وأخيرًا أصبح للتونسيين حكومة، وأُسدل الستار على مسلسل طالت حلقاته وأَقَضَّ مَضْجع التونسيين من السياسيين وغير السياسيين نظرًا لخصوصية المرحلة وصعوبتها، فبعد أكثر من شهرين على صدور نتائج الانتخابات التشريعية وبعد فشله في تمرير مقترحه الأول المتمثّل في تشكيلة وزارية لم تلب رغبات الجبهة الشعبية رغم نزعتها اليسارية الواضحة ولم تنل رضاء النهضة وآفاق تونس وطيف من داخل النداء نفسه، أعلن الحبيب الصيد تركيبة حكومته الثانية وعرضها على أنظار نواب الشعب لنيل رضاهم بعد أن أدخل عليها تحويرات جزئية لكنها ذات مغزى، فتحققت له مباركة مجلس الشعب بأغلبية مريحة تجعل من حكومته حكومة قوية قادرة على العمل بأريحية وتمرير برنامجها وقوانينها من دون أن تجد صدًا قويًا من المجلس خاصة وأن المعارضة أصبحت ضعيفة وانحصرت في فريقين من الصعب أن يتوحّدا، الأول تمثله “الجبهة الشّعبية” والثاني نواب “المؤتمر” و”التيار الديمقراطي” وبعض الأحزاب الأخرى التي لا يزيد عدد نوابها عن النائب الواحد كالتحالف الديمقراطي والجمهوري، هذا الضعف وهذا التشتت سيجعل المعارضة غير قادرة على منع أية سياسات تعرضها الحكومة على البرلمان.
هل هي حكومة وحدة وطنية؟
لا يمكن أن نُصنِف حكومة الصيد كحكومة وحدة وطنية لأنّها لم تشرك جميع القوى الرئيسيّة الفائزة في الانتخابات وأهمها الجبهة الشعبية الرافضة لكل تقارب مع النهضة مهما كان شكله، وليست حكومة سياسية بحتة ولا حكومة كفاءات، هي حكومة توافقات أو إرضاءات كما يحلو للبعض تسميتها، لكنّها قوية بحكم مساندة أربعة أحزاب لها أهمها النهضة والنداء خاصة إذا اتفق أعضاؤها على برنامج لتجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد خلال السنوات الفارطة ومحاصرة أهم المشاكل والأخطار التي تهدد معيشة المواطنين وسلامتهم، وتُخرج البلاد من النفق المظلم الذي أصبحت فيه.
لكن العديد من الملاحظين يشكّكون في قوتها ويرونها هشة لا تقدر على الصمود طويلاً، ولن تنجح في التعامل الجيد مع متغيرات الظّرف السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الأمني الذي تمر به البلاد خاصة وأنها لم تخضع لأي منطق سياسي ولا تعكس نتائج الصندوق والأسباب التي أنتجت تلك النتائج، فالجميع يعلم أن الانتخابات البرلمانيةّ الأخيرة قامت على مبدأ “التصويت الإيجابي” الذي يدعو إلى التصويت على قاعدة التنافي والإلغاء (من لم يكن معي فهو مع خصمي) وقد اعتمده الخصمان الأساسيان نداء تونس والنهضة في حملتهما الانتخابية، فكيف يفسر التقاء هذين الخصمين في حكومة الصيد وهما حسب ما روج في الحملة الانتخابية نقيضان يحمل كل واحد منهما مشروعًا مختلفًا عن الآخر؟ وكيف يقبل حزب فائز في الانتخابات بُني أساسًا على معارضة حركة النهضة وشيطنتها وتخويف الناس منها ومن برنامجها أن تشاركه هذه الحركة الحكم ولو بصفة رمزية؟
إن المؤكد كما قال الطاهر بن حسين، أحد مؤسسي الحزب إن بصمة الباجي قائد السبسي في تركيبة الحكومة واضحة وأن الرئيس السابق لحركة نداء تونس هو صاحب القرار الأول والأخير وهو من دفع نحو إشراك النهضة في الحكومة رغبة منه في تحقيق الاستقرار مهما كان الثّمن، وأن “نداء تونس أثبت بعد الإعلان عن حكومة الصيد أنه حزب ليس لديه مشروع على اعتبار أن من صوت له في الانتخابات التشريعية إنما صوت لإقصاء النهضة من الحكم وبالتالي فإن هذه الحكومة لا تلبي رغبات هذا الطيف من الناس” (1)، وهذا ما ذهبت إليه أيضًا بعض القيادات اليسارية لهذا الحزب، حيث قدّموا اعتذاراتهم لمنتخبيهم ووصف بعضهم ما حدث بأكبر عملية تحايل على الرأي العام.
