يقول جورج أورويل في أحد مقالاته إن “الأشخاص الذين يقولون إن هتلر هو مسيح دجال، أو بشكل مغاير الروح القدس، هم أقرب فهما للحقيقة من المفكرين الذين واظبوا على الاعتقاد طوال عشر سنوات رهيبة أنه مجرد شخصية خارجة من أوبرا هزلية لا تستحق أن تؤخذ بجدية”، داعيا إيانا لمعاملة هتلر كما استطاع جعلنا ننظر إليه: رمزا مطلقا – سواء كان خيرا أو شريرا من موقفنا تجاهه – فاعلا في الفضاء السياسي والاجتماعي.
وليست هذه دعوة من الصحفي السياسي – الذي كان من أكثر من فهم الأنظمة الشمولية وحللها – للاستسلام أمام “مطلقية هتلر”، بل هي دعوة للسير خطوة للأمام، تطالب بالفعالية والمواجهة والاقتراب من الحقيقة بالفهم والتحليل، بدل تغطية شمس الحرب الحارقة بغربال السخرية أو المؤامرة أو إنكار الحادثة أو الظاهرة ككل!
يبادر هنا سؤال: كيف استطاع هتلر، بقيادته حركة مغرقة في العنف والفوضى، الوصول بالديمقراطية لحكم شعب كامل وجره إلى الخراب والهزيمة والدمار في حرب عالمية خلال 12 سنة من الحكم والحرب؟ وكيف كانت الحشود التي لا تنتهي تقف لتحيته، مع وضوح النازية كأمر “شرير” مستنكر بأبسط البديهيات الأخلاقية والفكرية والمنطقية؟ وليس الـ”كيف” هنا للسؤال عن الحال، بل للسؤال عن الوسيلة، التي نجد كلمة سرها في الشخص الذي استطاع جعل هتلر هكذا؛ وزير دعايته: بول جوزيف غوبلز.
غوبلز/هتلر/النازية أو الفرقان/البغدادي/داعش
إذا قلنا أن الدعاية (propaganda) هي: إيصال الرسالة المناسبة للجمهور المناسب بالشكل المناسب، فإن غوبلز، أحد أساطير الدعاية السياسية تاريخيا، اختصرها بكلمة أخرى أسست للدعاية السياسية من بعده: “اكذب حتى يصدقك الناس”، وبدأ حكمه كوزير لدعاية الحركة النازية بحرق الكتب المضادة لها، ومنع المؤسسات الإعلامية المضادة لها، ومن ثم الضخ الإعلامي من خلال خطاباته ولغته المؤثرة وحملاته الإعلامية.
عمل غوبلز على فرض هتلر كرمز مطلق، والنازية كأيديولوجيا متجاوزة للأديان، رافق ذلك شخصية هتلر الكاريزمية القيادية التي تصلح لذلك، ومركزية عالية وتنظيا مؤسساتا يجمع وينظم العمل السياسي والعسكري والخطاب الإعلامي، وإيمانا أيديولوجيا داخل الحركة النازية، فاستطاع تحقيق غايته بالإقناع، من خلال إكماله معادلة الدعاية: الداعية الذكي + الرمز المدعيّ له + الفكرة والإيمان العالي بها، بغض النظر عن أخلاقيتها + التنظيم المركزي المنظم للعمل الكلي داخل المؤسسة أو الحزب..
وبالإسقاط البسيط للمعادلة ذاتها على ظاهرة الدولة الإسلامية، كظاهرة سياسية واجتماعية ذات موقف ديني، نجد أن كلا من الرمزين هتلر والبغدادي هما نفس “نرجس” المريض مجنون العظمة، أغرقه جنونه العنيف – الذي بدأ بتشكيل دولة عسكرية فاشية من تنظيم مركزي عنيف – في نهر حروب عالمية، عندما اجتذب كل أعداء العالم من حوله، ويسنده رجل وخطاب دعاية يقنعه ويقنع به؛ اللهم إلا أن هتلر أسلم وأطال لحيته بدل شاربه القصير ونصب نفسه مجسدا للدين ورمزا له – لا متجاوزا له -، وأن غوبلز تعلم الآفتر إفكتس، وأسمى وزارته بـ”الفرقان”!
وتكتمل المفارقة – أو السخرية – التاريخية بأن النهر الذي أغرق هتلر كان نبعه “محرقة” بفظاعة كمّية سمّاه غوبلز “الحل الأخير”، كما بدأ نهر البغدادي “حرقا” نوعيا للطيار معاذ الكساسبة أسماه عاملو الفرقان “شفاء الصدور”!
