الصورة: مسرحيّة “عمليّة السّلام” التي مكّنت إسرائيل من تعزيز مكاسبها على أرض الواقع
ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
قاد البيت الأبيض خلال العشرين سنة الأخيرة مفاوضات السّلام وحافظ لنفسه على دور الحكم في تسوية الخلافات بين إسرائيل والفلسطينيّين، ومثل أيّ حَكَم تفرض الولايات المتّحدة على الطّرفين الولاء والطّاعة لها. ولكن هذه السّيطرة الأمريكيّة سواءًا في علاقتها بإسرائيل أو بالسّلطة الفلسطينيّة بدأت تتلاشى بوتيرة متسارعة.
فقد ظلّت هذه الأزمة في العلاقات تكبر منذ أن انطلقت قبل ستّة سنوات، عندما تزامن وصول أوباما للبيت الأبيض سنة 2009 مع صعود حكومة يمينيّة متطرّفة في إسرائيل يترأسها بنيامين نتنياهو. وخلال لقائهما الأوّل قال أوباما لنظيره الإسرائيلي “لا تضف أي حجر آخر” في إشارة إلى ضرورة التّجميد الفوري لبناء المستوطنات حتّى تتمكّن واشنطن من إعادة إحياء مسار أوسلو المتوقّف منذ وقت طويل. ولكن إجابة نتنياهو جاءت سريعة من خلال مواصلة الإستيطان الذّي لم يتوقّف يومًا. وأخر إهانة في هذا الصّدد جاءت مؤخّرًا بنجاح نتنياهو في انتزاع دعوة من الكونغرس للذّهاب إلى هناك وإلقاء خطاب وكانت تلك بمثابة القطرة التّي أفاضت الكأس.
من الواضح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يريد التّأثير في السّياسة الخارجيّة لأوباما فيما يخصّ مفاوضات الملفّ النّووي الإيراني من خلال محاولة إقناع الكونغرس بتشديد العقوبات على طهران وهو ما سيشوّش على هذه المحادثات التّي أحرزت تقدّمًا وسيخلق أزمة جديدة قد تنتهي بتوريط الولايات المتّحدة في حرب مع إيران.
ولكنّ نتنياهو ليس الوحيد الذّي يريد اختبار قوّة أوباما، فقد اختار الرّئيس الفلسطيني محمود عبّاس مؤخّرًا التصرّف دون مشورة البيت الابيض. فبعد سنوات من الإنتظار العبثي قرّر عبّاس المراهنة على داعمين دوليّين جدد لعلّهم يساعدونه على بلوغ هدفه بإنشاء دولة مستقلّة، وتجاهل كلّ التّحذيرات الأمريكيّة وتمسّك بقرارات الأمم المتّحدة ثمّ طرح سلاحه الاخير المتمثّل في طلب الإنضمام للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة بلاهاي. وقد اعتبرت إسرائيل هذه الخطوة بمثابة “انتفاضة دبلوماسيّة” وطالبت الولايات المتحدة بقطع مساعداتها السّنويّة للسّلطة الفلسطينيّة التّي تبلغ 400 مليون دولار.
تمامًا مثل العرّاب الذي يحكم في النّزاعات بين عصابات المافيا، يجد أوباما صعوبة في التحكّم في الوضع مادام قد فشل في إخافة الطّرفين وفرض الإحترام عليهما. ولكنّه هو السّبب في هذه المشاكل، فقد قال مسؤول في البيت الأبيض قبل ستّة سنوات “لقد صفعنا نتنياهو على وجوهنا” في إشارة لاستهتار هذ الأخير بتعلميات أمريكا وعدم دفعه لأيّ ثمن لهذا الإستهتار في مقابل تنفيذ عبّاس لكلّ ما طلبته منه إدارة أوباما دون أن يتلقّى أي تقدير لجهوده.
يعتقد المسؤولون الإسرائيليّون والفلسطينيّون كلّ من جانبه أنّ لديهما مصالح حيويّة يتوقّف عليها وجودهما وأنّ الولايات المتحدة تعيق تحقيق هذه المصالح.
ينبع العصيان الذّي أعلنه عبّاس من الحاجة الملحّة لتحقيق أي مكسب. وبِما أنّ الولايات المتّحدة لم تكن في يوم وسيطًا محايدًا ونزيهًا في مفاوضات السّلام فقد كان مجبرًا في النّهاية على الإلتفات للمحاكم الدّولية الغير خاضعة كثيرًا لسطوة أمريكا، على أمل إجبار إسرائيل على قبول حلّ الدولتين.
