تعيش أكثر من 47 دولة في العالم على وقع أكبر فضيحة مالية حول حسابات سرية في بنك HSBC Private Bank تجاوزت قيمة تعاملاتها الـ 180 مليار يورو إثر دراسة 130 ألف حساب بنكي في الفترة الممتدة بين سنتي 2006 و2007، فضيحة كشفت جزءًا صغيرًا من حجم التهرب الضريبي الذي تورط فيه ملوك وأمراء وشخصيات مشهورة.
بطل التسريبات الجديد
إثر بروز نجم جوليان أسانج وسلسلة ويكيليكس ثم إدوارد سنودن الذي فضح تفاصيل دقيقة حول كيفية تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على العالم، خطف هيرفي فلسياني الأضواء، النجم الوافد إلى سوق التسريبات والبطل في أعين الرأي العام الدولي، بفضحه الفساد المالي للبنك البريطاني HSBC Private Bank .
هذا المهندس الذي ولد في مونتي كارلو سنة 1972 عمل في البنك المذكور، والتحق به سنة 2001 إلى 2008، شاغلاً مهمة تنظيم الحسابات وتطوير الحماية الرقمية للنظام المعلوماتي للبنك، وخلال عمله، رصد عمليات مالية مريبة من مختلف دول العالم، الفقير منها قبل الغني، وبلغت ما بين نوفمبر 2006 إلى 31 مارس 2007، أي أقل من ستة أشهر أكثر من 180 مليار يورو.
وقوفه على تهريب الأموال وخاصة من الدول الفقيرة دفعه لتسجيل حسابات تهم مئة ألف شخصية و20 ألف شركة، محاولاً بعد ذلك إعلام السلطات السويسرية بما يقوم به البنك من مساعدة الزبائن على التملص الضريبي، لكن لم يجد استجابة، وتوجه إلى بيروت في محاولة منه للفت الانتباه من هناك، لكن لم يجد استجابة .
اعتقلته السلطات السويسرية سنة 2008 ولكنها أفرجت عنه بعد شهور، وهرب إلى فرنسا وسلم للنيابة العامة في نيس قرصًا بجميع الحسابات السرية ومنها لأكثر من ستة آلاف فرنسي، وخوفًا من فضيحة دولية، أصدرت السلطات السويسرية مذكرة اعتقال دولية في حقه، وجرى اعتقاله سنة 2012 في إسبانيا.
وقضى قرابة سنة من السجن في إسبانيا، قرر على إثرها القضاء الإسباني الإفراج عنه ووفرت له الشرطة والمخابرات الإسبانية الحراسة والحماية، وجرى كل شيء بتنسيق مع الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى بحكم أنه قدّم للعالم لائحة المتهربين من الضرائب ووضع سويسرا في موقف حرج للغاية، وجاء حكم المحكمة الوطنية في إسبانيا ضد مذكرة سويسرا بأن “القضاء الإسباني لا يعتبر الكشف عن حسابات سرية جريمة بل عمل لصالح المجتمع”، وساعدت لائحة فلسياني دولاً مثل فرنسا وإسبانيا واليونان والولايات المتحدة على فتح تحقيق بشأن المتهربين.
ومنذ ليلة الأحد الماضي بدأت عدد من الصحف، وعلى رأسها لوموند في نشر لائحة المتهربين من الضرائب، وذلك ضمن “الائتلاف الدولي لصحافيي التحقيق” الذي يضم 154 صحافيًا من 47 دولة، وأغلب الصحف من وسائل الإعلام الجديدة التي تحمل خطابًا غير مهادن لرؤوس الأموال، ورفضت صحف كبرى عالميًا المساهمة في التحقيق لأن بعض المساهمين فيها جاء ذكرهم في لوائح فلسياني.
المغرب ونظرية المؤامرة
وجدت المملكة المغربية نفسها في قلب معمعة فضيحة سويسليكس خاصة بعد أن خصصت صحيفة لوموند لملكها ملفًا خاصًا، في نسختها مدفوعة الأجر، تحت عنوان “جلالة الملك محمد الخامس، صاحب الحساب رقم 5090190103 في HSBC”.
وتطرق الملف إلى إقدام سكرتير الملك الخاص محمد المجيدي على فتح حساب سري باسم الملك يوم 11 أكتوبر 2006، وبلغ رصيده الأقصى في الفترة الممتدة بين خريف 2006 و31 مارس 7.9 مليون يورو، معلقًا بأن هذا الرصيد البخس بالمقارنة مع ثروة الملك الحقيقية يدفعنا للتساؤل حول قانونية حسابه هذا باعتبار أن القانون المغربي يمنع على المغربيين المقيمين في المغرب من أن يمتلكوا حسابات مصرفية في الخارج باستثناء حالات قليلة تستوجب ترخيصًا من مكتب الصرف.
تعاطيًا مع هذا المستجد، سارعت بعض الصحف المغربية القريبة من القصر الملكي إلى تغيير وجهة الخبر من فحش ثراء الملوك والأمراء والرؤساء العرب عامة وملك المغرب خاصة في ظل مؤشرات الفقر العالية التي تعاني منها شعوبهم، إلى سردية بوليسية مخابراتية مؤامراتية على البلد وملكه من طرف “القوى المناوئة” المنزعجة من نجاح المغرب حسب تقديرها.
