ترجمة وتحرير نون بوست
كان وقت الظهيرة عندما بدأت الأخبار تردنا حول أحد الكتاب في موقع ميدل إيست آي، وهو أبو بكر الحاج علي، الذي أصيب في سوريا، المعلومات كانت مشوشة وغامضة في البداية، ولكن سرعان ما اتضحت الصورة بأكملها.
الحاج علي كان يعمل مع مجموعة صغيرة من المراسين المحليين في مكتب إقليمي مؤقت لصالح قناة الجزيرة خلال الأشهر القليلة التي سبقت إصابته، المكتب الصغير كان يقع في درعا جنوب العاصمة السورية، ويمكنك ملاحظة بساطة التصميم من خلال المكاتب القديمة التي يعلوها عدد قليل من أجهزة الكمبيوتر والكاميرات، فضلاً عن عدد من الأسرّة التي غطت معظم مساحة المكتب، والتي يستعملها الصحفيون للمبيت عندما يصبح السفر على الطرقات خطراً جداً.
ولكن حوالي الساعة 11:30 صباحاً بالتوقيت المحلي (09:30 بتوقيت جرينتش) من يوم الاثنين 2-2-2015، اهتز هذا الملاذ الصغير نتيجة لتحويم طائرة هليكوبتر فوقه، وخوفاً من الأسوأ، هرع الرجلان اللذان كانا داخل المبنى لينجوا بحياتهما، وفعلاً لم يطل الوقت قبل أن ترسل الطائرة الموالية للرئيس السوري بشار الأسد برميلاً متفجراً تسبب بتناثر الشظايا والزجاج القاتل في الهواء.
المكتب الصغير تضرر بشدة، ولكن الحاج علي تمكن من الفرار بجروح متوسطة فقط، حيث أصابت الشظايا جذعه وذراعه، وأخطأت شرايينه وأجهزته الرئيسية، وبسرعة تم نقله إلى أحد المشافي الميدانية في المنطقة – ذات المشفى الذي صوّر منه تقريراً قبل أيام من الضربة-، وهناك تلقى العلاج الملائم.
الحاج علي كان الشخص الوحيد الذي تأذى نتيجة لهذا الهجوم، الذي يشكّل أحد آلاف الهجمات التي تشنها القوات الموالية للأسد في هذه الحرب الأهلية الدامية التي أودت بحياة أكثر من 200.000 شخص، وشرّدت الملايين، ويقول الحاج علي معلقاً “أنا واثق أن النظام السوري استهدفنا عمداً، لأن هذه ليست المرة الأولى التي أرى فيها صحفيين يتم استهدافهم، وطاقم قناة الجزيرة على وجه الخصوص تم استهدافه لمرات عديدة من قبل”.
تشير لجنة حماية الصحفيين، وهي منظمة رصد ورقابة مقرها الولايات المتحدة، إن الصراع الدائر في سوريا كان الأكثر فتكاً بالصحفيين على مدى السنوات الثلاث الماضية؛ ففي السنوات الأربع الماضية، قتل مالا يقل عن 80 صحفياً في خضم النزاع الدائر في سوريا، وكان الصحفي الياباني كينجي آخر صحفي ينضم إلى لائحة الوفيات خلال الشهر الماضي.
إن الآثار المترتبة على تقبّل الصحفيين لخطر تغطية الأحداث في سوريا، هي آثار خطيرة، كون الأزمة السورية تعتبر حالياً أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وعلى أرض الواقع يتم رصد الجزء الأصغر من حقيقة الأحداث التي تجري في الداخل السوري، نتيجة للتضليل وسوء التغطية التي تحكم الأوضاع في سوريا اليوم، ويشير منسق برامج لجنة حماية الصحفيين شريف منصور لصحيفة ميدل إيست آي “سوريا تعتبر ثاني أكثر بلد يُقتل فيها الصحفيين بعد العراق، التي تعاني من صراعات مستمرة منذ 10 سنوات” وأضاف “إن عدد عمليات خطف الصحفيين التي حدثت فاقت حساباتنا، فلقد تم اختطاف أكثر من 90 صحفياً، بينهم 20 نعتقد أنهم لا يزالون على قيد الحياة”.
