في إطار مشاركته بمؤتمر ميونيخ للأمن، أكبر منتدى من نوعه للنقاش وتبادل الآراء حول سياسات الأمن الدولية، والذي يجمع شمل قادة الدول الكبرى وصناع القرار وممثلي الجيوش والمؤسسات العسكرية والمشرّعين وغيرهم، تحدّث جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية المعروف، والعميد السابق لكلية السياسات بجامعة هارفارد، في إحدى النقاشات عن حروب المستقبل وماهيتها والسياسات التي يجب على الدول الكبرى اتباعها لمواكبة هكذا صراعات، ثم كتب في موقع “بروجِكت سينديكيت” ملخصًا لرؤيته حول التحوّلات الجارية في طبيعة الصراعات المسلحة، وتطورها منذ حروب الجيل الأول النابليونية، إلى حروب الجيل الخامس الإلكترونية وغير المتوازية، على خلفية صعود داعش وتصاعد التوتر في شرق أوكرانيا وغيرها من أحداث.
بدأت حروب الجيل الأول في العصر الحديث بالسير على خُطى نابليون، والتي ارتكزت بالأساس إلى التعداد البشري وانتظامه في خطوط (column formation)، لتنتقل البشرية بعد ذلك إلى حروب الجيل الثاني في الحرب العالمية الأولى، والتي اعتمدت على القوة التدميرية للذخائر وعددها، واشتهرت بالجملة التي قيلت بعد معركة فِردون عام 1916، “المدفعية للغزو، قوة المشاه للاحتلال”.
بالوصول إلى الحرب العالمية الثانية وصعود ألمانيا النازية، كانت حملات الـ “بليتزكرايج” (Blitzkreig) الألمانية أبرز تجلٍ لحروب الجيل الثالث، والتي اعتمدت على المناورة أكثر من القوة الصِرفة، وكانت الجيوش فيها تتسلل لتجاوز العدو وتدمّره من الخلف، بدلًا من الهجوم الأمامي الكلاسيكي المعتاد، وذلك عن طريق شن المشاه لهجوم كثيف بالعدة والعتاد، مع دعم جوي ملازم لها يتيح لها اختراق صفوف العدو بهجمات سريعة وقوية، ثم الالتفاف عليه لتفريقه تمامًا.
في نفس الاتجاه سارت حروب الجيل الرابع، ولكن مع غياب أي جبهات واضحة بالمعنى العسكري التقليدي، وتفكيك المعركة إلى جبهات صغرى داخل المجال الاجتماعي نفسه، كما جرى مع الأمريكيين في فيتنام والعراق، ومع الروس في أفغانستان، وغيرها، بل ويمكننا اليوم أن نتكلم عن حروب الجيل الخامس، والتي تدخل فيها تكنولوجيا الطيارات بدون طيار لتتيح الهجوم دون التواجد في أرض تلك المعارك اللامركزية، وكذلك تشتمل على الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت.
بالانتقال من جيل لآخر على مدى القرنين الماضيَّين، كانت أبرز سمة في تحوّل الحرب هي تراجع النمط النظامي والمعتمد على الهجوم التقليدي، والمقتصر على الجيوش في مواجهة بعضها، لصالح تداخل العسكري مع الساحات المدنية، وهو تحوّل ارتفعت وتيرته في العقود الأخيرة نظرًا لتفشي الصراعات المسلحة دون الدولة، والتي تدخل فيها الميليشيات والشبكات الإرهابية والمنظمات الإجرامية والمتمردين وغيرها، بل إن هذه المجموعات نفسها قد تتداخل مع بعضها البعض، ومع الدولة نفسها، والتي قد تلجأ لتمويل بعضها أحيانًا على حساب أخرى.
على سبيل المثال، القوات المسلحة المتمردة في كولومبيا، وهي أقدم ميليشيا في أمريكا اللاتينية، شكلت تحالفات مع تجارة المخدرات بين الحين الآخر، كما نجحت شبكات قبلية محلية مثل طالبان في مد صلاتها مع شبكة إرهابية دولية مثل تنظيم القاعدة، على القائمة أيضًا تأتي الميليشيات الشيعية في العراق والتي تحظى بدعم الدولة الإيرانية وأحيانًا كثيرة العراقية، والمسلحون الروس في شرق أوكرانيا والذي تصعب التفرقة بينهم وبين الجنود الروس اليوم بعد أن خلعوا ملابسهم الرسمية وأصبحوا موجودين في دونِتسك ولوهانسك بشكل واضح.