صحيفة أحداث إنفو مثلاً، أوردت تقريرًا بعنوان “من تحقيق لوموند إلى وقفات المومني وأديب: اللوبي المعادي للمغرب في فرنسا يتحرك”، وجاء في مقدمته: “لا يتعب ولا يكل، فبالأحرى أن يستسلم، هكذا هو اللوبي المناهض للمغرب والموالي للجزائر في محيط الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وفي أوساط بعض وزراء حكومته وبعض أجهزته الأمنية، فبعد تطبيع علاقات عاشت وضعية جمود لفترة تقترب من السنة، وعشية اللقاء بين الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يوم الإثنين بقصر الإليزيه، توالت الضربات الاستباقية لهذا اللوبي الذي يبحث عن نسف أجواء استعادة ثقة اهتزت بسبب ضرباته تحت الحزام.”
وقد استرسل المقال في تحليله – وهو تقريبًا المقال الوحيد الذي خاض في هذا الموضوع في الصحافة المغربية بعد أن أسقطت جل الصحف الإلكترونية والورقية عمدًا المعلومات المتعلقة بالملك -، فذهب إلى أن “شبكات التشويش بدأت تتحرك” وجزم بأن المخابرات الفرنسية تقف وراء تسريب الوثيقة إلى الصحيفة الفرنسية التي انساقت بسهولة وراء “اللعبة”، وقد استهجن كاتب المقال توجيه أسئلة للملك من طرف الصحفيين حول هذه الحسابات البنكية عبر ملفهما في لوموند قائلاً: “الصحيفة الفرنسية المعروفة بمهنيتها، في حالات أخرى غير الحالة المغربية، انساقت بسهولة وراء اللعبة، ووجهت رسائل استفسار وقعها الصحافيان، جيرار دافيتس و فابريس لوم، للكاتب الخاص للملك محمد السادس وللأميرين، كما لو أن الأمر يتعلق بمشتبه بهم، وليس برئيس دولة هناك أعراف ديبلوماسية في التعامل معه، وأمراء يتمتعون بحقوق حماية معطياتهم الشخصية المكفولة بمقتضى القوانين الوطنية، ومنها القانون الفرنسي”.
وقد لمحت تحاليل أخرى إلى أن العديدين لا يريدون للدفء المغربي الفرنسي العائد منذ أيام أن يتواصل، وكالعادة، وجهت أصابع الاتهام بطريقة غير مباشرة نحو الجار اللدود الجزائر، رغم أن الشخصيات التي كشف أسرارها تسريب سويسليكس تنتمي إلى أكثر من 40 دولة، لكن نحن العرب نعشق صنع المؤامرة إما لتبرير فشل أو لمواراة محاور النقاش الحقيقية باعتماد تقنية “التعويم المؤامراتي” أو “الهروب عبر تصنع الأزمة”.
عودة الدفء الفرنسي المغربي رغم سويسليكس
بالنظر إلى نهج الدبلوماسية المغربية خاصة في تعاطيها مع كل أنواع النقد تجاه ملكها، ولو الخفيف منه، توقع المحللون أن تُلقي فضيحة #سويسليكس بظلالها على الزيارة الخاصة التي يؤديها الملك محمد السادس إلى فرنسا منذ 30 يناير والتي كان من بين برنامجها، تنظيم لقاء غير رسمي مع رئيس فرنسا فرانسوا هولاند، بهدف إذابة الجليد بين البلدين خاصة مع نجاح المفاوضات الأخيرة التي أدت للاتفاق على استئناف التعاون القضائي بين البلدين، خاصة وأن الصحيفة الوحيدة التي خصصت ملفًا كاملاً لتحليل رصيده المكشوف هي صحيفة فرنسية.
على عكس ما كان منتظرًا، تجاهل القصر الملكي الحادثة برُمّتها واختار عدم التعقيب وواصل زيارته إلى فرنسا غير عابئ بالضجة التي أُثيرت حوله، وأدى يوم الإثنين زيارة الى قصر الإليزيه حيث حظي باستقبال رسمي، ووفق بلاغ مشترك للرئيسين عقب اللقاء، تطرقت المباحثات لمجموعة من القضايا الإقليمية والدولية، كما أضاف نفس المصدر أن الملك محمد السادس والرئيس فرانسوا هولند قد أكدا على متانة الشراكة المتميزة التي تربط الرباط بباريس، وأشادا بالاتفاق الثنائي الذي تم نهاية الشهر الماضي مرسيًا شروط التعاون القضائي بشكل أكثر فعالية بين الجانبين.
وبحسب نفس المصدر فإن “ملك المغرب ورئيس فرنسا أكدا العزم على العمل سوية على مكافحة كل أشكال الإرهاب والتعاون بشكل كامل في مجال الأمن”، وتم الاتفاق على برنامج مكثف من الزيارات الوزارية سيتم تفعيلها لتحضير اجتماع رفيع المستوى بين الحكومتين.
يأتي هذا الاتفاق كتتويج لجهود سابقة لعبتها الدبلوماسية المغربية أدت في مرحلة أولى إلى استئناف التعاون القضائي ثم إلى عودة الأمور إلى طبيعتها بين البلدين في مرحلة ثانية، وهو ما يؤكد على نجاح الضغط المغربي في إحداث اختراق للكتلة السياسية في فرنسا الغير متحمسة له من جهة، ويشير من جهة أخرى إلى أنه لا يمكن لفرنسا أن تستغني عن مصالحها الإستراتيجية في شمال أفريقيا وفي المغرب العربي.