نجحت حكومة الحبيب الصيد في امتحان موافقة مجلس نواب الشعب كما كان مُتوقعا متحصلة على تزكية 166 نائب، تزكية قد يفهم منها الوافد على المشهد التونسي نجاحًا في توفير الاستقرار المنشود خاصة إثر اعتيال الناشط السياسي شكري بلعيد منذ سنتين مضت (والذي تحيي تونس ذكرى اغتياله في هذه الأيام)، إلّا أن الأمر على عكس ما يبدو عليه مُزخرف بصنوف شتى من المصاعب والتحديات.
قليل من الإيجابية
حتّى لا نكون عدميين، من المهم الإشارة إلى أن النجاح في تشكيل حكومة تحظى بمثل هذه القاعدة البرلمانية الواسعة في خضم السياقات التي تمر بها البلاد يستحق الإشادة، فالأمر لم يكن بالبساطة التي قد نتخيلها، فالإعلان عن نُسخة أولى ووجهت برفض أغلب الطيف السياسي ثم الاضطرار لما سُمّي بالبدعة السياسية التونسية المُتمثلة في المُضيّ نحو تحوير وزاري لحكومة لم تُشكّل بعد يُشير بوضوح إلى عُسر المهمة، وجب أيضًا تثبيت حقيقة انتصار فكر التوافق على فكر الاستثناء والإقصاء باعتبار أن الفارق بين الحكومة المرفوضة والحكومة المقبولة يتعلق بذهنية تشكيلها؛ فالحكومة الأولى اكتفت بتشريك نداء تونس والاتحاد الوطني الحر وبعض الوجوه اليسارية المُستقلة حزبيًا، في حين مضت الحكومة الثّانية نحو الانفتاح على حركة النهضة وحزب آفاق تونس، وبالإضافة غلى ما سبق، تجلّى انتصار التوافق على منطق الإقصاء من خلال ضم الحكومة الجديدة لمن نادى بالتوافق منذ الحملة الانتخابية وأعني حركة النهضة المُحافظة وأيضًا من خلال إقصاء من اشترط إقصاء أطرافًا بعينها وأعني الجبهة الشعبية.
رغم كل الإيجابية التي يُمكن أن نستشعرها من مشهد تزكية الحكومة الجديدة التي ستسهر على إدارة شؤون التونسيين، من المُهم أن نتفطّن إلى حجم الصعوبات التي ستُواجه الصيد وتشكيله الحكومي.
الحزب الحاكم.. لم يتشكّل بعد!
نظّم النائبان خميس كسيلة وعبد العزيز القطّي ندوة صحفية في بهو مجلس نواب الشعب أثناء مداولات الأخير حول التشكيل الحكومي الجديد، ندوة قاما فيها بإعلان رفضهما للحكومة المُقدمة ووسموها بحكومة الترضيات والعلاقات الشخصية بالإضافة إلى كونها حكومة خيانة للناخبين باعتبار تشريك حركة النهضة، وهو ما تترجم عبر تصويتهما بالتحفظ على حكومة مُكوّنها الأساس الحزب الذي ينتميان إليه.
من جهة أخرى، وعند مُتابعة كواليس وأخبار الحزب المُتحصل على الكتلة البرلمانية الأكبر، نلحظ بسهولة هيمنة الرافد اليساري على مختلف أركان الحزب من قيادة تنفيذية وأيضًا من تمثيل وزاري، فباستثناء رئيس الحزب بالنيابة، لا يمكننا الحديث عن حضور للرافد الدستوري رغم حقيقة كونه الجسم الأكبر داخل هذا الحزب، هذا التمثيل الضعيف تجلى في الأشهر التي تلت نتائج الانتخابات فلم نسمع لـ “دساترة” النداء لا إشارة ولا تصريحًا بل استأثر اليساريون بالمنابر الإعلامية ولا نُجانب الصواب حينما نقول إن الحبيب الصّيد لم يتفاعل مع حزب نداء تونس وإنما تفاعل فقط مع الشق اليساري فيه، وهو ما يُفسر ربما الارتباك في مرحلة ما ثٌم تحول رؤية هندسته لتشكيله الحكومي خاصة مع تدخل مُتوقع من الباجي قائد السبسي كرئيس للحزب وليس كرئيس للجمهورية.
بعد مغادرة مؤسس الحزب نحو قصر قرطاج الرئاسي واحتفاظ الطيب البكّوش بمنصب الأمانة العامة بالموازاة مع حقيبة وزارة الخارجية، سيحتاج “الدساترة” (نسبة لورثة النظام القديم) الذين يُعانون من غياب من “يُمثّلهم” كمركز ثقل قيادي، لترتيب صفوفهم من أجل التهيكل داخليًا وإفراز قيادة دستورية تنازع القيادة اليسارية المُهيمنة داخل الحزب نُفوذها، هذا الصراع سيكون حاسمًا ومحددًا في المؤتمر التأسيسي للحزب خلال شهر أبريل المقبل.
