ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
قوبلت الزيارة الأخيرة لباراك أوباما للهند بترحاب كبير و عاد الكثير من المحلّلين للحديث حول “تغيير الوجهة نحو آسيا” تلك العبارة المبتذلة التي اتخذتها الحكومات كشعار فيما مضى.و لكن الأحداث المتسارعة في الأيام الأخيرة تشير إلى أنّ هنالك فعلا تغيّرٌ في السياسة الخارجية الأمريكية :قرار الرّئيس أوباما اختصار زيارته للهند للذهاب لتقديم العزاء في وفاة الملك عبد الله، الفوضى التي يشهدها اليمن، والجهود الديبلوماسية المبذولة مع ايران بخصوص برنامجها النووي، ناهيك عن المساعي التي ما انفكّ بنيامين نتنياهو يبذلها ليبرز أن العلاقات الأمريكية-الاسرائيلية قد وصلت لدرجة غير مسبوقة من التّأزم. كلّ هذه الأحداث تظهر إلى أي مدًى تغيّرت السّياسة الخارجية الأمريكية حتى طرأ عليها تغيّر لم يكن ليخطر على البال ستستفيد منه الجمهورية الاسلامية الايرانيّة.
عندما يغادر أوباما البيت الأبيض ستكون ايران أكثر دولة في العالم استفادت من فترة حكمه ولن يكون هذا فقط بسبب أشياء قامت بها الولايات المتحدة بل أيضا بسبب أشياء لم تقم بها عندما توجّب عليها ذلك. ولكن ليس هنالك شك أنّ المكاسب التي أصبحت في متناول يد ايران ستكون من نصيبها بفضل سياسة خارجية أمريكيّة كانت أقرب لميولات الرّئيس أوباما من تلك السياسات المتذبذبة التي قادها بعض مساعديه خلال فترة رئاسته الأولى.
تطمح إدارة أوباما لتحقيق مكاسب تجعلها تترك أثرًا طيّبًا بعد مغادرتها للبيت الأبيض فهي تواصل التّفاوض على قدم وساق من وراء السّتار من أجل إبرام إتفاق نووي يكون إنجازا يحسب لخارجيّة أوباما بعد نهاية هذه العهدة الرّئاسية الثّانية. وتحاول هذه الإدارة أيضا إحراز تقدم في محادثات إتفاقية الشّراكة التّجاريّة بين دول المحيط الهادي، رغم أنّ هذه الإتفاقيّة وبغضّ النظر عمّا يحيط بها من خطاب ترويجي تبقى محدودة التأثير ولن تغيّر الكثير كما يدّعي مساندوها. ربما ستؤدّي لإحراز بعض التّقدّم الإقتصادي ولكنّها ستدخل حيّز التّنفيذ تدريجيّا ولن تخدم علاقات أمريكا بالبلدين الأكبر والأهم الصّين والهند. كما أنّ العائدات الماليّة لهذا الإتّفاق لن تكون كبيرة جدّا.
في المقابل إذا حدث إتفاق مع إيران فإن ذلك سيعني عمليّا تجميد البرنامج النّووي الإيراني، وهذا أمر جيّد في حد ذاته ولكن المشكل أنّه لا يعني إستحالة إستئناف إيران لأنشطتها النّووية في المستقبل أو خرق بنود الإتفاق أو مواصلة السّياسة العدائيّة التّي دأبت على إنتهاجها في الشّرق الأوسط خلال الثّلاثين سنة الأخيرة حتّى دون أن تمتلك النّووي.