تنظيمات وشبكات كهذه تتغذى بالأساس على دول ضعيفة أو مفككة أو فاقدة للشرعية، ولأسباب عدة، منها عدم التجانس الاجتماعي لدولة معينة نتيجة تشكّلها ككيان غير أصيل أثناء الاستعمار، مثل نيجيريا وليبيا والعراق، أو انعدام الشرعية السياسية لنظام الدولة في منطقة بعينها، كما يحدث في سيناء وشرق أوكرانيا واليمن.
تباعًا، تستطيع تلك الشبكات إدارة مساحات معيّنة من المجال المدني بشكل كفء نظرًا لكونها أكثر تجانسًا وارتباطًا به وتعبيرًا عنه، كما يفعل البشمركة في كردستان العراق، لتدخل مع الوقت في صراع مسلح غير متوازي مع الدولة الأم أو دول مجاورة، أو حتى تنظيمات معارضة في الداخل أو ميليشيات منافسة في الجوار الإقليمي.
تكون النتيجة، كما قال القائد العسكري البريطاني السابق، روبرت سميث، والذي خدم في أيرلندا الشمالية والبلقان، “حروب مدنية” بين الناس دون ثقل حقيقي للطرف النظامي، كما نرى في سوريا على سبيل المثال، حيث يعتمد النظام السوري نفسه على ميليشيات خاصة به في حين يُعَد الطرف المواجه له غير نظامي بالكامل، وكما كان الحال في صراع البلقان في تسعينيات القرن المنصرم، وهو ما يعني في النهاية أن الأطراف النظامية لا تمتلك القدرة على حسم نتائج المعركة كما كان الحال في الحروب الكلاسيكية.
هذه الحروب “الهجينة” تتنوع فيها أشكال القوة بشكل أكبر من الحروب النظامية، لاسيما وبعض أطرافها لا يملكون العتاد العسكري التقليدي، فالبعض قد يشارك فيها إعلاميًا باستخدام هاتفه أو الكمبيوتر الخاص به، لاسيما ووسائل التواصل الاجتماعي في هكذا حرب يكون لها أثر كبير في نشر المعلومات وتوجيه الناس، وهو أمر شديد التأثير على نتائج المعركة بالنظر لكونها معركة اجتماعية صرفة كما ذكرنا تحسمها قدرة المكونات الاجتماعية المختلفة على الهيمنة وترويج رؤيتها والتحكّم بالمعلومات، وليس فقط على بسط سلطانها.
كيف نشأت تلك الحروب المدنية أو الهجينة؟ لقد كانت بالأساس رد فعل للتفوق المُفرط الذي تمتعت به الولايات المتحدة إبان سقوط الاتحاد السوفيتي، وانتصارها الكاسح على العراق عام 1991، وهي الحرب التي لم يسقط فيها سوى 148 قتيل، ثم تدخلها في البلقان عام 1999 دون أي خسائر بشرية.
تباعًا، وردًا على انعدام التوازن هذا بوجه القوة الأمريكية التي بسطت ذراعيها في كافة أنحاء العالم تقريبًا، بدأ التركيز على عوامل ضعف الانتشار الأمريكي، وهي بالأساس انفصاله عن النسيج الاجتماعي الذي يحاول الهيمنة عليه، وعدم قدرته على مواجهته حال أصبحت المساحات الاجتماعية الضيقة فيها، وبحراكها اليومي المعتاد، هي ساحة المعركة؛ وهو ما أدى بالنتيجة إلى ظهور التكتيكات العسكرية غير المتوازية، والتي ترجّح الكفة لصالح الميليشيات والشبكات والتنظيمات المسلحة، لاسيما وهي أدرى بالأرض وترتكز إلى قطاع شعبي واسع على أقل تقدير، وتضع البوارج والطائرات والدبابات في موقف ضعف، فالدبابات لا تدخل الأزقة.
أبرز الدول التي تدرك هذا التحول في طبيعة الحروب هي الصين، والتي يطوّر قادتها العسكريون إستراتيجية “الحرب غير المقيّدة” أو “الحرب الشاملة”، التي تشتمل على أدوات الضغط الاقتصادي والدبلوماسي، والهجوم الإلكتروني، واستخدام القوة العسكرية غير المتوازية الأشبه بالميليشيات، لإنهاك القدرة الأمريكية، دون التمتّع بالضرورة بقوة نظامية متفوقة على نظيرتها الأمريكية بحرًا وجوًا.
“أول قاعدة في الحروب غير المقيّدة هي أنه ليست ثمة قواعد أصلًا”، هكذا قال أحد المسؤولين العسكريين الصينيين.