ترجمة وتحرير نون بوست
كتب جوهان سوينن و مارا ب.سكوتشريني:
الكاكاو والشوكولاتة لهما تاريخ طويل في أمريكا الوسطى، ولكن هذا التاريخ يصبح قصير نسبياً إذا ما نظرنا إلى باقي دول العالم، لآلاف السنين كانت القبائل والإمبراطوريات في أمريكا الوسطى تنتج الكاكاو وتستهلكه وتعمل على صناعة المشروبات التي تتضمن الكاكاو كعنصر أساسي، وعندما وصل الإسبان إلى تلك المناطق استطاع بقية العالم الاستفادة من هذه النبتة؛ ففي البداية، بقي إنتاج الكاكاو محصوراً في مناطق إنتاجه الأصلية، ولكن بعد القضاء على آلاف السكان المحليين نتيجة للحروب والأمراض المستوردة، تم استيراد العبيد من أفريقيا للعمل ضمن أرجاء أخرى من العالم لانتاج الكاكاو.
أول إزدهار اقتصادي عالمي كبير للشوكولاتة حدث في نهاية القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، حيث عملت الثورة الصناعية إلى تحويل الشوكولاتة من مشروب سائل إلى طعام صلب مليء بالطاقة ومناسب لدخل الفقراء، ونتيجة لذلك، ارتفع الاستهلاك –وبالتالي الطلب- على الشوكولاتة بشكل سريع في أوروبا وأمريكا الشمالية.
بازدياد شعبية الشوكولاتة، ازداد إنتاجها بالتلازم مع ازديارد انتشار أماكن الإنتاج في جميع أنحاء العالم لتلبية الطلب المتزايد على هذه السلعة، ومن المثير للاهتمام، أن الكاكاو وصل إلى غرب أفريقيا في أوائل القرن الـ20، وعلى الرغم من تأخر وصوله إلى هذه المناطق، إلا أنه ابتداء من أوائل ستينيات القرن الماضي هيمنت دول غرب أفريقيا على إنتاج الكاكاو العالمي، وعلى وجه الخصوص أصبحت غانا وساحل العاج الدولتين الرائدتين في انتاج الكاكاو وتصديره حول العالم.
نظرا للنمو الهائل في تجارة الكاكاو واستهلاك الشوكولاتة، لم يكن من المستغرب أن تتدخل الحكومات ضمن الأسواق من خلال إصدار تشريعات مختلفة تحكم هذه التجارة، وركزت هذه التشريعات قديماً (في القرنين الـ16 والـ19) على الاستفادة من إيرادات إنتاج الكاكاو والتجارة به، وذلك من خلال فرض الضرائب على تجارة الكاكاو، وبيع الحقوق الحصرية (الاحتكارية) لانتاج الشوكولاته ضمن البلدان، أما التنظيمات الأكثر حداثة فركزت بالغالب على تنظيم جودة المنتج وسلامته الغذائية؛ فمع تزايد الطلب على الشوكولاته في القرن الـ19، عمد المنتجون إلى استبدال الكاكاو بمواد خام أرخص، تتراوح بين المنتجات النشوية والمنتجات الدهنية أو حتى المكونات السامة، وسمحت الاختراعات العلمية التي تطورت في القرنين الـ18 والـ19 بإجراء الاختبارات على سلامة المكونات الغذائية للشوكولاتة، وإزاء الغضب الشعبي ضد استخدام المكونات غير الصحية ضمن الشوكولاتة، أصدرت الكثير من الدول سلسلة من أنظمة السلامة التي منعت فيها استخدام مكونات محددة في هذه الصناعة، حتى وصل الأمر في بعض البلدان المتطورة قانونياً مثل فرنسا وبلجيكا إلى وضع تعريف قانوني للـ”الشوكولاتة”!
استهلاك الشوكولاتة يحمل العديد من الجوانب الرائعة، فهي إحدى مقومات المتعة الغذائية، كما أنها أحد أكثر الهدايا المفضلة لدى أغلب الأشخاص، وأطلق على الشوكولاتة خلال الفترة الماضية الكثير من التسميات والصفات مثل الغذاء الصحي، والشهوة الخاطئة، والمنشط الجنسي، وسبب السمنة.