المكانة الجديدة لطهران
سيمكّن هذا الإتّفاق المحتمل إيران من الخروج من عزلتها وإلتقاط أنفاسها قليلاً، و حتّى في خضم الجدال الحاد في واشنطن حول هذا الملف سيكون الرّئيس أوباما قادرا على إستخدام الفيتو أمام أيّ عقوبات يقترحها الكونغرس ضدّ إيران. سيمكّن إتّفاق كهذا من إذابة الجليد الذي ضلّ لسنوات يلفّ العلاقات بين البلدين وبالتّالي سيشجّع دول أخرى على إستعادة علاقاتها التّجارية مع إيران إن لم تكن قد فعلت ذلك مسبقًا في كنف السرّيّة. ستحظى إيران بمكانة جديدة ووضع أفضل في المجتمع الدّولي و تستفيد من عدّة إمتيازات إقتصادية و هو أمر سيغضب أعدائها بلا شكّ. وإذا كان أوباما يظنّ أنّ مجرّد زيارة مجاملة خاطفة للسّعوديّة ستحدّ من غضب آل سعود على هذه المفاوضات الجارية فإنه واهم لأنّه لن يستطيع بلباقته و كلماته المنمّقة أن يطفئ غضبًا يغذّيه إنقسام مذهبي عمره ألف سنة. إذ سينظر الحلفاء السّنّة لهذا الإتّفاق على أنّه خيانة لهم، و لكنّهم في النّهاية بحكم طبيعتهم البراغماتيّة سيتعاملون مع الأمر الواقع لأنّهم سيدركون أنّ هذا التّقارب لا مفرّ منه. كما سيحاولون بالمناسبة الإستفادة من إيران على المدى القصير لدفع خطر وشيك أكثر منها وهو خطر بعض المجموعات السنيّة المتطرفة، وذلك عملاً بقاعدة عدوّ عدوّي هو صديقي. ولكن رغم هذه الواقعيّة و الحاجة للدّور الإيراني في خلق توازن ضدّ تنظيم الدّولة هل ستكون هذه الدّول راضية عن الوضع الجديد؟ طبعًا لا فعداوة عمرها ألف سنة لا تنتهي بهذه البساطة.
هذا السّيناريو يمثّل كابوسًا لدول الخليج ليس فقط لأنّ هذا التّغيير في العلاقات مع إيران سيمنح هذه الأخيرة قوّة سياسيّة وإقتصاديّة و لكن أيضًا لأنّ أساليب واشنطن و تحرّكاتها فيما يخصّ بعض القضايا مقابل إكتفائها بالجلوس على الرّبوة والمشاهدة في قضايا أخرى مكّنت إيران من كسب المزيد من النّفوذ على عدّة أصعدة و هذا ليس خطأ أوباما وحده بل تتحمّله معه الإدارات السّابقة له. إذ ربّما فهم الجميع الآن ولو ببعض التأخير أنّ إغراق العراق بالصّواريخ و القنابل لم يكن فكرة جيّدة ليس فقط لأن هذا أدّى لنقمة و فوضى سمحت بصعود تنظيم داعش بل أيضًا لأنّ إسقاط صدّام و حزب البعث أنتج نظامًا سياسيًّا جديدًا تابعًا لإيران من النّاحية العسكريّة و الماليّة. كما أن الضّربات الجويّة التي تشنّها الولايات المتّحدة خلال هذه الفترة مكنت إيران من بسط المزيد من النّفوذ على الأراضي العراقيّة، فما إن تقوم طائرات التّحالف بعملها من الجوّ حتى تسارع إيران لقطف الثّمار على الأرض، و هذا التّعاون دفع ببعض المحلّلين السياسيّين لإبداء استغرابهم إزاء قيام قوّة مشتركة أمريكيّة إسرائيليّة باستهداف جنرال إيراني في سوريا لأنّ ذلك يعني قتلهم لعنصر من فريق حليف لهم يعمل معهم جنبًا إلى جنب في العراق.
يبدو أن إيران هي الطّرف الوحيد الذّي سيخرج منتصرًا من هذه الفوضى الشّاملة في الشّرق الأوسط فقد أدّى الإنقلاب الذي نفّذه الحوثيون في اليمن إلى سيطرة هذه المجموعة الشّيعية المدعومة من إيران على جزء كبير من اليمن. وبالتوازي مع ذلك تغرق بغداد في التّبعية لإيران أكثر من أي وقت مضى حتّى أن القوات التي تقاتل تنظيم داعش و تحمي العراق من هجماته الإرهابيّة تأتي في معظمها من إيران. حتّى في سوريا فإنّ بشّار حليف إيران تلقّى عدّة إشارات من واشنطن تفيد بأنّها لا مانع لديها من بقائه في سدّة الحكم و بأنّها بصدد مراجعة موقفها منه بعد أن صمد لهذه الفترة الطّويلة. وفي لبنان يبقى حزب الله في أوج قوّته ونشاطه سواءًا داخل حدوده أو في جنوب سوريا. حتّى مع الجهود التي يبذلها الكونغرس لعرقلة المفاوضات النّوويّة من خلال تسليط المزيد من العقوبات فإنّه من الواضح أنّ إيران ستنظر في المستقبل لسنوات أوباما على أنّها واحدة من أفضل فتراتها بقطع النّظر عن هذه العقوبات المؤلمة.