ثم كيف نفسر قبول الوطني الحر بنفس عدد وزارات آفاق تونس وهو الذي لديه من النواب ضعف ما لدى آفاق؟ هل يدخل ذلك في قطع الطّريق أمام استفزازات حزب آفاق تونس الذي سعى لاستبعاده من التشكيلة الحكومية؟ خاصة وأن الأخبار تؤكد أن العلاقة بين هذين الحزبين ليست على ما يرام وأن التراشق بالتهم والاستفزازات متواصل بينهما ولعل ما حدث وشاهده التونسيون على شاشة إحدى القنوات الخاصة مباشرة بعد الإعلان عن تركيبة الحكومة من تبادل للشتائم بين إحدى قياديات آفاق تونس وإحدى قياديات الوطني الحر خير دليل على ما سبق ذكره.
فهل تكون المعادلات والتوازنات الهشة التي أنتجت هذه الحكومة سببًا في عدم صمودها وبالتالي سقوطها بعد فترة وجيزة لتعود البلاد إلى نقطة الصفر وما تحمله هذه العودة من مخاطر على أمن البلاد واستقرارها؟
هل أخطأت النهضة في قبولها المشاركة؟
يسأل البعض باستغراب كيف توافق حركة النهضة على حقيبة وزارية يتيمة وهي القوة السياسية الثانية في البلاد ولديها تسعة وستون مقعدًا في البرلمان. “أليست هذه المشاركة مُهينة؟ وهل أن مشاركتها كانت بدافع المشاركة في إنقاذ الوطن أم بدافع محاصرة الحصار؟ أمّ كان الأفضل ألاّ تشارك بأي مستوى؟” (2)
انطلاقًا من تجربة النهضة في الحكم وما شهدته خلال السنوات الأربع الماضية من تضييق وعرقلة وما أفرزته الانتخابات التشريعية والرئاسية من نتائج، فإن موقع النهضة الطبيعي هو المعارضة، فهي القوة السياسية الوحيدة القادرة في الوقت الراهن على إعطاء المعارضة حجمها الحقيقي المطلوب حتى تمنع الانحراف عن الخط الديمقراطي للبلاد وتحاصر عودة الظّلم والاستبداد، لكنّ هشاشة الوضع السياسي وصغر عمر التجربة الديمقراطية وغياب ثقافة الاختلاف والتعدد لدى جزء كبير من النخبة ومن الشعب يجعل من فكرة التوافق وإن كان مغشوشًا قارب النجاة الوحيد لمنع الانتكاسة ووأد التجربة الديمقراطية برمتها، ولهذا فقد تكون النهضة اختارت عن طواعية ألا تقود المعارضة ولا تكون في المقابل موجودة بقوة في الحكم حتى لا تفقد حقها في المعارضة نهائيًا مع تمثيلها داخل الحكومة ولو بصفة ضعيفة لتبقى على علم بما يحدث في كواليس الحكم وتتابع بعض الملفات الهامة المتعلقة بمصيرها ومصير التيار الإسلامي بصفة عامة في ظل العداء المصرح به من طرف التيار الاستئصالي المهيمن على وسائل الإعلام وبعض المواقع الإستراتيجية في الدولة.
