هل تحتاج تونس مجددًا للتوافق؟

tunisia-politics_wide-74aba5999c2dcd09e11fdc478a14483f5e0a9a38

 

نجحت تونس كما هو معلوم في تكذيب التكهنات بانتكاس مسار الانتقال الديمقراطي أسوة بما حصل في المنطقة، خاصة وقد أتمّت منذ أيام ومرة أخرى مراسم تسليم مقاليد الحكم بين حكومة مهدي جمعة المتخلية وحكومة الحبيب الصيد الجديدة التي حظيت منذ أيام بتزكية مجلس نواب الشعب رغم ما شهده تكوينها من صعوبات وتركيبتها من مؤاخذات.

في مقال سابق، تحدثت عن أفق حكومة الصيد، ومن أبرز النقاط التي سلطت عليها الضوء هي مسألة الانسجام الحكومي وخلق حالة من التوافق داخل المجلس الوزاري حتى ينصب جل اهتمامه على معالجة الملفات العالقة والمستعصية عوض التركيز على الدونكيشوتيات السياسوية الحزبية الضيقة، و في ذات السياق تحدثت أيضًا عن أن الحكومة وإن كانت لا ترتقي إلى مرتبة الوفاق الوطني، إلّا أنها تأتي كثمرة للاتفاق بين أغلب الأطراف السياسية الجادة في البلاد على أن البلاد لم تعد تحتمل مماحكات أخرى حول قضايا أزلية لن تُحل لا اليوم ولا غدًا ويمكن ترحيلها إلى مراحل تاريخية قادمة يكون الاستقرار والرخاء الاقتصادي والاجتماعي أحد سماتها.

التوافق بما هو جملة من التسويات بين طرفين وأكثر عادة ما تكون أطرافه على أطراف النقيض من بعضها البعض، وهذا بديهي وهو ما يخلق الحاجة إلى التوافق، وتحصيله يستوجب بالضرورة الانتهاء عند مشهد يتوقف فيه جزئيًا الشد والجذب و يرضى فيه الجميع ببعض التنازلات التي تتفاوت درجة إيلامها من جهة إلى أخرى، الألم أكيد موجود وهو ما يجعل التوافق عسير الهضم مما دفع قواعد بعض الأحزاب إلى التململ من هذا اللفظ والتساؤل بتندر: متى سينتهي عهد التوافق!

بالرجوع إلى تفاصيل المشهد السياسي التونسي نخلُص إلى أن التوافق كفكرة يحتاج أن يُنزل في أطر مُختلفة لحل المشاكل الموجودة والمُنتظرة، ففي الحكومة مثلاً، وكما بينت سابقًا، سيحتاج الصيد أن يضع على قائمة أولوياته مسألة الانسجام والتضامن الحكوميين.

الحكومة بشكلها “الائتلافي” ضمت أحزابًا لم يسبق وأن شكّلت فيما بينها أدبيات وآليات للعمل المشترك، أي أننا إزاء مُركّب غير منسجم العناصر، تحت تأثير الحائل الأيديولوجي، الطيب البكوش في علاقته بحركة النهضة مثالاً،أو تحت تأُثير الراهن السياسي تموقُعًا ومزاجًا وموقفًا، الوطني الحر وآفاق تونس مثالاً أيضًا.

خلق هذا الانسجام في التشكيل الحكومي سيحتاج إلى صياغة نظام عمل صارم يُحدد مساحات تحرك ونفوذ كل فرد، إضافة إلى خلق القابلية النفسية لدى المُحترزين لسبب أو لآخر من بعض “الزملاء” حتى يتركوا أمزجتهم خارجًا بهدف العمل كفريق يُوحده الهدف العام وهو تنفيذ البرنامج الحكومي الذي سبق وطرحه الحبيب الصيد يوم طلب تزكية مجلس نواب الشعب، وبالنظر إلى مستوى الوعي والخبرة، سيحتاج تحقيق هذا مجهودات جمة من الجميع وخاصة حالة من التوافق تُلغي المُختلف فيه أو تُؤجله إلى حين، لفائدة الاجتماع على المشترك الأدنى.

التوافق على مستوى وطني جيد ومحمود، ولكن يبدو أن مُختلف الأحزاب الفاعلة والمؤثرة في الشأن العام التونسي باتت تحتاج لفتح حواراتها الداخلية حتى تتجاوز نقاط الاختلاف الجوهرية التي باتت تُهدد كينونتها.

