إنه زمن الإثارة والحبكة الفنية، زمن الصورة عالية الجودة ذات التأثيرات المدروسة بإتقان، فإذا ما أردت الترويج لفكرة ما وإيهام الجمهور بصدقها عليك أن تُنتِج صورة مثيرة فيها قدر كبير من الابتكار والإثارة والذكاء الفني، هذه الصورة التي قد تُوجِد اللاموجود أصلا! وهكذا تُصنع الظواهر في العالم اليوم، وظاهرة “داعش” أبرز مثال.
هنا لن أخوض في فكر داعش أو أناقش إنسانيتهم من عدمها مثلاً في تعاملهم مع الطيار الأردني، لكن سأحاول تفكيك ردّات الفعل المتطرفة التي صدرت إثر عملياتهم التي رُوِّج لها، وفهم ما يقع في محطات النقاش الحاد التي نُصبت بضغطة زر لا ندري من يكبس عليه! ما إن أُنزِل الشريط المصور حتى حل انقسام بل قل شرخ في صف الجمهور؛ فهذا مؤيد ومدافع وآخر مستنكر ورافض وآخر يُجرّم الفعل مستعينًا بأبجدية لا تُسعفُه ليصور الفعل بأسوأ الألفاظ وأكثرها بذاءة، وكأنّ السقوط الإنساني الذي صوره الشريط لم يكفه فأصر أن يُوصلنا إلى الدرك! ما لكم كيف تحكمون؟! لم كل هذا التسابق في صياغة ردة فعل وتبني المواقف؟ ما لنا ننفجر كالقنبلة التي يُعدّل توقيتها غيرنا؟ كلّ يرمي بكرة اللهب في وجه أخيه.
هذه الصورة التي تتلألأ بأعتى تقنياتها ويزداد بريقها مع انتشار صداها، بريقها الذي يخطف العقول فتغشى البصائر لترتدي الآراء أفكارًا جاهزة وتصدح مرددة ذات الألحان كما في المناسبات الشبيهة التي تُفاجئها كل مرة لكنها تمتثِل جاهزة لإحيائها!
هكذا بكل الأدوات التي امتلكها آخر ولم نمتلكها بل امتلكتنا، لم تَصِر داعش واقعًا فحسب في أذهان غالبية القوم، بل أصبحت ظاهرة تسطو على وعي صغيرنا وكبيرنا، داعش تلك الصَّنعة التي ألهتنا عن الصّانع، داعش تلك الشماعة التي تُعلّق عليها الخيبات، داعش ذلك الفاعل الذي أتى من بعيد ليُنقِذ أفعالاً طالما نُسبت للمجهول، داعش ذاك القاموس الذي أُثْرِيَ ببراعة المحللين والمؤوّلين، داعش تلك الرواية التي اكتسحت كل العالم وأدهشت فصولها الجمهور فصفّقوا سُخطًا ولومًا.
متى سنكف عن كوننا مفعولاً به ليس له من القضية غير ردات الفعل؟ متى نفكّر في صناعة وعينا لا المشاركة في تزييفه؟ متى نصبح قادرين على أخذ مسافة بين الحدث والموقف الذي نصدره؟ متى نكف عن غبائنا المُتباهي بذكائه الذي يدعي أن ما يحصل لنا مؤامرة ليس إلّا؟! متى نكف عن الدفاع عن ضعفنا أمام هذه القوى؟ متى نكف عن لَوْكِ أفكارٍ عفّت العقول وننشغل عنها بتهوئة عقولنا؟ متى نكف عن اتباع النتائج ونسعى نحو اتباع الأسباب التي تسير بنا نحو الحقيقة؟! متى سيخرج مثقّفونا من طوباويتهم ونظرياتهم المجردة ويتمخض وعيهم ليلد نجاة قومهم؟ متى سنخلع جُبةَ الضحية ونخطو من تمثيل الدور نحو إخراجه وكتابة نصه؟ متى سنتعامل مع “داعش” والعديد من مشاكلنا كحقيقة تحتاج منّا التمحص والبحث عن حلول، لا كصورة نكتفي بمجرد التعليق عنها!