أن يكون الحزب القائد للتشكيل الحكومي بمثل هذا الاهتزاز الداخلي وخاصة أن يعقد مؤتمرًا تأسيسيًا قد يقلب موازين القوى داخله، فهذا سيكون له انعكاس مباشر على الحكومة المشكّلة وسيضطر الصيد إلى التعاطي مع تقلباته، فهو على رأس حكومة يقودها حزب لم يتشكل سياسيًا (هوية وموازين قوى داخلية) بعد.
الانسجام الحكومي والبرامجي
أدى التأخير في الخوض في الشأن الحكومي من قِبل نداء تونس تحت تعلة الانكباب على استحقاق الانتخابات الرئاسية التي مضت في جولتين إلى تهميش الجانب البرامجي في الحكومة المُزكّاة، فرغم ما قيل عن إنشاء لجنة لدراسة نقاط الالتقاء بين البرنامج الاقتصادي لنداء تونس ونظيره لدى حركة النهضة، لم يتم الخوض بشكل جدي في برنامج الحكومة من طرف مختلف الأطراف المشاركة فيها وهو ما عبّر عنه مثلاً حزب آفاق تونس الذي سبق وأن انسحب من مشاورات الحكومة الأولى متعلّلاً بهذا السبب، وهو ما يظهر أيضًا من خلال المحافظة على برنامج الحكومة المرفوضة وتقديمه أثناء عرض الحكومة الثانية رغم تطعيمها بطرفين سياسيين جديدين.
بالإضافة لغياب الاتفاق البرامجي بين الأطراف المشكلة للحكومة بالشكل الذي يسمح لها بالعمل دون مطبات، سيضطر الصيد للتركيز على مسألة الانسجام والتضامن الحكوميين خاصة مع احتواء حكومته لأطراف متناقضة سياسيًا لعل أبرزها الحزب الوطني الحر وآفاق تونس الذين سبق وأن تلاسنت ممثّلتيهما في برنامج تلفزيوني الأسبوع الفارط بما يفيد توتر العلاقة بين الشريكين الحكوميين، في ذات السّياق، تحوي الحكومة شخصيات صرحت بعدائها لحركة النهضة وبضرورة عدم تشريكها، وهددت أصلاً برفض الوزارات المقترحة عليها في حال سجل الحزب المحافظ حضوره وأعني الطّيب البكوش، وزير الخارجية الحالي، وسعيد العايدي، وزير الصحة، وبتصريحات مثل هذه سيكون على الصيد العمل كثيرًا من أجل خلق تضامن حكومي حتى لا تندلع حروب باردة تُؤذن بخراب الحكومة والبلاد.
من جهة أخرى، احتفاظ الطيب البكوش بمنصب الأمانة العامة لحزب نداء تونس الذي كلف الحبيب الصيد بتشكيل الحكومة رغم تمكينه من حلمه بشغل منصب وزير الخارجية، سيؤدي إلى نشوء حكومة برأسين؛ فأما الرأس الأول فسيكون الحبيب الصيد بحكم موقعه الطبيعي كرئيس للحكومة، أما الرأس الثاني فسيكون الطيب البكوش مستفيدًا من تمثيله للحزب الأكبر برلمانيًا تمثيلاً مباشرًا (عبر الأمانة العامة)، وبالتّالي سيكون صوته أعلى من باقي الأصوات، ومستفيدًا أيضًا من رصيد الوزراء الندائيين ومن تاريخه اليساري الذي سيسمح له بتوجيه أو استيعاب الوزراء اليساريين المستقلين حزبيًا، وهي وضعية ستدفع الرجل بحكم تاريخه وشخصيته إلى محاولة سحب البساط من تحت قدم الصيد لتحويله إلى آلة إمضاءات وهو ما لن تقبله بقية الأطراف.
حكومة الأضلع الهشة
وردت الحكومة المزكاة خماسية الأضلاع، أضلاعها نداء تونس ويساريون مستقلون وآفاق تونس والوطني الحر وحركة النهضة، وبالنظر إلى ماهية هذه الأضلع نلحظ بسهولة هشاشتها، فحزب نداء تونس كما بيننا سابقًا هو حزب لم تتشكل هويته السياسية الدائمة بعد باعتبار عدم عقد مؤتمره التأسيسي الذي سيفرز أدبيات تُحدد مساراته وسيفرز أيضًا موازين حقيقية تعوض الموازين الحالية التي لا تعكس جوهره القاعدي.