لقد سعت النهضة منذ مدة وحتى قبل الانتخابات إلى كسر التحالف اليساري مع النداء وذلك عبر مناورات عديدة أهمها طرح فكرة الرئيس التوافقي، لكنها لم تفلح وها هي اليوم تحقق هذا المكسب بمشاركتها الرمزية في حكومة الصيد بل تزيد عليه حيث تعمقت الفجوة بين النداء وحليفه السابق “الجبهة الشعبية” وظهر بالمكشوف من خلال تصريحات قياديي الجبهة أن حبل الود مع النداء قد انقطع وأن ما حصل هو بداية فك الارتباط (3).
كما أن حركة النهضة استطاعت بذكاء وبطريقة غير مباشرة أن تزيح المرشحة لحقيبة وزارة المرأة الدكتورة خديجة الشريف وهي المعروفة بتوجهها اليساري وبعدائها الواضح للإسلام السياسي وخاصة حركة النهضة.
لكن هناك من يرى أن تشريك النهضة إنما يدخل في خانة التكتيك السياسي من طرف نداء تونس الذي لم يستطع إبعادها (فشل الحكومة الأولى) فأسند لها وزارة التكوين المهني والتشغيل وهي وزارة ملغومة كما يقولون، حيث يستبعد أن يجد زياد العذاري الحلول المناسبة لتشغيل آلاف العاطلين عن العمل نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد وغياب أفق الاستثمار القادر على خلق مواطن الشغل وهو ما سيجعله وحركته في مرمى الحركات الاحتجاجية للشباب المعطّل ووسائل الإعلام التي ستُحمّل كالعادة حركة النهضة مسؤولية الفشل ويمكن أن يكون ذلك مدخلاً لإقصائها من الحكومة.
أفضل السيناريوهات
بالرغم من التوافق المغشوش بين النداء والنهضة والذي أملته النظرة البراغماتية لقيادييّ الحزبين وعلى رأسهم الشيخان راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي والظروف التي تعيشها التجربة التونسية والوضع الإقليمي، بالإضافة إلى ضغوطات وتوصيات الجهات الخارجية المانحة والمقرضة التي أصبحت كما يقول الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية والناشط الاجتماعي الأمين البوعزيزي “تقضي بفرض مصالحها عبر بناء مشهد سياسي تداولي يحمي مصالحها وفق مقاربة الاستبداد الديمقراطي بعد طول عقود من حفظ مصالحها عبر مقاربة الاستبداد المتخلف حيث يحكم الحزب الواحد عبر الانقلاب”(4)، بالرغم من ذلك فإن ما حدث يعتبر أفضل سيناريو لتونس وهو في عيون الأكثر تفاؤلاً بداية علاقة جديدة بين الخطّين الحداثي والإسلامي، فقد جمعت حكومة الصيد أعداء الأمس في فريق واحد، وبالرغم من أن التركيبة غير متوازنة فإن ذلك قد يكون بداية الحل ونقطة الانطلاق لخلق ثقافة جديدة تقطع مع الإقصاء وترسي قواعد للتعاون والتكاتف من أجل تحقيق مصالحة وطنية تضمن للتونسيين والتونسيات مستقبلاً أفضل.
وإذا كان من مخاطر التقاء الحزبين الكبيرين في خندق الحكم سيحرم البلاد من وجود معارضة قوية وشرسة، فإن ذلك سيفرض على بقية الأحزاب الموجودة تحت قبة البرلمان أو خارجه أن توحد جهودها وتبحث عن أرضية مشتركة تجمعها حتى لا تبقى السلطة التنفيذية بلا رقيب ولا حسيب .