أمّا مناورات نتنياهو من جهتها فهي ترتكز على المخاطرة والتّلاعب بالولايات المتّحدة من أجل إشعال نيران مواجهة مع إيران تمكّن إسرائيل من المحافظة على هيمنتها في المنطقة. ولبلوغ هذا الهدف يراهن الإسرائيليّون على فرضيّتين غير مؤكّدتين:
الفرضيّة الأولى هي المماطلة والإنتظار، فعلى اعتبار أنّ العهدة الرّئاسيّة في أمريكا لم يبقى منها أكثر من سنة ونصف يراهن نتنياهو على أن يكون خليفة أوباما من الحزب الجمهوري وبالتّحديد من الصّقور المنسجمين مع رغبته في التّصعيد مع إيران. ولكنّ حسابات نتنياهو يمكن أن تسقط في الماء فحتّى لو فاز الجمهوريّون فإنّ خطابهم المتشدّد تجاه إيران سيصطدم بإكراهات الحُكم وسيجدون أنفسهم أمام نفس الوقائع العسكريّة والإستخباراتيّة التي خضع لها أوباما.
الفرضيّة الثّانية هي أن ينجح نتنياهو من خلال زيارته للكونغرس في عرقلة أي اتفاق وشيك بين واشنطن وطهران، ويراهن الإسرائيليّون لتحقيق هذا الغرض على ولاء الكونغرس الذي قال عنه أحد الملاحظين أنّه “منطقة نفوذ إسرائليلية واقعة تحت الإحتلال الأمريكي”. وبالرغم أنه من المؤكد أنّ إسرائيل تمتلك نفوذًا كبيرًا في الكونغرس فإنّ نتنياهو بصدد تلقّي صفعة ستعيده لحجمه بسبب تطاوله على رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة. فقد شرع مسؤولون كبار من الحزب الدّيمقراطي في حشد الدّعم صالح أوباما وحذّرت نانسي بيلوزي زعيمة كتلة الأقليّة في مجلس النوّاب من أنّ الكثير من الدّيمقراطيّين قد يقاطعون خطاب نتنياهو فيما سيمتنع آخرون عن التّصفيق إن حضروا على عكس موجة التّصفيق الحار التي انخرطوا فيها خلال آخر مرّة ألقى فيها نتنياهو خطابًا في الكونغرس. وهذا مؤشّر خطير يرفض نتنياهو أخذه بعين الإعتبار، فتأثيره وتأثير إسرائيل في الولايات المتّحدة يتأتّى من كونهم مدعومين من كلى الحزبين، وبالدّخول في مواجهة مع الرّئيس تضع إسرائيل نفسها في خطر تدمير التوافق الواسع داخل أمريكا حول دعمها وتفتح لأوّل مرّة ملفّات مغلقة وتجعل الشّعب الأمريكي يتساءل هل أنّ مصالحه هي نفسها مصالح إسرائيل؟
كما يهدّد الخلاف الكبير الذي تسبّب فيه نتنياهو بإلحاق ضرر إستراتيجي كبير بإسرائيل، فهو يشجّع طهران على التوصّل لاتفاق مع القوى الغربيّة لا لشيء إلاّ لتعميق الشّرخ بين تل أبيب وواشنطن.
وبالتّزامن مع ذلك قرّرت محكمة الجنايات الدّوليّة المبادرة بفتح تحقيق في احتمال ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب حتّى قبل إتمام إجراءات انضمام فلسطين للمحكمة في خطوة استباقيّة أمام للضّغوطات المتزايدة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة.
من أبرز نتائج هذا التّدهور الكبير في العلاقات الثلاثيّة الذي تسبّب به نتنياهو بتعنّته تجاه الفلسطينيّين ووقاحته مع الأمريكيّين هي فتح المجال أمام المناورات الدّبلوماسيّة. حيث ستقوم أطراف عديدة مثل دول الإتّحاد الأوروبي وروسيا والصّين وإيران ومؤسّسات دوليّة مثل المحكمة الجنائيّة بملئ الفراغ الذّي نجم عن فقدان واشنطن لدورها و لمصداقيّتها وبالتّالي ستعيد هذه الأطراف هيكلة تصوّراتها للصّراع الفلسطيني الإسرائيلي وهو ما سيسبّب لإسرائيل مشاكل ومخاطر لا يمكن التّنبّؤ بها.
المصدر: مجلة وقفة مع الأخبار