نطرح هنا سؤال قبل أن ندلف إلى تفاصيل الموضوع: هل بإمكان الملك سلمان بن عبد العزيز أن يضيف ورقة للتوازن الإقليمي سلبًا أو أيجابًا، خصوصًا والمملكة في وضع جيوسياسي لم يعد لصالحها بالمرة ليس منذ 11 سبتمبر 2001 حيث انطلقت سياسة “نقض شرق وإقامة آخر”، بل منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي حيث أدت تداعيات استخدام النفط كسلاح في الحرب ضد إسرائيل إلى انقلاب جيوسياسي كبير ترافق مع تغيير في معظم حكام الشرق الأوسط، وختامه كان ذهاب الشاه واستلام الخميني السلطة في إيران عام 1979، استلام الخميني وسقوط الاتحاد السوفيتي في 1990 وانطلاق العولمة وانحراف السياسة الدولية من علاقة دولة مع دولة إلى علاقة دولة مع عوامل اللادولة الذي افتتح موسمه الأول في 11 سبتمبر 2001؛ جعل المملكة في مهب الريح الدولية؟ مرة أخرى هل يمكن للسعودية في ظل الملك سلمان بن عبد العزيز في 2015 أن توقف أو تؤجل الانقراض الجيوسياسي العربي الجاري العمل بموجبه منذ 11 سبتمبر 2001؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لابد أن نضع إصبعنا على جرح التوازن المختل بين أهم دولتين إقليميتين في الشرق الأوسط ليس منذ 1920 بل منذ 1514، وهما تركيا وإيران، حتى نرى أين ستصب ورقة الملك عبدالله المأمولة إقليميًا؛ هل في صالح تركيا أم إيران أم بينهما؟ إذن نذهب أولاً إلى تفصيل وضع ميزان القوى الإقليمي، تركيا وإيران منذ 2003 أي منذ احتلال العراق فنقول: بعد انفراط عقد التحالف التركي الإسرائيلي الذي تشكل في عهد جمهورية أتاتورك وانفرط في عهد جمهورية أردوكان تحديدًا في 2009، واستمرار تحالف إيران مع سوريا الذي تشكّل بعد ثورة إيران 1979، اختل التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط لصالح إيران وبقيت تركيا بلا تحالف إقليمي يوازي تحالف إيران مع سوريا.
ومعلوم أن تركيا وإيران كدول متوسطة القوة أُنيط بهما حفظ توازن القوى في الشرق الأوسط القائم منذ 1920 والذي انكسرت همزة توازنه باحتلال العراق في 2003، حيث يمثل العراق همزة وصل التوازن بين تركيا وإيران خصوصًا ومجمل الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط عمومًا، فاحتلال العراق وانفراط تحالف تركيا مع إسرائيل رجح كفة إيران على تركيا بعد انكسار توازن القوى التقليدي منذ 2003؛ فربحت إيران بذلك ثلاث أوراق من اختلال التوازن هذا: ورقة باحتلال العراق وأخرى بانفراط تحالف تركيا مع إسرائيل وثالثة باستمرار تحالف إيران مع سوريا، ولم يقف اختلال التوازن هذا بين تركيا وإيران عند هذا الحد، بل وأضافت إيران لتحالفها مع سوريا شبكة إقليمية من عوامل غير دولية مرتبطة بفيلق القدس الإيراني ابتداءً بحزب الله في لبنان الذي تشكل غداة ثورة إيران في 1979 وانتهاءً بالحوثيين في اليمن الذين أسقطوا صنعاء في سبتمبر 2014 مرورًا بمليشيات لا حصر لها في العراق والشام، في حين أن تركيا لا تملك تحالفًا إقليميًا مع عوامل غير دولتية مثل إيران اللهم إلا إذا اعتبرنا أن تقارب تركيا مع حماس ومع إقليم كردستان في شمال العراق ضمن هذه المنظومة، مع فارق أن علاقة تركيا مع حماس أو حكومة كردستان هو تقارب سياسي أكثر منه تحالف أمني سياسي إستراتيجي كما تفعل إيران.
وإيران إذ تتساوم هنا مع تركيا على نموذج علاقة إقليمية وسط غياب عربي فاضح منذ 2003، فإن كفة إيران بشبكة تحالفاتها دولة مع دولة “إيران – سوريا” ودولة مع عوامل غير دولتية رجحت على كفة تركيا؛ فاختل التوازن الإقليمي بين تركيا وإيران أكثر فأكثر ومرة بعد أخرى خصوصًا وأن تركيا تمتاز بسياسة القوة الناعمة التي لا تعمل عادة في ظروف الفوضى التي سادت العراق بعد احتلاله ولازالت.
ولم يقف اختلال التوازن لصالح إيران في الشرق الأوسط عند هذا الحد، فقد انطلق الربيع العربي في 2011 ووقفت تركيا إلى جانبه وخاصم حكام العرب تركيا بعد الربيع العربي، إذ اعتبروه نموذجًا إقليميًا منافسًا لنمط حكمهم السائد منذ 1920؛ فاستفادت إيران مرة ثالثة بورقة رابحة من خصومة أنظمة العرب مع تركيا، وياليت حكام العرب نافسوا إيران في العراق بعد احتلاله في 2003 ولم يتركوا تركيا وحدها تواجه ذلك، لكنهم غابوا عن العراق منذ 2003 فلما قام الربيع في 2011 وقفوا ضد تركيا ففقدوا ورقة إقليمية رابحة كان بإمكانهم أن يكسبوها مرتين: مرة باتفاقهم مع شعوبهم على إصلاحات وأخرى بالتقارب مع تركيا، لكن سبق السيف العذل وذهبت الأوراق أدراج رياح إيران، فلا هم كسبوها ولا تركوا تركيا تساوم إيران بها؛ فاختل التوازن وبلغ حدًا لم يبلغه من قبل لصالح إيران خصوصًا وأن إيران تنافس تركيا بملفها النووي وجلوسها معهم ضمن 5+1 وهو ملف مكمل لملف إيران الإقليمي الأخطر.