“شفاء الصدور” أنموذجا لدعاية داعش
وتطبيقا لتعريف الدعاية بعناصره الثلاث: الرسالة والجمهور والشكل، والعمل على المعادلة أعلاه، فإن ذكاء “الفرقان” – أكثر نسبيا من بقية مؤسسات داعش الإعلامية – يكمن بإيصال عدة رسائل مكثفة لعدة جماهير، من نفس المادة الشكلية السينمائية المركزة ذات المستوى العالي، بالتنسيق والتوافق السياسي والعسكري المركزي داخل التنظيم ككل، والمتجلي باختيار التوقيت، انطلاقا من ذات الأسس الفكرية والنفسية التي تمثل لحمة التنظيم وأساس وجوده.
فإذا أخذنا “شفاء الصدور” كنموذج لـ”إعلام داعش”، فإننا نجد مادة سينمائية احترافية – بالتصوير والمونتاج والموسيقى والإخراج -، مثيرة للعواطف والفكر لأعلى مستوياتها، ومستهدفة عدة جماهير بعدة رسائل، على الشكل التالي:
جنود داعش ومؤيدوه: شفاء الصدور حرفيا والضخ العاطفي العالي، بالانتقام العنيف من التحالف الذي أثكنهم جراحا، خصوصا مع الضعف النفسي للتنظيم بعد الهزائم الأخيرة التي تلقاها التنظيم في كوباني وديالى.
جمهور داعش من غير مؤيديه (الجنود المحتملون): استهدفهم داعش، له دون غيره من التنظيمات الإسلامية الأخرى، من خلال الارتكاز على أمرين يعتبرهما مميزين له: توحشه (المؤصل فكريا بإدارة التوحش)، ونقاءه وأصوليته (من خلال تسليط الضوء على جوانب دينية – مثل الحرق – مسكوت عنها، وتنفيذها، وردّها إلى فتاوى دينية – كإيراد فتوى ابن تيمية).
الأغلبية المتفرجة: الهدف الرئيسي لها هو بث المزيد من الترهيب في القلوب، وتضخيم صورة داعش في النفوس والأذهان
السلطة الأردنية – والأنظمة المحيطة إجمالا -: سعت داعش لإحراج السلطة الأردنية وإهانتها، وذلك من خلال جرها لردود الفعل وإظهارها بمستوى التنظيم سواء بإنزال الدولة إلى مستوى التنظيم والمليشيا، أو رفع ذاته إلى مستوى الدولة، أو كليهما (بالمفاوضة مع داعش على ساجدة ككيانين متقابلين، ومن ثم جر الأردن لإعدامها مقابل إعدام معاذ، ومن ثم الغارات التي أتت “ردا” على قتل معاذ).
الجيش الأردني: عملت داعش على استهداف الروح المعنوية له، وذلك من خلال: إهانة معاذ أثناء التصوير (بالتحقيق واللباس والتحركات التي أمر عليها)، وبث الخوف داخل صفوفه من خلال نشر أسماء الطيارين.
المجتمع الأردني: سعت داعش لتوسيع الفجوة بينه وبين الدولة من خلال إظهارها المسؤولة عن قتله (ويظهر ذلك في بداية الفيلم)، كما عملت على تفتيته داخليا ما بين خيارين متطرفين: #ليست_حربنا ، #هي_حربنا .
نعم، ربما تكون داعش قد استطاعت إيصال كل هذه الرسائل بمقطع من خمسة وعشرين دقيقة، لكن هذا لا يعني إطلاقا التوقف عند دعوة أورويل لاعتبارها “مسيحا دجالا” أو “روح قدس”، بل السير خطوة أخرى للأمام لمعرفة أن هذا الموضوع لا يحتاج أكثر من: مختص في الدعاية والتسويق، كادرا فنيا احترافيا في التصوير والمونتاج والإخراج (قد لا يتجاوز العشرة أشخاص)، وخطابا موحدا نابعا من قيادة متماسكة مركزية، وليست كل هذه العناصر غريبة أو مستحيلة، خصوصا مع “الأجانب” الذين يأتون من كل أنحاء العالم بخبراتهم وتجاربهم، تاركة السؤال أمام نخبنا وحركاتنا الإسلامية، التي بقيت خلال سنوات تقول “ليس من الإسلام”، متسائلة عن عدم سماع الناس لها خلال كل هذا العمر، وهي التي ظلت عاجزة – أو غير مهتمة – عن صناعة فيلم بنصف المدة ونصف الجودة ونصف الخطاب!
وإذا كانت داعش قد استطاعت تحقيق بعض أهدافها التكتيكية من الحرق ومقطع الحرق، فلا شك كذلك أن التكتيك أنساها الاستراتيجية، ولا شك أن الحرق سيصل إليها من داخلها، ولو بعد حين، ذلك أن هذه سنة الله التي وضعها في الطغاة، ((يذرهم في طغيانهم يعمهون))، ثم ((حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون)).