هكذا يأتي الخبر: “أحاول أن أتذكر منذ بداية الثورة إن كان هناك من مدينة شهدت أربعين غارة وخمسين قذيفة وأُريق على أرضها دماء أكثر من مئتي وخمسين شخصًا من بينهم اثنين وثلاثين شهيدًا حتى اللحظة والباقي يلوك جراحه وآلامه وبعضهم يبيت بالعراء بعد فقدانه منزله، وكل هذا خلال ساعات على دوما لا أستطيع أن أصفها إلا بالمجنونة، العجلة المجنونة التي تدهس التفاصيل وتدهسنا معها” .
في درجة استجابة المريض لبعض الأدوية، هناك عتبة تصبح فيها القدرة على التأثير والفاعلية معدومة وغير ملموسة، يحكم هذه الحالة مسببين رئيسين: الجرعة المستهلكة والمدة الزمنية التي يتعرض جسد الإنسان من خلالها للمادة الفعالة، ما الذي يذكرني بهذا؟ هناك حدّ فاصل في كل ما نمر به ويؤثر بنا يجعل من تجاوزه – كمًّا ونوعًا – فعلاً متدرجًا ينقل هذا الحدث في وعينا من منطقة تهيّج مراكزنا العصبية والنفسية إلى منطقة ما هو مكرر ومستهلك وقابل للتجاوب، إلى أي حد يحتاج عداد دوما أن ينفجر حتى يدوّي فينا ويوجع وعيَنا؟ كيف نعي دوما في جسدنا كشيء حاد و دقيق يوقظنا كما كان مسبقًا؟
“أًعدِم حرقًا”، كل هذا يأتيني دفعة واحدة ويربطني ويعيدني- بعيدًا عن مصداقية الحادثة البشعة لمعاذ الكساسبة وكل ما آل إليها – إلى السؤال الأول الذي أحاول أن أُجيب عنه دائمًا: إلى أي حدّ يمكن للمنطقة الذهنية المخصصة للاعتياد بالتمدد والاتساع كلما ارتفعت الجرعة التي يتعرض لها الذهن يوميًا للبشاعة، وكلما تواترت هذه الجرعة؟
لقد استطاعت الآلة الوحشية والمادة الإعلامية لها على مدار السنين الماضية بامتياز نقل الذهن العربي من منطقة الحد الفاصل لكل ما جعل من القتل في ذهنه فعلاً يوميًا فاقدًا لصفة التجدد إلى منطقة تدهشه وتثيره، ستنطفئ ربما في أقرب فرصة يتعرض فيها هذا المشاهد لكمّ أكبر ونوع أكثف من الصور العنيفة والمؤذية للحاسة الفطرية الأولى .
هذا الاعتياد كحالة قد يصل إليها الإنسان بعد قدر من الزمن والتأثير والذي يزداد بثبات وبقدر وقعه النفسي الهادئ، له ديناميته النفسية والعقلية والعلائقية المستقلة التي يتحكم بها وتتحكم به، وإن القوى التي تسيّره ويسيرها في رواح ومجيء دائم رغم ما توهمنا به حالته المستكينة، إن هذا الكمّ الهائل من اجتياز الخط الفاصل للفجيعة استطاع بكل هدوء تدنيس القيمة الإنسانية الأولى وانكسار مقدرتها في العودة لفطرة ما بداخلها، كفعل تذكُّرٍ يعيد البشري للنقاء المنشود، ربما رمّز درويش لهذا الفعل الزمني بفكرة أكثر عادية من هذا، في محاولة لمحورة سيطرة الخوف البشري البسيط من الاعتياد في كل ما يقع عليه وفيه حين قال “لا أريد من الحب إلا البداية”.
هل كان كل هذا مما نمرّ به لنروي لأولادنا وأحفادنا لا عن أيامنا التي كان من المفترض أن تكون أجمل من أيامهم – بحكم أن الماضي دومًا كذلك – وإنما لنروي حرب عتبات التحمل والاعتياد التي مورست علينا وأمام أعيننا، والتي استطاعت بعد ما لا يقل عن ألف مذبحة ومجزرة أن تكوّن في أذهاننا مقياسًا ثابتًا وقابلاً للتمدد لمراكزنا الشعورية وما يستفزها ويشجيها ويغضبها ويبكيها، وما بات عاديًا كل الاعتياد بالنسبة لها؟
ما بين معاذ ودوما، تفعل الصورة والمادة والطريقة فعل ضرب السوط على حواسنا وتشويهها بكل تؤدة، يخلف كل هذا الاهتياج أثرًا سرعان ما يضمحل حين تخور القوى الذهنية أمام مُريعٍ جديد، فضاء هذا الدويّ هو الروح، تامة الالتئام والانسجام مع كل اضطراب وسكون، تامة النكوص يأسًا واكتفاءً مع كل بهتان للشعور الفردي البسيط المنفعل ضد البشاعة.
هل من المنصف أن نطالب بموت مدوّ؟ ككلّ من طالب به قبلنا، لا نصل فيه مرحلة أن نتابعه كما نتابع فيلما وثائقيًا عن الحياة البرية في ناشونال جيوغرافيك؟ لا نتمنى الدوي الكافي للموت، لم يكن الموت يومًا ما مخيّرًا في انتقاءاته المؤثرة، ما بين معاذ ودوما جل ما نتمناه أن يبقى القلب متصلاً بهذه الحركة المضطربة التي تأكل تفاصيلنا ومراسم وجودنا، جل ما نتمناه أن يحيا هذا المرتعش فينا بقدرة كافية على ممارسة الإصغاء الكامل للخبر دون تجاوزه، وألا يكون للموت فينا إلا أثر البدايات فنستحق حالة الآدمية التي يجب أن نكون عليها .
البدايات دومًا، لا أكثر.