ترجمة وتحرير نون بوست
على الرغم من نجاحها في صد التقدم العسكري الإسرائيلي في غزة، إلا أن المناورات السياسية الإقليمية التي اتبعتها حماس في السنوات الأخيرة لم تؤتِ ثمارها؛ فالحركة تم عزلها وتهميشها سواء من قِبل إسرائيل أو من قِبل الأطراف العربية الأخرى، كما تُركت الحركة بدون عون من قِبل السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، لذا فإن حركة المقاومة الإسلامية الآن هي أمام خيارات صعبة لمرة أخرى خلال حياتها السياسية، ويبدو أنها تتجه لاختيار العودة الحذرة لأحضان المخيم القديم المتمثل بإيران وحزب الله، وحماس تُقْدِم هذه المرة – بشكل خاص – على مناورة محفوفة بالمخاطر.
العزلة الخانقة
خيارات حماس الأخرى محدودة جدًا أو ببساطة قد تكون معدومة، حيث تبدو قلة من الدول العربية مهتمة بمد يد العون للحركة، وحماس تُركت وحدها لتلبي احتياجات قطاع غزة في أعقاب الحرب الدموية الإسرائيلية على القطاع، وهذا ما وضع الحركة أمام تحديات هائلة تتمثل بالاقتصاد الهش، والبنية التحتية المحطمة، والأنفاق المدمرة في رفح، والحصار الإسرائيلي المستمر.
إن الاتفاق ما بين حماس وفتح، والذي أعقبه تشكيل حكومة فلسطينية جديدة، كان من المفترض أن يمهّد لتحركات أخرى تم الاتفاق عليها مسبقًا، بما في ذلك إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن هذه الآمال تم تحطيمها من خلال الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على غزة وأطلقت عليها اسم عملية “الجرف الصامد”، وتسببت بقتل وجرح آلاف الفلسطينيين، وتركت غزة مفجوعة بأفظع دمار تتعرض له في التاريخ الحديث.
وبدلاً من إعادة بناء الوزارات الحكومية في غزة على وجه السرعة لتحويل الأموال إلى القطاع المدمر، والبدء في عملية إعادة الإعمار، عمدت الحكومة في رام الله برئاسة رامي حمد الله إلى تأخير هذه الإجراءات، في خطوة لا يمكن تبريرها إلا من خلال المنطق السياسي البحت، حيث لم تتسلم غزة حتى الآن سوى حفنة من المال الذي خصص لإعادة إعمارها، كما أن الإبداع الغزاوي في ابتكار طرق للبقاء على قيد الحياة بدأ يصل إلى طرق مسدودة، وبدون وجود أي منفذ، وفي ظل الحصار المستمر الذي يعاني منه القطاع، غزة لن تستطيع الصمود ضمن هذه الظروف لفترة أطول.
حاولت حماس التقرب من مصر باعتبارها طوق النجاة البديل لكسر الحصار الخانق على غزة، ولكن هذه المحاولات باءت جميعها بالفشل، خاصة بعد تسلّم عبد الفتاح السيسي لقيادة البلاد، حيث صهر النظام المصري وقتئذ جماعة الإخوان المسلمين وحماس في بوتقة واحدة، وأعلنت الحكومة المصرية أن حماس منظمة إرهابية في مارس الماضي، محطمة بذلك آمال الحركة في التقارب المصري.
وفضلاً عما تقدم، تلقي وسائل الإعلام المصرية اللوم على حماس في الحرب الجارية والمستمرة منذ سنين في شبه جزيرة سيناء، ووصلت هذه الخطة الشيطانية إلى ذروتها عندما تم اتهام الجناح العسكري لحركة حماس “كتائب عز الدين القسام” بالإرهاب من قبل محكمة الاستئناف المصرية، وعلى الرغم من أن الكتائب حاولت الدفاع عن نفسها بقولها إنها لم ولن تتدخل أبدًا في الشؤون الداخلية لأي دولة عربية، إلا أن هذه الدفاعات لم تلق آذانًا صاغية وضاعت في صمت الأثير.
والآن وفي ظل تدمير الأنفاق في رفح، وبناء منطقة عازلة ومحصنة تحاصر جميع أنحاء قطاع غزة من الجانب المصري، يمكن القول إن الحصار على القطاع قد اكتمل تمامًا.