من جهة أخرى، الحزب الوطني الحر هو حزب ناشئ ترتبط سياساته بمزاج رئيسه ومؤسسه، رجل الأعمال سليم الرّياحي، و الذي يُقدر كثيرون بأن هذا الحزب هو امتداد لشركته القابضة وبأن محرار ثباته السياسي سيتعلق بمدى نجاحه في ضمان مشاريعه الاقتصادية وفي منطق التجارة، الربح أولاً وأخيرًا.
الضلع الثالث الهش هو آفاق تونس، وهوحزب ليبرالي ناشئ نجح في جلب الانتباه من خلال أدائه الحزبي المنظّم والعصري، إلا أن حزب الكفاءات التقنية كما يطلق عليه قد يعاني صعوبة في التأقلم مع مقتضيات الفعل السياسي في الحالة التونسية، وليس مستغربًا أن ينسحب من الحكومة باكرًا كما سبق وأنهى توأمته مع الحزب الديمقراطي التقدمي التي أفرزت الحزب الجمهوري، خاصة وأن زعيمه ياسين إبراهيم الذي سبق له وأدار كبريات الشركات في مجال المعلوماتية قد يصعب على الصيد إبهاره وضمان تأقلمه.
حركة النهضة بدورها، رغم ما تقوله قياداتها عن أن قبولها بتمثيلية ضعيفة لا تعكس وزنها البرلماني أو الشعبي (تحصلت على وزارة ثلاثة كُتاب دولة) يعكس مدى حرصها على تحمل مسؤوليتها الوطنية في هذه اللحظات الصعبة، إلا أنه حسابيًا لن تخسر الكثير في حال قررت الانسحاب من الحكومة لسبب أو لآخر، فمُعطى المسؤولية الوطنية الذي حضر أثناء قبولها بمثل هذه المشاركة الخفيفة والغير مقنعة في حكومة الحبيب الصيد قد يحضر لتبرير خروجها منها وهشاشة ضلع النهضة يعود بالأساس إلى هشاشة تمثيلها.
وبالنسبة للمستقلين اليساريين، فيعوزهم التمثيل البرلماني وبالمنطق الحسابي هم كأفراد لم يقدموا شيئًا لحكومة الحبيب الصيد على عكس بقية الأضلع التي دفعت مهرها تزكيات برلمانية؛ ونظرًا لما يُقال عن اكتناز بعضهم لتطرف أيديولوجي قد ينعكس على أدائهم، من المنتظر أن تثور ضدهم سيل من الاحتجاجات قد تُعجل بانسحابهم أو إبعادهم.
دع حتى تقع
الثابت أن ما أوردناه من تحليل ليس عصيًا على الفهم أو الإدراك لدى مُحركي الشأن السياسي في تونس، والثّابت أيضًا أن المطابخ السياسية في الدكاكين الحزبية تخوض منذ لحظة تزكية الحكومة فيما بعد تزكيتها، فحكومة الصيد وإن أطلق عليها تسويقًا حكومة التوافق ورغم التزكية البرلمانية المحترمة التي حظيت بها، نظلم التوافق الحقيقي إن وسمناها به، فالتوافق يحتاج أرضية صلبة لا أعتقد أنه تم العمل بالشكل الكافي من أجل خلقها.
تختلف التقديرات حول أمل الحياة عند ولادة هذه الحكومة، وتختلف القراءات حول طبيعتها بين من يُقدّر أنها حكومة تصريف أعمال ثانية إلى حين استقرار المشهد السياسي المتحرك، وبين من يحدوه الأمل بأنها الحكومة التي ستُباشر الإصلاحات العميقة التي تحتاجها البلاد.
يبدو أن ضيق الوقت وصعوبة المرحلة وتأخر تشكيل الحكومة دفع الجميع إلى المضي في تشكيل حكومة الحد الأدنى التي تحظى بالتزكية، وبأنها وإن لم ترتق إلى مستوى حكومة الوحدة الوطنية أو الاتفاق الوطني، إلّا أنها خلقت توافقًا حول مبدأ دع حتى تقع في علاقة بالإشكاليات المنتظرة التي قد تهز بعنف جسم حكومة الأضلاع الهشة التي ستشكو من متلازمة الانسجام الحكومي والبرامجي في ظل حزب حاكم لم يتشكّل بعد ورغم الإيجابية التي قد نُثمّنها من النجاح في تشكيلها.
قد تتباين الآراء حولها، لكن وجب أن تتعاضد كل الجهود من أجل ألا تسقط هذه الحكومة باكرًا بالنظر إلى أن الوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد لم يترك فسحة للاحتراب السياسي، ورغم القلق، نتمنى لهذه الحكومة تحقيق شيء من النجاح ، فدونه لن يبقى في تونس بلد حتى يُساس.