من وجهة نظر معينة، يمكن اعتبار قناة الجزيرة كحالة خاصة ضمن المنظومة الإعلامية في سوريا، حيث تعرضت القناة القطرية لانتقادات واسعة النطاق بسبب طريقة تغطيتها للنزاع الدائر في سوريا، ونتجت هذه الانتقادات جزئياً عن دعم الدوحة المفتوح للمعارضة السورية، نتيجة لذلك يتم استهداف صحفيي الجزيرة بشكل خاص؛ فعلى الرغم من نقل مكتب الجزيرة المؤقت في سوريا لأكثر من مرة لتجنب كشف موقعه، إلا أنه تم التعرف على موقعه واستهدافه من قبل قوات النظام قبل هذه الحادثة الأخيرة، كما تعرض الحاج علي مسبقاً للاستهداف في عام 2013، على يد قناص على الرغم من أنه كان يرتدي سترة مكتوب عليها بالخط العريض “صحافة” ويحمل معدات التصوير معه، كما أنه في ديسمبر من العام الماضي، قُتل مراسل قناة الجزيرة الصحفي مهران الديري حين كان يغطي المواجهات بين القوات الحكومية السورية.
مسألة تصفية الصحفيين وقتلهم واعتقالهم لا تقتصر بحال من الأحوال على منظمة واحدة أو جانب سوري واحد، حيث يقول إدوارد دارك وهو صحفي مقيم في مدينة حلب في الشمال السوري ويعمل على تغطية الحرب تحت اسم مستعار “بالنسبة للصحفيين المحليين، فهم إما يعملون بشكل رسمي لحساب النظام أو لحساب فصائل المعارضة المختلفة، وكلا النوعين يخضعان لرقابة صارمة وينحازان نحو الجانب الذي يمثلانه، حيث يتم طرح الأمور بطريقة أقرب إلى الدعاية منها إلى التقارير الحقيقية، وهذا الاستقطاب في الطرح هو الذي يساعد على استمرار استهداف الصحفيين”.
ويتابع دارك “في كثير من الأحيان عمدت المعارضة المسلحة إلى قصف واستهداف مكاتب وسائل الإعلام الحكومية، وبالمقابل عمد النظام إلى قصف المراكز الإعلامية التي تقع في مناطق المعارضة، أو استهدافهم عن طريق القناصة، ففي الصراع السوري، يُنظر إلى الصحفيين من المعسكر الآخر على أنهم أهداف عسكرية مشروعة؛ لذا فإن أي ناشط إعلامي مستقل يرغب بالحفاظ على سلامته ونقل الواقع بدون تحيز، يجب عليه أن يمارس مهمته بشكل خفي، في سوريا الكلمات والأفكار يمكن أن تتسبب بقتلك بكل يسر وسهولة”.
صحفيو المنظمات الغربية عالقون في الوسط، فقوات الأسد تنظر إليهم على أنهم مؤيدين للمعارضة، وبذات الوقت تنهال عليهم الانتقادات اللاذعة من جماعات المعارضة لعدم بذلهم للجهد الكافي لتغطية الأحداث، وفي السنوات الأخيرة، أصبح الصحفيون الأجانب أهدافاً قيّمة جداً بالنسبة لجماعات معارضة مثل الدولة الإسلامية وجبهة النصرة التي تنظر إليهم كورقة مساومة.
“الصحفيون -وغيرهم من الأجانب مثل عمال الإغاثة- أصبحوا أهدافاً قيمة جداً”، يقول شريف منصور من لجنة حماية الصحفيين، ويضيف “الدولة الإسلامية أوعزت لأتباعها أن يراقبوا الصحفيين، ليس فقط ضمن سوريا بل أيضاً في المناطق الحدودية، هذا الذي يحدث يشكل تهديداً كبيراً للغاية، ومعظم ما يحدث في الآونة الأخيرة سببه استهداف الدولة الإسلامية من قبل قوات التحالف بدءاً من أغسطس الماضي”.