تاريخياً، وعلى امتداد الفترة التاريخية التي كانت فيها الشوكولاتة مشروباً قبل أن تصبح منتجاً صلباً، كانت الدول تشيد بالآثار الإيجابية للشوكولاتة على الصحة والتغذية، ففي تلك الفترة كان الكثير من الشعب يعاني من الفقر والجوع ونقص الطاقة، لذا أصبح مشروب الشوكولاتة (وأصابع الشوكولاتة فيما بعد) مصدراً إضافيا هاماً للتغذية، أما في العصر الحديث وفي السنوات الأخيرة، أصبح استهلاك الشوكولاته يرتبط مع العديد من القضايا الصحية السلبية، مثل السمنة، وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن تأثير الشوكولاتة على الصحة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمكوناتها (وبالطبع بكمية الاستهلاك)؛ فأصناف الشوكولاتة السوداء أو قليلة الدهون أو قليلة السكر تعتبر مكونات صحية ومهمة في النظم الغذائية المتوازنة على عكس أصناف الشوكولاتة كثيرة الدهون أو كثيرة السكر التي يؤدي إستهلاكها المفرط إلى نتائج سلبية على الصحة البشرية.
تعتبر الشوكولاتة إحدى مشاكل عصرنا الحالي الذي يتميز بالمجتمعات ذات الدخل المرتفع، والجوع المنخفض؛ فمع انخفاض سعر الأغذية، تبرز بشكل تدريجي مشكلات صحية عديدة مرتبطة بالبدانة نتيجة للاستهلاك المفرط للشوكولاتة، حيث غالباً ما يرتبط هذا النوع من الاستهلاك بالتهور وعدم القدرة على ضبط النفس، ونتيجة لذلك قامت البحوث العلمية الجديدة باستعمال الهندسة السلوكية لمساعدة المستهلكين الذي يفرطون باستهلاك الشكولاتة على التعامل مع التأثيرات الظرفية بشكل صحيح، وتغيير سلوكهم تجاه المغريات بطريقة مستدامة، وذلك من خلال تنبيههم إلى ضرورة تغيير سلوكهم الاستهلاكي، ومقاومة إغراء الشوكولاته.
أحد الجوانب المثيرة للاهتمام حول الشوكولاتة هو نوعيتها، حيث أن نوعية الشوكولاتة تحدد بمعايير مختلفة عن باقي الأطعمة مثل الجبن أو النبيذ؛ فجودة الشوكولاتة لا ترتبط بمكان زراعة أو انتاج المواد الخام المكونة لها، بل ترتبط بعملية تصنيعها وتختلف النوعية وفقاً لموقع التصنيع، وبعض البلدان، مثل سويسرا وبلجيكا، ترتبط لديها صناعة الشوكولاتة بتقاليد عريقة، ولكن مع ذلك، فإن النظرية شيء والحقيقة شيء آخر؛ فالشوكولاتة البلجيكية، مثل شوكولا اللوز والكمأة، هي من أشهر أنواع الشوكولاتة في العالم حالياً، ولكن الواقع يقول بأنه حتى عام 1960 كانت بلجيكا تستورد من الشوكولاتة أكثر مما تعمل على تصديره، ولم تشتهر الشوكولا البلجيكية وتغزو العالم إلا بعد هذا التاريخ، وذلك حين تم ضم شركات الشوكولاتة البلجيكية ضمن شركات قابضة عالمية، حيث أصبحت الكمية الأكبر من هذه الشوكولاتة يتم تصنيعها خارج البلاد.
وعلاوة على ما تقدم، تتأثر آراء المستهلكين حول نوعية الشوكولاتة بتجاربهم الاستهلاكية داخل بلادهم؛ فمثلاً المستهلكين في السويسرا يفضلون الشوكولاته الناعمة القادرة على الذوبان داخل الفم، أما في بريطانيا فيفضلون الشوكولاتة الحليبية، وما يفضله المستهلكون في أمريكا ينظر إليه الأوروبيون على أنه نخب متدني من الشوكولاتة.