و مقابل هذا الرّضا سيكون هناك سخط في الدّولتين المجاورتين اللتان شنّت أمريكا فيهما حربها مع وعد بضمان الإستقرار، فالعراق و أفغانستان تسيران نحو سنة 2016 وهما في حالة مزرية من الإنقسام و العنف، وسيكون هناك سخط أكثر من حلفاء واشنطن في الخليج الذين يعانون من انخفاض أسعار النّفط بسبب زيادة الإنتاج وظهور تقنيات جديدة متعلّقة بالطّاقة البديلة. إذ باتت كلّ دول الخليج تشعر بأنّها مهدّدة من طرف المجموعات المتطرّفة و ما عمّق من مخاوفها هو هذا البرود الأمريكي في التّعامل معها فهذه الدّول تشعر بكلّ وضوح بأنّ أمريكا في حال خرجت الأمور عن السّيطرة في المنطقة لن تسارع لمدّ يد العون لهم كما كانت تفعل في الماضي. و لن تتلقّى هذه الدّول أيّ مساعدة أيضًا من القوى الإقليمية الأخرى مثل تركيا التّي لها ثقل تاريخي كبير و مصر المنهمكة بترتيب أوضاعها الدّاخليّة.
وماذا عن إسرائيل؟
أكّد مسؤول رفيع المستوى في إدارة أوباما الحديث الدّائر حول علاقات أوباما و نتنياهو بخصوص كونها تعدّ الأسوأ في تاريخ العلاقات بين البلدين. حيث قال هذا المسؤول أنّ “العلاقات بين جيمي كارتر و مناحيم بيغن كانت توصف بالسيّئة، و لكن هذه الكلمة لا تكفي الآن لوصف علاقة أوباما بنتنياهو”. وهذا صحيح فقد فعل أوباما الكثير لتخريب هذه العلاقة و حتّى فريقه المساعد لم يدّخر جهدًا لتدميرها من خلال وصفهم ذات مرّة رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنّه “روث دجاج”. وبدوره نتنياهو أيضًا يتحمّل جزءًا من المسؤوليّة فقد قبل مؤخّرًا دعوة وجهها له جون بوهنر رئيس مجلس النوّاب الأمريكي بدون علم أوباما لإلقاء خطاب أمام المجلس حول خطر توقيع إتّفاق نووي مع إيران. وسيكون نتنياهو عند قدومه بمثابة “الرّجل الغير المناسب في الوقت الغير مناسب بصدد إلقاء خطبة خاطئة في المكان الخطأ”.
لو كان نتنياهو يريد فعلاً ضمان أمن إسرائيل كما يقول لكان تحلّى بالصّبر و الهدوء ومارس ضغوطًا سريّة على إدارة أوباما ليضمن أنّ هذا الإتفاق سيكون حلاًّ سلميًّا و ناجعًا يضمن إيقاف طموحات إيران النّوويّة. وإذا تبيّن له فيما بعد أنّ هذا الإتفاق مليء بالثّغرات أو غير قابل للتّنفيذ فيمكنه عندها الإعتراض. كان بإمكانه القيام بأيّ شيء إلا التّفكير في الذّهاب إلى الكونغرس و إلقاء خطاب يهدف إلى التّأثير في السياسة الأمريكيّة و إجهاض مباحثات النّووي الإيراني، فهذا أمر غير مقبول و غير مسبوق في العلاقات الدّوليّة. سيكون لهذا الخطاب مفعول عكسي فهو على الأقلّ سيُغضب أكثرإدارة أوباما و سيعمّق الشعور لدى بعض مستشاريه بأنّ أي تصرّف يغضب “بيبي” هو التصرّف الصحيح. هذه التصرّفات تسبّب ضررًا كبيرًا للعلاقات بين البلدين و تسلّط الضّوء على مدى تأزّمها في ظلّ سياسة تبادل اللّوم بين الطّرفين، و تذكّرهما أنّ فتح صفحة جديدة بات أمرًا لابدّ منه.
وفي المستقبل إذا تمّ فتح صفحة جديدة بين البلدين على يد خليفتي أوباما و نتنياهو فستكون هذه الصّفحة الجديدة في سياق إقليمي مختلف جدًّا في الشّرق الأوسط، إذ سيكون العالم في أقّل تبعيّة لهذه المنطقة و ستكون هناك دول كثيرة تعاني من عدم استقرار ومشاكل محليّة يصل مدى تأثيرها لكلّ العالم. ستكون المشاكل التّي كانت ظاهرة في الأفق سنة 2008 قد أصبحت واقعًا فعليًّا بل وتكون قد كبرت وأضيفت إليها مشاكل جديدة. ولن تكون التدخّلات الأمريكيّة قد فعلت شيئًا سوى صبّ مزيد من الزّيت على النّار أوعلى الأقل عدم إطفائها. ستكون التّحالفات التّقليديّة للولايات المتّحدة قد ضعفت أكثر و سيكون هذا التطوّر الذي تشهده في علاقاتها مع إيران محوريًّا في إدارتها للمشهد.