كان من الممكن أن تنجو غزة من هذا الحصار الخانق، لولا الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي خلّفت آلاف العائلات المشردة وأكثر من 11.000 جريح في المدينة الغارقة في الفقر، وعلى الرغم من تعهد مؤتمر المانحين الذي عُقد في القاهرة العام الماضي بالتبرع لإعادة إعمار غزة، إلا أن هذه الأموال لم يتم تسليمها للقطاع حتى الآن، كما أنه وفي حال نجاح مساعي الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية التي تناشد الدول المانحة للوفاء بتعهداتها، فإن الولايات المتحدة وحلفائها ستحرص على ألا يتم تمرير المال إلى غزة عن طريق حماس.
تغيير التكتيك السياسي مرة أخرى
إذن، كيف ستتصرف حماس؟
قبل ما يسمى بالربيع العربي، كانت المنطقة تنقسم إلى مخيمين سياسيين، الطرف الأول معروف باسم “محور المقاومة” ويتألف من إيران وسوريا وحزب الله وحماس، والثاني هو معسكر “المعتدلين” الذي يتألف من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، حيث تم تشكيل المحور الأخير لموازنة المحور الأول، بعدها عمدت السياسات في المنطقة إلى إيجاد فجوة ما بين السنة والشيعة، ولكن في ذاك الوقت لم يكن هذا التفريق ظاهرًا؛ فوجود حماس -المنظمة السنية – ضمن المجموعة الشيعية – النظام السوري وإيران وحزب الله – لم يكن يشكّل مشكلة في ظل الحدود الواضحة للمعركة التي يقودها الحلف الأمريكي – الإسرائيلي بمواجهة محور المقاومة، حيث إن هذه الحدود الواضحة جعلت من الفروق الطائفية غير ذات معنى.
في البداية، تم عقد آمال وافرة على ثورات الربيع العربي التي انطلقت في عام 2011، ولكن فيما بعد أدت هذه الانتفاضة إلى دخول المنطقة بأسرها بحروب وصراعات دموية، حيث نتج عن ثورات الربيع استقطاب سياسي وطائفي غير مسبوق، وحماس باعتبارها الخليط الناتج عن حركات التحرر الوطني مع أيديولوجية دينية خاصة بها، لم تستطع الهروب من التصنيف الطائفي ضمن منطقة النزاع العربي، حيث أصبح هذا التصنيف فجأة الاختبار الحاسم للسياسات في الشرق الأوسط.
وضمن هذه المنظومة العربية المتهاوية، بدت الحرب في سوريا على أنها السيناريو الأفضل لتنفيذ مخططات القوى الغربية المختلفة، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل والأنظمة العربية الأخرى التي حذت حذوها، حيث تم ضخ المال والسلاح ضمن الانتفاضة الشعبية السلمية، لتحطيم أي مجال للتسوية التفاوضية للأزمة، كما أن المشهد السوري المتأزم حفّر إيران وروسيا للقفز ضمن المعركة، على الرغم من اختلاف الأهداف التي يبغيانها؛ ففي مواجهة الحلم الروسي لاستعادة المكانة الدولية، كانت المعركة بالنسبة لإيران تمثل فرصة لبسط نفوذها الإقليمي، خاصة مع انضمام ذراعها في المنطقة “حزب الله” إلى القتال في سوريا، ونتيجة لما تقدم أصبحت التفرقة السنية الشيعية واضحة بقوة في المنطقة.
الطرفان – السنة والشيعة – لم يسمحا لحماس بالعمل خارج النموذج الطائفي القبيح الذي يحكم المنطقة، فكان من المتوقع أن تختار حماس الانضمام إلى أحد الجانبين، وبالمثل تم فرض هذه الخيارات على دول المنطقة، وبالنسبة لمصر، فقد مارست خيارها بسرعة في عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي، الذي عُهد إليه التوسط لإيجاد حل للأزمة السورية، وكان الخيار المصري المتمثل باختيار الجانب السني – بالطبع – بمثابة رصاصة الرحمة التي قتلت أي فرصة لمصر في قيادة المرحلة الانتقالية التفاوضية في سوريا.
في هذا الوقت، بقي الفلسطينيون متشرذمين متفككين على الرغم من أن وحدتهم كانت تشكل ضرورة مرحلية أكثر من أي وقت مضى؛ فمحنة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا لا يبدو أنها أثرت في أصحاب القرار لخلق جبهة سياسية فلسطينية موحدة، حيث خاضت مجموعات فلسطينية صغيرة الحرب جنبًا إلى جنب مع النظام، أما آخرين فقد انخرطوا للقتال مع المعارضة، وبالنسبة للسلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، فقد بقيت منهمكة في خطاب عملية السلام التافه، بدون إيلاء أي اهتمام لآلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين يُقتلون ويُجوعون في سوريا.
