأحداث الأخرى كما سبق وفصّلناها في هذا التقرير، كان من أهم استتباعاتها وقف كل أشكال التعاون القضائي والاستخاباراتي بين البلدين؛ ليستمر الحال على ما هو عليه حتى لحظات عملية شارلي إيبدو الإرهابية التي يبدو أنها حركت الراكد في اتجاه استئناف علاقات التعاون العريقة بين البلدين.
عودة المياه إلى مجاريها
انطلقت أولى جولات الحوار المغربي – الفرنسي حول ملف التعاون القضائي يوم الخميس 29 يناير بين وزير العدل المغربي مصطفى الرميد ونظيرته الفرنسية كريستيان نوبيرا في باريس بهدف معالجة الخلافات بين باريس والرباط في مجال التعاون الثنائي في ميدان القضاء.
وقد صرح الوزير المغربي عقب هذا اللقاء الأول لوسائل الإعلام قائلاً “تطرقنا إلى التعاون الثنائي في المجال القضائي، وعبّر الطرفان عن إرادتهما الراسخة لإيجاد حلول ملائمة للخلافات القائمة في هذا المجال” ، كما أضاف بأن اللقاء دار في جو من الثّقة والاحترام المتبادلين، وبأنه هناك تقدم كبير في اتجاه إيجاد تسوية لهذا الملف العالق بين البلدين.
وأكد الرميد أن المقاربة المغربية لمعالجة هذا الملف تتوخى ايجاد حل لمسألة جمود التعاون الثنائي في المجال القضائي، مكررًا نفيه لما ورد في تقارير تحدثت عن أن المغرب طلب تمتع مسؤوليه بالحصانة فوق التراب الفرنسي، وبأن المغرب يبحث عن تسوية عادلة ضمن إطار ما يتيحه القانون والدستور الفرنسي.
تواصلت المُباحثات يوم الجمعة بين الوزيرين ليتم الاتفاق على تعديل اتفاقية التعاون القضائي واستئناف التعاون القانوني والقضائي بين المغرب وفرنسا؛ ليتم إصدار بيان مشترك وصف هذا التعديل بأنه يكتسي أهمية بالغة، وبأنه يأتي ليتوج مباحثات تم الشروع فيها منذ عدة أشهر من قبل حكومتي البلدين.
وأضاف البيان أن “هذه المباحثات سارت على هدي التوجيهات الواضحة والتشبث الدائم لقائدي البلدين صاحب الجلالة الملك محمد السادس والرئيس فرانسوا هولاند من أجل وضع حد لهذه الوضعية، والعمل من أجل الحفاظ على الشراكة الاستثنائية التي تميز العلاقات بين البلدين.”
وأشار البيان إلى أن الوزيرين توصلا إلى اتفاق حول نص يعدل اتفاقية التعاون القضائي بين فرنسا والمغرب، ويتيح تسهيلاً دائمًا لتعاون أكثر نجاعة بين السلطتين القضائيتين بالبلدين، وتعزيز تبادل المعلومات في إطار الاحترام التام لتشريعاتهما ومؤسساتهما القضائية، والتزاماتهما الدولية.
وخلص البيان إلى أن الوزيرين عبرا عن ارتياحهما للتوصل إلى هذه النتيجة، وقررا الاستئناف الفوري للتعاون القضائي والقانوني بين فرنسا والمغرب، وعودة قضاة الاتصال.
سبع جولات من المفاوضات السرية مهدت لهذا الاتفاق
قال صلاح الدين مزوار، وزير الخارجية المغربي، خلال اجتماع مشترك بين لجنتي الخارجية بمجلسي النواب والمستشارين المغربيين بأن هذا الاتفاق لم يكن مُفاجئًا وأنه يأتي كثمرة سبع جولات مفاوضات بين المملكة المغربية والدولة الفرنسية انطلقت منذ فبراير الماضي، وبأن المغرب خاض هذه المفاوضات مُتحليًا بروح المسؤولية للحفاظ على الشراكة الإستراتيجية مع فرنسا وأيضًا بالحزم في بلوغ الهدف المتوخى وهو إعادة النظر في التعاون القضائي بين البلدين.
مزوار قال أيضًا إن الدبلوماسية المغربية استمرت في العمل على إقناع الفرنسيين أن الموقف المغربي لم يكن مزاجيًا أو وليد قراءة متسرعة للحدث، بل موقف دولة تتحمل مسؤولياتها على أكمل وجه، وبأن موقف المملكة انبنى على ما اعتبرته “محاولة لاستغلال القضاء الفرنسي لأغراض مبيتة من طرف جهات مناوئة لمصالح المغرب مع فرنسا”، مشيرًا إلى جارته الجزائر دون أن يُسمّيها.
وزير الخارجية المغربي أبرز أن إعادة النظر في الاتفاقية المذكورة جاء انطلاقًا من قناعة أساسية وهي أن عدم معالجة الملف عميقًا “سيترك المجال مفتوحًا لكل من فتحت له شهية المس بالمصالح الوطنية وبالمسؤولين المغاربة”، وهي الأمور التي لا يمكن تجاوزها عن طريق الاعتذار فقط، وأن أزمة من هذا النوع إن لم يتم تدبيرها نحو وجود حل لجعل العلاقة إيجابية سنقع في نفس الإشكالية مستقبلاً.
الدبلوماسية المغربية الصاخبة والتي لا تتوانى عن الصراخ عند الحاجة، نجحت وتنجح في تحقيق مكاسب سياسية هامة للمملكة، فبالنظر للمُعلن من الإنجازات وببعض الخيال يُمكننا تخيّل حجم المكاسب غير المُعلنة وهو طريق دبلوماسي شذّت به المغرب عبر حكومتها علّها تفتح به أفقًا لدبلوماسيات عربية لطالما أرعبها الهمس.