سيناريوهات متناقضة
يمكن إعتبار إتفاق يحد من تطوّر القدرات النّوويّة الإيرانيّة خطوة إيجابية، كما أنّ كسب أمريكا لحليف جديد في حربها على الإرهاب سيكون أيضًا مكسبًا مهمّا لها. و سيكون هذا الإتّفاق أيضا حجر أساس لبناء سياسة أمريكيّة جديدة في المنطقة ترتكز على إدارة التّوازنات بين مختلف الأطراف الفاعلة بهدف المحافظة على الإستقرار وإحتواء أيّ تهديدات محتملة. هنالك ايضا فوائد أخرى لهكذا إتّفاق وهي تطمين الحلفاء التّقليديّين في المنطقة وهُم إسرائيل و دول الخليج والعمل معهم بهدف إستعادة الإستقرار في مصر و تحسين العلاقة مع تركيا و إيقاف الدّعم السّرّي الذي يقدّمه بعض حلفاء أمريكا للتّطرّف. بالإضافة لقطع خطوة هامّة نحوإنشاء دولة فلسطينيّة تحترم حقّ إسرائيل في الوجود. إذا تحقّق هذا السيناريو فسيكون ذلك أمرًا رائعًا، وستكون نظرة أوباما المستقبليّة قد حقّقت معجزة وسيتلقّى الرّجل الشّكر والإطراء بإستحقاق، دعونا لا ننسى أنّ أوباما قال في حملته الإنتخابيّة سنة 2008 أنّ إحدى الطّرق التّي سيعتمدها لتغيير السّياسة الخارجيّة هي التّقارب مع إيران، و إذا نجح في تحقيق ذلك من خلال خطوات حذرة وإدارة استراتيجيّة ذكية للعلاقات في الشّرق الأوسط ونجح أيضًا في الإيفاء بالتزاماته و حمل بقيّة الاطراف على على الإيفاء بما عليها فسيكون ذلك إنجازًأ غير مسبوق يحسب له.
ولكن فلنلقي نظرة على السّيناريو الآخر: ماذا لو حصلت إيران على الدّعم الإقتصادي الذي هي في أمسّ الحاجة له وواصلت رغم ذلك سياساتها المتهوّرة في المنطقة أو حاولت التّلاعب ببنود الإتفاق واللّجوء للخداع وزادت من نفوذها الذي يهدّد حلفاء آخرين لأمريكا في المنطقة على رأسهم السّعوديّة، وماذا لو أصبح هذا التّقارب الإيراني الأمريكي ذريعةً تتّخذها التنظيمات الإرهابيّة مثل داعش و القاعدة لاجتذاب الشباب السنّيّ الغاضب وماذا لو نفذ صبر إسرائيل و قرّرت التحرّك ضدّ إيران دون الرّجوع البيت الأبيض، و إذا تواصل تدهور علاقة أمريكا بحلفائها الخليجيّين بل وشجّع نهجها التّفاوضي المسالم التّيارات المتشدّدة في المنطقة على التحرّك و خلق معاقل جديدة للإرهاب، إذا حدث كلّ هذا فسيبدو هذا التغيّر في السياسة الخارجيّة الأمريكيّة مع إيران خطأً جسيمًا و سيشعر الأمريكيّون أنّ الرّئيس رقم أربعة و أربعون في تاريخهم كان مغفّلاً.
سأترك قرّائنا الأعزّاء ليقرّروا ماهو السّيناريو الاقرب للتحقّق بالنّظر للدّروس المستفادة من التّاريخ الحديث. ولكن مهمًا يكن من الأمر فإننا عندما سنقرأ عن سياسة أوباما الخارجيّة في كتب التّاريخ مستقبلاً سيكون أكثر جزء منها إثارة لاهتمامنا هو مدّه ليده نحو إيران و تدخّله أحيانًا وعدم تدخّله في أوقات أخرى في مشاكل منطقة الشّرق الأوسط المتقلّبة، و ستكون هذه السّياسة أكثر جلبًا للإنتباه من الجهود الإستراتيجيّة التّي بذلها لإعادة التّوازن للعلاقات مع القارّة الآسيويّة و من الفشل الذي منيت به مساعيه لحسم الحرب على الإرهاب.
المصدر: سليت الفرنسية