لكن المتشائمين وهم كثر يرون أن هذا السيناريو قـد أطلق رصاصة الرحمة على الثورة التونسية وأصبحت أحلام الشباب الذي قدم من أجلها الغالي والنفيس في خبر كان، ذلك أن الترويكا الجديدة التي تنطلق بأغلبية مريحة من نواب الشعب متكوّنة أساسًا من أحزاب غير ثورية وذات نزعة ليبيرالية ستمرر بلا عناء جملة من الإجراءات التقشفية الموجعة التي ستكون آثارها كبيرة ومدمرة على الطبقات الشعبية الفقيرة وستزيد في معاناتها وبالتالي سترفع حدة الاحتقان وفي درجة الغليان في الشارع، كما أن أغلب مكونات التشكيل الحكومي لا يعبرون عن طموحات أطياف كثيرة من الشعب وأنهم لن يتجرأوا على فتح الملفات الحارقة وفرض إصلاحات قوية ومقاومة الفساد والتهريب وكسر شوكة الإرهاب والحد من تفشي البطالة والفقر.
بل إن البعض يذهب إلى أن عدم التجانس داخل حكومة الصيد سيدفع ببعض الوزراء ذوي الميولات الأيديولوجية المعادية للإسلام السياسي والذين عبروا سرًا أو جهرًا عن استيائهم من تواجد وزير نهضاوي بينهم، إلى خلق المشاكل ومحاولة تعطيل عمل الحكومة وإفشالها بالاستعانة بحلفائهم من إعلاميين ونقابيين وجبهويين نكاية في الفريق الذي سعى إلى تشريك النهضة وأفشل مخططاتهم في عزلها ومن ثم تشويهها واستئصالها؛ وبالتالي فإن المواجهة حاصلة لا محالة وهي مسألة وقت لا غير ويومها سيعلم الذين دعو إلى الوفاق أي منقلب ينقلبون.
الانتظار ثم أخذ القرار
سوف لن نكون مع المتشائمين ولن نفقد الأمل في رب العالمين، وسنعمل بقاعدة “العبرة بالنتائج لا بالنيّات ولا بالبيانات”؛ وبالتالي فإننا سننتظر وننظر في عمل الحكومة ومآلاته ثم نحكم لها أوعليها، لأن نجاح الحكومة من فشلها يتعلق بعمل الحكومة نفسها وبمقومات النجاعة والفاعلية التي ستكتسبها بمرور الأيام وبكيفية تعاملها وتفاعلها مع الواقع التونسي بجميع أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومدى صواب قراءتها للوضع الإقليمي والعالمي، فالمطلوب من الفريق الحكومي أن يضع خلافاته السياسية جانبًا ويعلم بأنه في سباق مع الزمن ويقوم بتكثيف الجهود، والمرور إلى العمل الفوري، ومعالجة المسائل والملفات الملحة، ومجابهة الرهانات والتحديات في سائر الميادين والقطاعات، بالإضافة إلى فتح باب المشاركة لمن يريد المساهمة في إنقاذ البلاد وتحقيق بعض أهداف ثورة شعبها، وعلى الجميع أن يضع مصلحة تونس بين عينه ويعلم أن فرص النجاة قليلة ولابد من استغلالها على أحسن وجه، وأن الأخطار كثيرة تتربص بنا وتنتظر الفجوة التي قد نصنعها بأنفسنا عبرغلق باب الحوار وفتح باب المواجهة.
—————————–
(1) الطاهر بن حسين في برنامج بوليتيكا على أمواج إذاعة جوهرة آف آم يوم 02 فبراير 2015.
https://www.jawharafm.net/ar
(2) الشاعر البحري العرفاوي على جداره الفيسبوكي يوم الإثنين 02 فبراير 2015.
(3) عمار عمروسية في نشرة أخبار السابعة صباحًا ليوم الثلاثاء 03 فبراير 2015 على موجات إذاعة جوهرة آف آم وإذاعات أخرى حيث صرح أن الحكومة التي أعلن عنها الحبيب الصيد هي حكومة متكونة من أحزاب ليبرالية متوحشة سواء كانت بغطاء ديني أو بغطاء حداثي كاذب.
(4) تصريح الأمين البوعزيزي للموقع الإلكتروني الشاهد بتاريخ 03 فبراير 2015.