حزب نداء تونس مثلاً، يُعاني منذ تأسيسه من مراهنته على تعددية الروافد بين الرافد الدستوري (نسبة لورثة النظام القديم) والرافد اليساري والرافد النقابي ورافد رجال الأعمال، فجسم انبنت فلسفة تكوينه على تجميع الجسيمات دون بذل الوقت والجهد في تشكيل أرضية الالتقاء الدنيا بينها لا يمكن أن يتحمل كثيرًا الهزات التي يمكن لموقف سياسي أو تمش داخلي وإن كان بسيطًا، وبالرجوع إلى أغلب المحطات السياسية التي مر بها الحزب بداية من مرحلة تشكيل القوائم الانتخابية وصولاً إلى ملف “توزيع الحقائب الوزارية” ثٌم الموقف من تشكيل الحكومة وتركيبتها، نجد أن الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية كان أكثر الأحزاب خوضًا لشأنها الداخلي وخصوماته في وسائل الإعلام، بل وصل الأمر إلى تبادل الاتهامات وهو ما يُبيّن بوضوح عدم نجاح الحزب في إدارة خلافه الداخلي.

قد يقول البعض بأن ما يحصل عادي بالنسبة لحزب يافع لم يعقد مؤتمره التأسيسي بعد، إلا أنه وجب التفطن إلى أن هذا الحزب منوط بعهدته قيادة إدارة الشأن العام في البلاد، وتعدد مشاكله اللامنتهية ستؤثّر بالضرورة على عمل الحكومة ونشاط كتلته في مجلس النواب، ولا أبالغ إن قلت بأن وحدة هذا الحزب من مصلحة البلاد ومن مصلحة الانتقال الديمقراطي فيها، فكل الانشطارات داخل الكتل الاجتماعية عادة ما تٌفضي إلى جسيمات متطرفة كانت مسألة ترويضها منوطة بعهدة الجسم المجمع الأول ضمن توازنات كان يُحسن إدارتها، وبالنظر للوضع الداخلي للحزب، لن يتمكّن الأخير من تجاوز عجزه في التنسيق بين الروافد ذات الطموحات والمشاغل المُختلفة إلا عبر إدارة حوار داخلي يفرز حلّا غير مسقط يرتضي الجميع بنوده.

من جهته ، يستعد حزب حركة النهضة، الحزب الثاني تمثيلاً داخل مجلس نواب الشعب التونسي، لعقد مؤتمر يجمع جُلّ الملاحظين بأنه مؤتمر حاسم باعتبار أنه مطروح عليه الخوض في ملفات وقع ترحيلها من المؤتمر السابق لعل أهمها إعادة تحديد هوية هذه الحركة وتحديد الموجهات الكبرى لخطها السياسي، ناهيك عن مسألة الفصل بين الحركة الاجتماعيّة والحزب السياسي بالإضافة إلى ما قد يفضيه من تجديد للهيكل القيادي.

حزب حركة النهضة، الذي طالما عُرف بانضباط منخرطيه وقدرته على إدارته للاختلاف الداخلي، انتقلت له العدوى هو الآخر، ولعل ما تزامن مع موقف مؤسساته من ملفات دعم المترشحين في السباق الرئاسي الذي غابت عنه أو في علاقة بقرار الدخول في الحكومة بتمثيلية ضعيفة من ردود فعل علنية من طرف قيادات تاريخية فيها، ولعل أيضا استقالة حمادي الجبالي ثٌم عبد الحميد الجلاصي مؤشر لارتفاع مؤشر الاحتقان الداخلي.

بحكم اطّلاعي على بعض تفاصيل المشهد النهضوي، أعتقد بأن مُضي الحزب المحافظ نحو المؤتمر بمثل هذا المزاج العام قد يؤدي إلى فشل عقده أو فشل إدارته بالشكل الذي ينبغي وفق الانتظارات الكبرى المطروحة عليه، هذا التقدير وبحكم خصوصية هذا الحزب قد يطرح وبقوة فكرة عقد حوار داخلي سابق للمؤتمر، يمهد فيه النقاش حول المسائل المصيرية بهدف توحيد ما أمكن من الرؤى ومن ثمة يتم ترحيل ما عجزت عن الاتفاق حوله الأطراف الفاعلة والمؤثرة داخل الحركة إلى المؤتمر العام بنية الفصل.

التوافق والحوار تحتاجه البلاد كما تحتاجه أغلب مكونات المشهد السياسي، فعديد الأحزاب تشهد أزمات مختلفة الحدة وإن كنت اكتفيت بنموذجين، ولن يتمكن الجميع من تجاوز المطبات إلا عبر اتفاقات وتسويات داخلية، فإن لم يكُن هذا فلنستعد لتشظّ قد يُفسد المشهد السياسي و قد يُهدد الديمقراطية الناشئة والتي يحتاج تثبيتها مناخًا سياسيًا مستقرًا نوعًا ما.