قصة الجاسوس السوفييتي الذي أخفاه وليد جنبلاط

ترجمة وتحرير نون بوست
منذ أكثر من 20 عاماً، اعترف وليد جنبلاط -الزعيم الدرزي اللبناني- أمام دبلوماسي سويدي، أنه أخفى جاسوساً سوفييتياً -كان يعمل كضابط في الاستخبارات السويدية-، قرب منزله في الجبل اللبناني في منطقة المختارة في تسعينيات القرن الماضي، وذلك بناء على طلب أحد كبار ضباط المخابرات الروسية، وفي ذاك المساء الذي جمع جنبلاط والدبلوماسي السويدي في قصر جنبلاط، كنت أنا جالساً في حديقة جنبلاط أسمع الحديث بتهلف.
المحادثة التي جرت بيني وبين جنبلاط والمسؤول السويدي كانت ودية، حيث كنت والسويدي ضيفان على العشاء في قصر جنبلاط الأثري، الذي يتميز بجدرانه القديمة الحجرية، وجدول الماء الذي يتدفق ضمنه، والأرضية الفسيفسائية الرومانية.
بالنسبة لجنبلاط والمسؤول السويدي، كانت قصة إيواء الجاسوس السويدي للسوفييت ستيغ برجلينج يُنظر إليها على أنها أحد بقايا الحرب الباردة التاريخية، حيث تميزت الأجواء حينها بالمرح والفكاهة والضحك حول قصة حماية جنبلاط لضابط الاستخبارات السويدي الذي باع أكثر من 15.000 وثيقة عسكرية لموسكو.
“نعم، كان يتناول الغداء معنا هنا”، قالها جنبلاط مشيراً بذراعه إلى المساحة الواسعة في الحديقة، وأردف “أعتذر من السويد”، وأجابه الدبلوماسي السويدي بنصف انحناءة متأدبة، والتمست بهذا التأدب الزائد نوعاً من السخرية المبطنة.
الجاسوس برجلينج توفي منذ فترة صغيرة في ستوكهولم عن عمر يناهز الـ77 عاماً، وبعد وفاة الأخير قام وليد جنبلاط – العدو المعلن لنظام بشار الأسد والذي تعرض لأكثر من محاولة اغتيال أثناء الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990- بالكشف عن تفاصيل إيوائه للجاسوس السويدي المرتشي، والذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة التجسس، ولكنه استطاع الهرب من المعتقل في السويد خلال زيارة الزوجية في عام 1987، وبعد سنوات قليلة، تلقى جنبلاط –وفق ما صرّح به- زيارة ودية من الجنرال الروسي فلاديمير إسماعيلوف، نائب مدير الاستخبارات العسكرية السوفيتية.
كشف جنبلاط، هذه المعلومات في سلسلة من رسائل البريد الإلكتروني التي بعث بها لأصدقائه، وفي مقال له في صحيفة الأنباء التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي الذي يترأسه جنبلاط، حيث جاء في المقال وصف لإسماعيلوف بأنه “طويل القامة أحمر الشعر ذو شارب كبير، ورافقه إلى بلدة المختارة في جبل الشوف مسؤول آخر -على الأرجح أحد مساعديه- وصديق مشترك”، يذكر جنبلاط أن المحادثات بين جنبلاط والروس بدأت “بعد خمسة أو ستة كؤوس من الفودكا، وبعد رفع عدة أنخاب في صحة الصداقة اللبنانية-السوفييتية، والكفاح المشترك للحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوفييتي”.
يتابع جنبلاط قصة الجنرال إسماعيلوف موضحاً الحديث الذي جرى بينهما بقوله:”قال لي: رفيق وليد، أنت صديق كبير للاتحاد السوفييتي، ونحن لن ننسى أبداً موقفك الداعم لقضية الشعب السوفييتي ونضالنا المشترك ضد الإمبريالية” يعلّق جنبلاط بعدها على هذه العبارة “أعتقد أن بعضكم يعرف هذا النوع من المصطلحات”.