أما بالنسبة لحماس فقد كانت مناوراتها السياسية مكلفة للغاية، حيث اختارت الانفصال عن محور إيران – سوريا – حزب الله، والانضمام إلى الجبهة العربية التي كانت موحدة في السعي للإطاحة بنظام بشار الأسد، ولكن حماس لم تكن موفقة في قرارها، كون الحرب في سوريا تطورت على كلا الجانبين، وانقسمت المعارضة إلى مجموعات عديدة، وبزغت الدولة الإسلامية المعروفة بالراديكالية والعنف الشديدين، وفي ظل إعلان الخلافة من قِبل الدولة الإسلامية، لم يعد النقاش المهمين على الساحة السورية يتمثل بالديمقراطية والإصلاح، وبدلاً من ذلك أصبحت المفردات الرئيسية التي تهيمن على الصراع هي اللغة الطائفية والمذهبية.
مما زاد الطين بلة بالنسبة لحماس، الاضطرابات التي شهدتها مصر، فبعد الإطاحة بمرسي من الحكم، أطلق أنصار السيسي حربًا واسعة النطاق على جماعة الإخوان المسلمين وتوابعها ومن ضمنهم حركة حماس، وظهر هنا أن مقامرة حماس السياسية لم تحقق أي ربح؛ لذا سعت الحركة الفقيرة والمعزولة للانضمام إلى قوات فتح التي يتزعمها عباس لإنهاء الانقسام، وسعيًا لإيجاد متنفس من الوضع الذي أصبح نموذجًا ميؤوسًا منه.
الحرب الإسرائيلية على غزة
ضمن هذه الأوضاع المرهقة، هاجمت إسرائيل غزة، حيث كانت وسائل الإعلام تركز على ضلوع حماس – غير المثبت – في خطف وقتل ثلاثة مستوطنين مراهقين إسرائيليين، ولكن القصة لم تكن في الحقيقة تتركز هنا؛ فمع مغادرة حماس لمحور المقاومة، والعزلة التي فُرضت عليها من قبل معسكر المعتدلين العربي، كانت الحركة في أضعف حالاتها، ووجد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الفرصة سانحة لتوجيه ضربة أخيرة لحماس، حيث ضرب غزة بوحشية لا مثيل لها، كونه كان يهدف لكسر حماس سياسيًا قبل كسر قدراتها العسكرية.
لم يكن الدمار الهائل في البنية التحتية الذي أحدثته إسرائيل في غزة – المدارس والمستشفيات والمصانع والمباني الحكومية والمتاجر والأنفاق وآلاف المنازل – بهدف معاقبة الفلسطينيين في حياتهم اليومية، بل كانت إسرائيل تهدف من خلف هذه الإستراتيجية إلى ضمان عدم بقاء حماس في حكم غزة بعد الحرب، وانهيارها من الداخل ببساطة تحت وطأة المهمة المستحيلة لإعادة بناء قطاع غزة، بدون وجود أي مساعدات على الإطلاق، ورغم أن الحرب المادية قد انتهت محدثة خسائر كبيرة في الأرواح تعدت الـ 2200 فلسطيني، إلا أن الحرب الاقتصادية على القطاع مازالت مستمرة على قدم وساق بمواجهة جبهتين مختلفتين هما إسرائيل ومصر، وفي ظل تجاهل السلطة الفلسطينية في رام الله، بدأت حماس تتطلع إلى طهران للمساعدة.
العودة إلى المحور
العرب خلال هذه الفترة كانوا إما مشغولين بمشاكلهم الخاصة أو يشاهدون العقاب الشديد الذي تتلقاه غزة من إسرائيل بمزيج من الرهبة والدهشة والترقب، والأطراف التي حثت حماس على ترك المعسكر الإيراني، فشلت في المضي قدمًا بسد الفجوة الكبيرة التي أحدثها البُعد عن المحور الإيراني في مجال التسليح والتمويل والمساعدات المادية الأخرى، ورأى كثيرون من داخل حماس أن ترك الحركة بلا عون يُعد خيانة عظمى في حقها، فيما عمد البعض الآخر – الذين لم يوافقوا أصلاً على ترك المحور الإيراني -على حث الحركة لإعادة النظر في تحالفاتها السياسية مرة أخرى.
