لا يبدو أبدًا أن الشعب السوري أو غيره من الشعوب العربية مدرك لحجم المأساة التي تمر به، والتي تعتبر من المآسي العظمى في العصر الحديث من حيث الأرقام على الأقل، وليست الأرقام بالطبع إلا محاولة لقياس هول الكارثة، أما آثارها العميقة وتبعاتها فهي مما يطول الكلام فيه.
إن استشعار الخطر هو مما يعين على العمل على استدراكه أو اتقاء آثاره كحد أدنى، وقد تبدو الصورة مغرقة في الظلمة وداعية إلى اليأس، ولكن لا مناص من الكلام عنها، وليكن التحدي بحجم المأساة، وكذلك النصر!
في استعراض سريع لبعض الأرقام، ومنها ما هو موثق من جهات رسمية ومنها ما هو تقديري، نرى أن عدد الضحايا بكل أشكالهم بلغ 11.2 مليون، وهو عدد مخيف يقترب من نصف عدد السكان، وعدد الأسر المتضررة يشكل حوالي 60% من مجموع السكان، وحوالي 800 ألف شخص يشكلون 120 ألف أسرة أصبحوا بلا معيل، مع العلم أن هذه إحصاءات لا تشمل الشهور الستة الأخيرة.
أحد أكثر الفئات المجتمعية تضررًا هي فئة الشباب الذكور، حيث يشكلون معظم المعتقلين الذين يفوق عددهم 200 ألف، وغالبية الشهداء وعددهم التقريبي حوالي 220 ألف ويشمل كذلك المفقودين، والذين يحسبون في عداد الشهداء غالبًا، فنحن نتحدث هنا عن حوالي نصف مليون من فئة الشباب قضي عليهم بشكل كامل، ومثل ذلك العدد ربما فر إلى دول اللجوء أو هاجر إلى بلاد الغرب، وفي مجتمع يبلغ عدد سكانه 22 مليون يشكل هذا العدد حوالي الربع من فئة الشباب.
مأساة أخرى تكمن في الجرحى البالغ عددهم حوالي 200 ألف، فمن الإصابة إلى النقل إلى تكلفة العلاج – وقد تستمر شهورًا – لكل فرد جريح، يشكل ذلك عبئًا ضخمًا على الثورة والشعب؛ فكل فرد من هؤلاء يكون حملاً ثقيلاً على من حوله بدل أن يعيل غيره، والمؤسف أن الكثير من هؤلاء ربما أُصيبوا بعاهة دائمة نتيجة نقص الرعاية فقط، وكان بالإمكان شفاؤه تمامًا لو حظي بالرعاية الجيدة.
أما الللاجئون إلى بلدان الجوار وعددهم تجاوز الثلاثة ملايين والنصف، فيشكل الأطفال غالبيتهم، ومعظمهم حُرِم من التعليم، ولدينا الآن ربما ثلاثة أجيال على الأقل منقطعة عن التعليم بسبب ظروف اللجوء، بالإضافة إلى أجواء الجريمة والبؤس والنقمة التي تخلقها تلك الأجواء.
والمأساة ممتدة أيضًا إلى مساحات الغابات التي أُحرِقت، والأراضي الزراعية التي خُرِبت، ومصادر المياه التي لُوِثت، وقرى وبلدات دُمرِت، ونسيج اجتماعي تمزق، و ثارات كثيرة أُشعِلت، كل هذا يمكن الحديث عنه بتفاصيله لندرك أننا أمام بلد منكوب وبشكل ممنهج، وما ذلك إلا تطبيقًا لشعار الأسد أو نحرق البلد، وقد فعلوا!
هذا التوصيف البسيط لأجزاء محددة من المأساة لا يعبر إلا عن بوادر المأساة الحقيقية، والتي ستظهر جليًا عندما ترى هؤلاء الأطفال اللاجئين وهم شباب ضائع لا يدري الواحد منهم ما يصنع و يكون صيدًا سهلاً لكل مستغل للجهل والفوضى وقد رأينا بوادر ذلك.
وستظهر أيضًا عند الحاجة للأيدي العاملة التي فقدنا ربعها تقريبًا والكفاءات التي فقدنا معظمها، وهؤلاء جميعًا هم حجر الأساس في كل عملية بناء ستتم بعد سقوط الأسد، ولا نعول كثيرًا على عودة هؤلاء، فقليلون جدًا هم من سيدعون أعمالهم وقد استقروا بها للعودة إلى بلد مدمر.
أيضًا عندما يكون لزامًا علينا أن نرعى 200 ألف جريح وأضعافهم من المدمرين نفسيًا، ومن منا لم يطله شيء من ذلك؟!
وعلى فرض أن الحرب وضعت أوزارها، كيف سيُعيد الشعب السوري تشكيل كيانه، وقد عاشت أجيال منه في بلدان متفرقة كلٌ في ظرف مختلف، كم لاجئ سيعود للوقوف على أطلال البيوت المدمرة والمدن الخربة، ومن منهم سيسكن البيت الذي قُتل فيه أهله وأحرقوا على يد (جيرانه)؟!
وكما قلت آنفًا، ربما تكون الصورة سوداوية ظلامية، لكنها الدرب التي سارت عليها تلك الدول التي نراها الآن مثالاً يحتذى، وكل ذلك معلق على قدرة الشعب السوري على أن يخلق من الألم أملاً، من العجز تحديًا، ومن الضياع غاية!
فالشعوب لا تُهزم طالما أن غايتها واضحة وشبابها واع، شبابها فقط ولا أحد غيرهم!