بعد تركيز وسائل الإعلام العالمية على قضية الصحفيين الأميركيين جيمس فولي وستيفن سوتلوف، اللذان قُطع رأسهما علانية من قِبل الدولة الإسلامية في العام الماضي، أصبح الخطر على الصحفيين أكبر، حيث تشير التقارير إلى أن بعض المسلحين يعمدون إلى محاباة الصحفيين ويعدونهم بنقلهم إلى سوريا حيث يوهمونهم بأنهم سيعملون كمرشدين لهم في الداخل، ولكن بمجرد دخولهم إلى سوريا يتم القبض عليهم أو تسليمهم إلى جماعات متشددة أخرى.
وحتى عندما يكون عرض المسلحين بالمساعدة حقيقياً، فإن الواقع قد لا يساعد الصحفي على التخلص من القتل أو الخطف، كون قواعد القتل والاستهداف والاختطاف داخل سوريا ضبابية ومخيفة، حتى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تشير إلى وجود أكثر من 1500 جماعة فاعلة تعمل داخل البلاد، وتقول سارة جيازيري، مسؤولة برنامج روري بيك ترست لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منظمة تعمل من أجل تحسين ظروف العمل بالنسبة لصحفيي الحرب “إن تغطية الحرب في سوريا كان خطراً على الصحفيين منذ اليوم الأول، ولكن الأمور الآن تدهورت، وهذا التدهور يعكس الوضع المجزأ والمقسّم على الأرض، فهناك الكثير من المجموعات على الأرض، مما يصعب معه التخطيط والتحضير للمهمة الصحفية”.
ويقول جوشوا لانديس، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما “إن حالة ثيو بادنوس -الصحفي الأمريكي الذي اعتقلته جبهة النصرة في عام 2013- تظهر النهج الذي تسلكه المعارضة المسلحة وعلى رأسها النصرة والدولة الإسلامية تجاه الصحفيين”، بادنوس الصحفي الأمريكي الذي أُفرج عنه من سجون النصرة العام الماضي، كتب عدة مقالات تصف محنته التي عانى منها في سوريا، حيث ذكر كيف استطاع الفرار من خاطفيه لمرتين، إلا أنه في كل مرة التجأ فيها طالباً مساعدة جماعات أكثر اعتدالاً من النصرة، قاموا بإعادته بسرعة إلى جبهة النصرة، ويعلّق لانديس على هذا بقوله “الجماعات الأضعف من المعارضة السورية، وعلى الرغم من أنها تدّعي الاستقلال، إلا أنها ليست مستقلة، كون جميع هذه الجماعات تسعى لكسب ود جبهة النصرة، لأنهم إن لم يفعلوا ذلك، وسمحوا للصحفيين الذي يمكن أن يصبحوا سجناء بالفرار، ستعمل النصرة على معاقبتهم”.
على الرغم من كافة ما تقدم، فإن الغالبية العظمى من الضحايا هم من الصحفيين المحليين (السوريين)، فوفقاً للأرقام الصادرة عن لجنة حماية الصحفيين، فإن 87% من الصحفيين الذين قتلوا خلال هذه الأزمة كانوا من الجنسية السورية، وبالطبع هذه الحقيقة لا تنفي ارتفاع حصيلة الصحفيين الذي قضوا خلال الصراع في سوريا.