المخاوف الأخلاقية حول الشوكولاتة نجمت عن الهيكلية المحددة لسلسة القيمة لانتاج الشوكولاتة المصنوعة من الكاكاو حول العالم؛ فبالنسبة لمعظم القرن الماضي، تميزت سلسلة القيمة باتجاهها من الجنوب نحو الشمال، كون معظم المواد الخام “حبوب الكاكاو” تنتج في البلدان النامية في الجنوب، ومعظم عمليات التصنيع والاستهلاك تتم في الدول الثرية في الشمال، وهناك سمة أخرى تميزت بها هذه السلسلة، وهي أن تصنيع الكاكاو في بلدان الجنوب يتم حصراً عن طريق المعامل الصغيرة، على عكس طحن الكاكاو والمراحل الأولى من عمليات تصنيع الشوكولاتة التي تسيطر عليها الشركات العملاقة.
ولكن سلسلة القيمة لانتاج الشوكولاتة من الكاكاو شهدت تحولات كبيرة في السنوات الأخيرة، كان أولها التحول في طريقة إنتاج الكاكاو وتسويقه في البلدان النامية؛ فما بين ستينات وثمانينيات القرن الماضي كان يتم تنظيم زراعة وانتاج الكاكاو في البلدن النامية من قبل الحكومات بشكل صارم، حيث كانت المؤسسات الحكومية تهيمن على عمليات الانتاج كما كانت تتحكم بأسعار الكاكاو وتعمل على تنظيم التجارة به، أما في السنوات الأخيرة أدت النزعة إلى التحرر السياسي والاقتصادي إلى الانعتاق من الهيمنة الحكومية اللصيقة، حيث أصبح اقتصاد السوق يلعب دوراً أكبر في تحديد الأسعار والتداول، مما أدى إلى إنشاء أنظمة هجينة جديدة تجمع ما بين القطاع العام والقطاع الخاص في مزارع الكاكاو.
أما التحول الثاني فتم من خلال توعية المستهلكين حول ظروف العمل وانخفاض الدخل والاستغلال الجاري في معامل انتاج الكاكاو الافريقية والتي تؤدي إلى اختلالات هيكلية في سلسلة القيمة، وهذه الحملات أثارت المخاوف لدى المستهلكين؛ مما شجع على المباشرة بحملات المجتمع المدني التي تستهدف علاج الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة الناجمة عن ممارسات منتجي الكاكاو خلال سلسلة الانتاج “مثل عمالة الأطفال”، وهذه الإستراتيجيات المدنية لاقت استجابات من الشركات المنتجة تمثلت بإطلاق مبادرات تنمية مستدامة مشتركة بين مؤسسات المجتمع المدني والحكومات، كما أدت إلى إجبار المنتجين على الحصول على شهادات معينة مثل شهادات التجارة النزيهة وشهادات “UTZ”، وأدت أيضاً إلى إجبار الشركات على اتباع قوانين مسؤولية اجتماعية بهدف حماية حقوق العمال.
يشهد العالم حالياً الازدهار العالمي الثاني للشوكولا، ولكن الفرق بين هذه الازدهار والذي سبقه، هو أن النمو السريع في الطلب لا يأتي من دول الشمال، بل من البلدان النامية والناشئة التي تتميز بنموها الاقتصادي السريع مثل الصين والهند وأيضاً أفريقيا، حيث أن النمو الاقتصادي غير المسبوق الذي حصل في العقود الماضية، ومستويات التحضر التي ارتبطت بهذا النمو، وضخامة حجم الاقتصاد، جميع هذه العوامل ساعدت الصين والهند لتكونا أسواق النمو الرئيسية لاستهلاك الشوكولاتة، بالإضافة إلى أن النمو الاقتصادي الأفريقي الكبير منذ 15 سنة ماضية وحتى الآن، تمت ترجمته في الحاضر إلى تزايد في استهلاك الشوكولاتة في القارة التي تنتج معظم حبوب الكاكاو حول العالم.
المصدر: أوكسفورد يونيفيرسيتي برس