أرسلت روحي إلى داري تطوف بها
لمّا خُطانا إليها مالها سُبُلُ
أن تسأل الدار إن كانت تذكُرُنا
أم أنها نسيت إذا أهلها رحلوا
إن مِتُ يا دار أو طال الفراق بنا
فصبرٌ يا دار لا يضعف لنا أمل
لابد لليل من صبح ليبدده
ويسطع النور والظلماء ترتحل
“من يوتيوبيات الثورة السورية”
سألوا الأطفال عن الحرب، فذُهلوا وتشاوروا فيما بينهم لإعطاء الجواب، قالوا ما كان لنا يومًا أن رأينا حربًا، ولا حتى سبق لنا سماع وقعها أو صوتها في الأفلام، قالوا يا عمي إحنا كنّا نحب اللعب، نجري ونضحك وناكل منقوشة بزعتر، ونرجع نلعب ونضحك، وإذا في يوم قالولنا في لاجيء فلسطيني جاي بقرب داركم، كنا ما نفهم شو يعني كلمة لاجيء، المهم إنو كان يعرف يلعب ويضحك، وهادا كل اللي بدنا إياه.
لم يقرر أطفال سوريا وحدهم التعرف على كلمة لاجيء، أو البحث عنها في المدرسة والكتاب، لأنه لم يبق كتاب ولا مدرسة، ولم تبق لهم الدار والحياة، لم يقرروا وحدهم بل تم وبالإجبار، ترك المال والدار وأحيانًا الولد في مشهد لم يصوره لا الكُتاب ولا الكاميرات منذ الحرب العالمية الثانية لأكبر عدد من المواطنين تم إجبارهم على التهجير القسري من أرضهم إلى أرض الله الواسعة.
البعض كان يخرج محددًا وجهته؛ فذاك إلي بلاد النيل طلبها لاجئًا، وتلك نحو أرض الفرات تستنجد بها، بلاد العثمانين وشجر الأرز وأوروبا كذلك كانت ملجأ لأهل هذا البلد الطاهر، يوم أن خرجوا آملين أن تصل لدمشقهم صرخات الربيع العربي الغاضبة، لتتحول إلى صرخات خائفة، وأحيانًا خافتة خوفًا من العدو أن يكشف أمرهم وهم تحت غطاء يغطي رؤوسهم مارين في سيارة على حدود البلاد.
وصل عدد الاجئين السوريين إلى ما يزيد عن الثلاثة ملايين سوري متفرقين حول بلادهم وبعيدين عنها، في المخيمات وخارجها، مع منظمات حقوق الإنسان الغربية والعربية التي تكفلت بأمرهم.
هذا أحدث ما توصلت إليه التقارير العالمية عن توزيع اللاجئين السوريين جغرافيًا مع أعدادهم المتزايدة كل يوم.
أما عن الأطفال اللذين شهدوا ما لم يشهده الكثير منا ممن عاش عمره حتى شاب شعره ودُفن هادئًا في بلده وسط أهله، الأطفال السوريون، ما تجد أصغرهم يحدثك إلا وتشعر أنك في حضرة رجل في عقده الرابع أو ما شابه ذلك، رجال في ثياب الطفولة لكنهم على الرغم من ضعف أبدانهم، وأرواحهم المرهقة، مازالوا يحبون الحياة، إنها عجلة الحياة تُرهق الروح، ولكن الصغار على الرغم من ذلك يكبرون.
سألوا الأطفال عن الحرب: حبيبي، شو هي الحرب؟
– إني أصرخ وأقول يا أبي، إنو يكون في ضرب وعالم بتموت وعالم محترقة، هاي هي.
– إجتنا قذيفة وخفنا، وقام أبي أخدنا لمطرح بعيد، ابن عمي مات شهيد في الحرب، هاي هي.
– أنا صرت أشوف القذيفة متل الحلم، صرت بعرف صوتها منيح، تيجي هيك .. بوووف .. بووف بوف، إحنا كنا عم نفطر وإجت القذيفة هزت البيت، وقع البلور وانكسر، طلعنا بره نشوف وين هدت القذيفة، لقيناها هدت على بيت رفيقي، أنا قلقت كتير عليه، لأنو إذا مات ما بلاقي حد ألعب معه.
ورغم الأعداد المتزايدة، والتقارير اليومية، الأطفال يحلمون بالعودة إلى سوريا.
من المخيمات على حدود “الأردن” يتحدث الأطفال:
– حبيبتي إنتوا كيف إجيتوا لهون؟
– بالتهريب، بنركب سيارة وبنوطي مشان ما حدا يشوفنا، وبنعدي.