نتيجة لما تقدم توقفت وكالات الأنباء الكبرى عن إرسال موظفين أجانب أو صحفيين مشهورين إلى الأجزاء التي يسيطر عليها المتمردون في سوريا، حيث أصبح الصحفيون الأجانب يمارسون تغطيتهم الإعلامية من بيروت بالغالب، واعتمدت أغلب وكالات الأنباء على أشخاص من الجنسية السورية لتغطية الوقائع داخل الأراضي السورية، كون أبناء البلاد هم أكثر معرفة بتضاريسها المحلية والوضع القائم بها، ولكن المشكلة تكمن في أنهم بمعظهم غير مدربين على إجراءات السلامة المهنية، وهذا ما يجعلهم أكثر عرضة للخطر، على حد تعبير جيازيري التي تعمل على تقديم الدعم للصحفيين المصابين.
وتضيف جيازيري بقولها “يمكن أن تكون تغطية السوريين للحدث السوري قاسية عليهم أكثر من غيرهم، لأنهم يغطون الأحداث والدماء والقتل الذي يجري في أحيائهم، عائلاتهم يمكن أن تكون في خطر، وزملائهم وأصدقائهم يمكن أن يكونوا من الموتى، وعلاوة على ذلك، فإن الصحفيين في سوريا سيضطرون للتعامل مع عدد لا يحصى من القضايا المعيشية الصعبة، مثل الانقطاع شبه الدائم للكهرباء ونقص الغذاء والماء وسلامة ورفاهية أسرهم”.
“لا يوجد وكالة أخبارية كبرى تسمح لكبار صحفييها بالذهاب إلى سوريا، هذه الوكالات مقتنعة وسعيدة باستخدام المراسلين المحليين، فالوكالة غير مسؤولة عن أمنهم وسلامتهم” يقول لانديس، ويضيف “إن هؤلاء المراسلين يعيشون في سوريا أساساً، وهم يعملون بالفعل لمصلحة أحد الأطراف، ويمكن لوكالة الأخبار أن تبرر اعتمادها على هؤلاء المراسلين بألف حجة طالما أنها تحصل من خلالهم على الأخبار”.
قد يقول البعض بأن عدم وجود تقارير تعكس الواقع بشكل صحيح وموثوق وموضوعي، صعّب من فهم حقيقة الحرب الجارية في سوريا؛ فخلال السنين الماضية شهدنا الكثير من التقارير البشعة التي توثق القتل والتدمير، إلا أن هذه التقارير قوبلت بالمعارضة أو بالرفض من قبل كل جانب يسعى لإلقاء اللوم على الآخر، ولكن الشيء الوحيد المؤكد خلال هذه الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في سوريا، هو أنه تم إطلاق العنان لحملات التدمير الجامحة التي استهدفت الشعب السوري، والحقيقة الأخرى المؤكدة حالياً “على الأقل” هي عدم وجود حل يلوح في الأفق؛ مما دفع الكثيرين إلى التساؤل هل يستحق الأمر كل هذه المخاطرة من الصحفيين؟
يقول لانديس مجيباً على هذا التساؤل “البعض يقول أن نقل الخبر من أرض الواقع هو خدمة للإنسانية، وبالفعل هو كذلك، ولكن هنا تكمن المفاضلة الأبدية، فهل من الإنساني أن تعرّض حياة أي شخص للخطر في مقابل تغطية الفظائع؟ إن تغطية الواقع تهدد حياة المراسلين، ولا أحد ينبغي عليه أن يغطي الخبر من سوريا، وإن فعلت، فعلى الفور سيتم استهدافك وستصبح مكروهاً من الجميع”.
أخيراً، وعلى الرغم من الأخطار العالية جداً التي تحيق بالعمل الصحفي بسوريا، لازال البعض يصرون أنهم سيستمرون بالتغطية، سواء أكان موقفهم هذا نابعاً من حسهم بالمسؤولية أو بدافع من اليأس الاقتصادي، ويقول الحاج علي “لقد واصلت العمل على الرغم من كل المخاطر والصعوبات، وسأمضي قدماً في عملي لأن من واجبي أن أنقل الحقيقة والحدث والمعاناة اليومية للشعب في الحرب، أنا أعيش هنا مع الناس وأشعر بما يشعرون به”.
المصدر: ميدل إيست آي