في الواقع، يمكننا أن نلحظ أن عملية إصلاح العلاقات مع إيران جارية منذ عدة أشهر، فالإشارات العديدة – وغير المباشرة – التي أطلقتها حماس مؤخرًا، أظهرت نوعًا من التقارب بين إيران وحزب الله من جهة، وحماس من جهة أخرى، وهذا التقارب يقودنا لاستنتاج تعاون سيحصل ضمن المدى المنظور.
وبصرف النظر عن الحرب الإسرائيلية على غزة، يوجد ثلاثة عوامل أخرى تدفع حماس إلى تدعيم علاقاتها مع المحور الإيراني: العامل الأول يتمثل بعودة الإجماع والوفاق السياسي بين دول الخليج والتي تهدف إلى الضغط على قطر كي تنأى بنفسها عن جماعة الإخوان المسلمين، أما العامل الثاني فيتمثل بانعدام الأفق السياسي الذي تقدمه المصالحة الفاشلة مع فتح، والعامل الأخير هو الإغلاق الدائم لمعبر رفح من الجانب المصري.
الفرصة السانحة
قامت طائرة مروحية إسرائيلية باستهداف قافلة سيارات في محافظة القنيطرة السورية بتاريخ 18 يناير من هذا العام، وأسفرت هذه العملية عن مقتل ستة مقاتلين من حزب الله من بينهم نجل الزعيم الأسطوري عماد مغنية، بالإضافة إلى مقتل قائد عسكري من الحرس الثوري الإيراني، وهنا استغلت حماس هذه الفرصة السانحة لتقديم التعازي، ولعل أبرز الرسائل جاءت من قِبل محمد الضيف، قائد كتائب القسام، الذي دعا لتوجيه البنادق في المعركة المشتركة ضد إسرائيل، كما انهالت الرسائل السياسية التي وجهتها حماس بهذه المناسبة، حيث قال رئيس وزراء حكومة حماس السابقة إسماعيل هنية “إننا نعلن تضامننا الكامل مع لبنان والمقاومة اللبنانية”، داعيًا إلى الوحدة في مواجهة العدو الرئيسي للأمة، بالإضافة إلى تصريح زعيم حماس خالد مشعل، الذي دعا إلى المقاومة السلمية في سوريا، مشيرًا إلى أن عودة حماس إلى المخيم الإيراني هي مسألة وقت.
في الواقع، يمكن القول إن هذه العودة ستحدث عاجلاً لا آجلاً، وهذا على النحو الذي اقترحه أحمد يوسف، كبير مستشاري هنية، وعضو مؤثر في حركة حماس، حيث قال إن رئيس المكتب السياسي خالد مشعل يجب أن يتوجه إلى طهران قريبًا للاجتماع مع كبار القادة الإيرانيين.
العودة إلى نقطة البداية
عودة حماس المحتملة إلى المعسكر الإيراني من المرجح أن تكون حذرة ومحسوبة وقد تكون مكلفة أيضًا؛ فهناك أزمة ثقة بين جميع الأطراف، وبالنسبة للبعض في حماس، فإن هذه العودة محتمة، إن لم تكن أساسية لبقاء الحركة على قيد الحياة في مواجهة الضغوط المتزايدة التي تعصف بها، وبالمقابل إيران وحزب الله أيضًا بحاجة إلى حماس، على الأقل لكسر حلقة السرد الطائفي السائدة في المنطقة، فحزب الله الذي كان يُنظر إليه في وقت من الأوقات على أنه حصن المقاومة، هو الآن في أدنى مستوياته الشعبية على الإطلاق، وهو بحاجة إلى حماس لكسر النظرة الطائفية التي تحيط به.
وبطبيعة الحال، فإن الكثير من الفرقاء السياسيين شعروا بالإحباط من التحول في مواقف حماس التكتيكية، فمثلاً تصر المعارضة السورية على عدم رؤية المعضلة المستحيلة التي تعيشها حماس، حين أعلنت بصراحة عن مشاعرها الرافضة للتحول السياسي الأخير لحركة حماس، ولكن بالنسبة لحماس فإن الخيارات قاسية وصعبة على حد سواء، وينطبق عليها قول الشاعر “أمران، أحلاهما مر”.
البعض يمكن أن يعاقب حماس على إستراتيجيتها الجديدة، والبعض الآخر سوف يُثني على عودتها إلى الحس السليم، ولكن بالنسبة لحماس والمقاومة الفلسطينية في غزة، المسألة بتجرد هي مسألة حياة أو موت.
المصدر: ميدل إيست آي