– كيف كنتي حاسة وإنتي جاية عالطريق؟
– كنت خايفة وبس.
– كيف بتناموا؟
– ما عندنا بطاطين بس مخدات، معنا بطانية واحدة بنتغطي بيها كلنا.
– بتحبي هون؟
– ما بفضل هون أبدًا ..أنا بفضل سوريا .. يعني أنا عمري بحياتي ما كنت لاجئة، وقت كنت أتسمع كلمة لاجيء فلسطيني كنت أسأل إيش يعني لاجيء، أنا عمري بحياتي ما شفت ميا غير ما تكون شفافة بسوريا، هون بشوفها بالألوان.
هل دعوت مخيلتك لتحضر المساء معك اليوم، وترسم معها بخيالك مستقبلاً لهؤلاء، أنا لم أر وجوهًا ملائكية قط في النار، أو عيونًا حالمة يغطيها الرماد والطين، أو أيدًا ناعمة تلونت بلون أحمر ستبقي آثار خطوطه على أصابعهم أبد الدهر.
فهل رأيت أنت؟ وهل باستطاعة مخيلتك أن ترسم مستقبلاً لهم، أن تعيد لهم ولو جزءًا من طفولتهم الملونة بكل ألوان الحرب، هل بمقدورك أن تعيد لهم من رحلوا، من كانوا لهم الملجأ الحقيقي غير الخيمة التي لا تحمي عنهم لا البرد ولا الخوف.
– إذا رجعت على سوريا ليوم .. شو بتعمل؟
– بوقف الحرب.
– شو بدك؟
– بدي أرجع على سوريا، أرجع أدرس في المدرسة.
– بدي أعرف أخبار رفقاتي لأني ما بعرف كيف أتصل عليهم ولا بعرف أخبارهن.
– بدي أدرس وأصير محامية لحقوق الإنسان وحقوق الطفل، بدي دافع عن كل الأطفال.
– بدي يوقفوا ضرب، ونرجع ناكل ونلعب.
– صرنا سنة قاعدين من غير لحمة، بدي لحمة.
أحدث التقارير عن توزيع اللاجئين السوررين في الدول الأوروبية وأعدادهم.
بعض التقارير التي توضح الحالة الصحية للاجئين بمخيم الزعتري بالأردن.
رغم التقارير والإحصائيات والمعدلات والأرقام والخيمات والمساعدات والحسابات والأموال والتبرعات.
أنا لا أهتم لهذا .. فقط دع الأطفال يعيشوا.
إنها عجلة الحرب يا صغيري ترهق الروح حتى تكاد تُزهقها، وأنت تكبر، نعم تكبر وتمرح على الرغم من مرور العمر في عينيك، تحبسك سنواتك العشرة في جسد طفل صغير، ناسية أمر الروح يا صغيري، التي شهدت أمك ترحل، يدك التي لامست جدار دارك قبل الرحيل خوفًا من أن يأتي يوم تتهدم فوق رأسك، نظرتك لهم وهم مرصوصين إلى جانب بعضهم، ملائكة تم خنقهم بالمواد الكيميائية، هروبك وتغطيتك لنفسك وأنت تعبر الحدود خارجًا من بلدك، تحاول أن تشم ما تبقي لها من نسيم في الهواء فلا تجد غير رائحة رماد بلاد تم قصفها فأصبحت خاوية على عروشها، أذنك التي صارت صديقة لصوت القذيفة، تعرفها ولو آتيه مسافة يوم.
حكومات بلاد عرب، أهانتك واستباحت حاجتك للملجأ لإهانتك.
أما عن قلبك أيها الصغير فاعلم أنه لم يمت بعد، مازال يحلم بالعودة إلى سوريا، حتي ولو عدت وكان عمرك تجاوز بدل العقدين أربعة، لن تفوتك أزقتك وحاراتك، ستعدو فيها كالمجنون، تبحث عن الزنبق وستجده في كل مكان كعهدك به، ستقدمه لحبيبتك إكليلاً، ستحملك قدماك للأموي لتصلي، ستدعو ألا يكون ما أنت فيه حُلمًا وينتهي الأمر بقذيفة من السماء، لكن تأكد أيها الصغير أن فوق القذيفة وفوق السماء، رب بيده الصبح يسطع لُيبدد الليل.
يا قائد النفر الغزاة إلى الجديلة أو العين الكحيلة من سنين..
أدري بأنك لا تخاف الطفل حيًا .. إنما أدعوك صدقًا..
أن تخاف من الصغار الميتين..
“تميم البرغوثي”