نحن هنا لا ننكر أن تركيا مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي وعضو في الناتو وتتمتع باقتصاد قوي وبعلاقة تساوم إقليمية مع إيران، لكننا نضع إصبعنا على مواضع اختلال التوازن في الشرق الأوسط منذ 2003 لصالح إيران، والآن وقد تشكل تحالف دولي ستيني ضد داعش وسقطت صنعاء بل واليمن ودخلنا عام 2015 وهبطت أسعار النفط ورحل الملك عبد الله وحل الملك سلمان وعاد ثوار 25 يناير في مصر، فهل يمكن أن يتعدل ميزان القوى الإقليمي مرة أخرى خصوصًا ونحن بانتظار حدثين مهمين في عام 2015 أولهما انتخابات تركيا البرلمانية في يونيو 2015 وموعد إبرام اتفاق نووي إيراني غربي في نفس الموعد؟ فالانتخابات التركية ستضع تركيا أمام استحقاقات داخلية وخارجية منتظرة إن فاز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية وهو المرجح من خلال استطلاعات الرأي هناك، فوز من شأنه أن يضيف لتركيا ورقة إقليمية رابحة بانتظار إبرام الاتفاق النووي وهو ورقة أخرى أرجح إن تمت ستستفيد تركيا منها أيضًا، إذ من شأن الاتفاق النووي أن يقوي نموذج التساوم التركي الإيراني الأمريكي في الشرق الأوسط ويضيف له ورقة إقليمية بوجه إسرائيل، وربما يكون مدعاة لتحرك دولي ضد ملف إسرائيل النووي، إضافة إلى أنه سيجعل من إيران عامل إقليمي إيجابي في استقرار العراق وسوريا واليمن ويمهد الطريق لمنظومة أمن وتعاون إقليمي تشمل تركيا وإيران ومن يرغب من الدول في المنطقة تكون مرتبطة بالناتو كما تشير إليها مبادرة إسطنبول.
بانتظار انتخابات تركيا والاتفاق النووي مع إيران فإن الجواب على سؤال المقال هنا: إن علاقة إستراتيجية مأمولة بين السعودية وتركيا في 2015 يمكن أن تعوض تركيا حليفًا في مقابل علاقة سوريا مع إيران؛ فتُصلِح الخلل الأول وتعوض تركيا حليفًا إقليميًا فقدته مع إسرائيل في 2009 لتحل محله السعودية في 2015هذا أولاً،
ثانيًا، من شأن التقارب السعودي التركي إذا تم تعضيده بتقارب مع إقليم كردستان وهو قائم أصلاً بين تركيا والإقليم منذ 2008 والمملكة تعتزم فتح قنصليتها في أربيل ومن شأن ذلك – وتركيا تمضي بعملية سلام مع أكرادها – أن يضيف ورقة كوردية رابحة للمحور التركي العربي المأمول وتصحح الخلل الإستراتجي في ميزان القوى لصالح تركيا.
وثالثًا، إذا أقدمت المملكة على مصالحة مع الإخوان ومع حماس فإنها ستكتسب رديفًا شعبيًا محليًا وإقليمًا ودوليًا لاغنى للمملكة ولا لتركيا عنه إن أرادتا إصلاح الخلل الإستراتيجي الإقليمي في مواجهة شبكة إيران الإقليمية الغير دولتية، فالسعودية تواجه الآن معضلة في حديقتها الخلفية اليمنية بعد أن صنفت الإخوان جماعة إرهابية؛ فخسرت صنعاء من حيث أرادت أن تربحها، وخسرت مصر بدعمها انقلاب السيسي، وخسرت الإخون كرديف شعبي عربي وإسلامي كبير، والإخوان ومصر أكبر ورقة إقليمية بإمكان السعودية أن تربحهما معًا إن تصالحت مع الإخوان أو تسببت في مصالحة مصرية داخلية، خصوصًا مع هبوط أسعار النفط وعدم قدرة السعودية على استمرار دعم انقلاب أصبح عبئًا على مصر وداعميها، إضافة إلى أن خطر إيران خطر وجودي لا يُقارن بأي حال مع منافسة سعودية موجودة سواء كانت مع نموذج الإخوان الإسلامي أو نموذج تركيا الأردوكاني.
رابعًا، إن أُضيف للتقارب السعودي التركي عنصرًا إقليميًا جيوسياسي آخر من باكستان مثلاً او مصر بلا سيسي؛ فإن التوازن الإقليمي سيعتدل بهذا التحالف الرباعي أو الثلاثي المشفوع بدعم شعبي إخواني وبتقارب عربي كردي تركي أوردي.
ختامًا، قد تكون هذه أحلام يقظة، وهي كذلك، لكنها فرص تضيع هباءً للأسف، وأنا هنا لست متفائلاً بكل ذلك ولا بنصفه لكن بعضه قد يعالج بعض أوجه الخلل في توازن القوى الإقليمي ويؤجل الانقراض العربي الجيوسياسي وتبقى بوصلة الشرق الأوسط متجهة بدون ذلك إلى انقراض جيوسياسي للعرب وإسرائيل وصعود لإيران وتركيا، ولله عاقبة الأمور.