ويتابع “الجنرال إسماعيلوف طلب مني أن آوي شخصاً في المختارة، كيف لي أن أرفض؟ الاتحاد السوفييتي قدم لنا “الدروز” مئات المنح الدراسية، كما أنه قام بتدريب الآلاف من عناصر ميليشيا الحزب الاشتراكي في قواعده، ووفر لنا أسلحة وذخيرة مجانية في ثمانينيات القرن الماضي تعادل قيمتها 500 مليون دولار”.
من الواضح أن وليد جنبلاط، الذي اغتيل والده كمال (كاتب وفيلسوف، وزعيم الدروز الاشتراكي) على يد مسلحين في عام 1977– من المخابرات السورية على الأغلب-، يستمتع حينما يكشف أسراره بطريقة مميزة من التهكم الساخر، حيث يشير جنبلاط أنه أجاب على طلب إسماعيلوف بقوله “أجبت: نعم، دون تردد، وواصلنا تناول طعامنا الذي امتد لوقت طويل، وأتساءل حينها كم زجاجة فودكا استهلكنا احتفاء بهذا الحدث؟ بالطبع كل هذا كان في سبيل محاربة الإمبريالية وتعزيز الاشتراكية”.
وبعد أسبوعين من اللقاء مع اسماعيلوف يقول جنبلاط “جاء رجل في أواخر الخمسينات مع زوجته، وجهزنا لهما الطابق العلوي من منزل النائب اللبناني نعمة طعمة، وهو صديق عظيم لعائلة جنبلاط، وعائلة طعمة كانت ولا تزال معروفة بكرمها وحسن ضيافتها، ولكن من كان هذا الرجل وزوجته؟ إنهما ستيغ برجلينج وإليزابيث ساندبرج الشهيران، اللذان مكثا للسنوات الأربع القادمة كضيوف عندنا، وشاركانا في غدائنا وعشائنا؛ بالنسبة لي كان من المستغرب أن يطلب مني السوفييت أن أخفي أحد جواسيسهم الكثر، ولاحقاً تأكدت شكوكي بأن الإمبراطورية السوفييتية لم تكن على ما يرام، فقد انهارت بعد سنة واحدة”.
يقول جنبلاط “السيد آبي كما كنا ندعو ستيغ برجلينج، فرّ من لبنان إلى السويد في عام 1994، وذلك أثناء وجودي في موسكو في عهد يلتسين، حيث تم إلقاء القبض عليه هناك وسجنه مرة أخرى، وبالنسبة لي، فقد كنت محرجاً جداً مع أصدقائي السويديين من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، والذين كانت تربطني معهم علاقة وثيقة، وبفضل هذه العلاقة سنحت لي الفرصة أكثر من مرة للقاء شخصية لامعة وعالمية وزعيم القرن العشرين السيد أولوف بالمه، وفي الحقيقة لقد تسبب ستيغ برجلينج بالكثير من الأضرار التي لحقت بالسويد وبي شخصياً”.
بالنسبة لبرجلينج فقد تم إطلاق سراحه من السجون السويدية لأسباب صحية، وذلك بعد معاناته من مرض الباركنسون الذي أدى إلى وفاته في 24 يناير من هذا العام، أما زوجته إليزابيث ساندبرج فقد توفيت بمرض السرطان قبل 18 عاماً، وقد أدت أعماله التجسسية التي قام بها بدافع المال فقط –كما أوضح برجلينج في مسار محاكمته – إلى استقالة وزير العدل السويدي، وإلى تكلفة الحكومة السويدية بمبلغ يقارب 45 مليون دولار لإعادة تنظيم عملياتها الأمنية.
جنبلاط وصف الجاسوس المرح ذو النظارات طبية بأنه “عرض لا يمكن رفضه وهدية من الجنرال فلاديمير إسماعيلوف”، وكون جنبلاط هو أحد كبار رجالات الدولة والعقلية الأكثر خبثاً في لبنان، يمكنني أن أؤكد بأنه لن يستقيل أبداً، على الأقل حتى يستلم ابنه تيمور قيادة الدروز.
المصدر : الإندبندنت