إن ما يرفع من الحياة كقيمة حيوية بداخلنا غالبًا هو الانطلاق من رؤية أنها وحدات زمنية محددة ستمررّ آثارها وتراكمها لنا ونمرّر نحن أصابعنا في إعادة تشكيلها، والإرث الحقيقي الذي يبقى في الحركة التاريخية ليس إلا الفكرة التي حيكت بخيوط مسحوبة من قلب صادق ومؤمن فاعتاشت عليه لتحيا من جديد في قلب مؤمن آخر ينشد المسير بها مستيقظًا وإن نامت الأرض جميعًا.
لقد كان الإمام حسن البنا صورة من صور هذا الإرث الذي أينع في ذاكرتنا، حين أنشد عهدَ يقظته في التاريخ من اليقين بقيمة الدين الحقيقية كوظيفة اجتماعية تفرز حركة تاريخية بالضرورة، بعيدة كل البعد عن الركود والسكون، قادرة على إنتاج وسائلها من عمقها الذي لا يموت، كرسالة تنويرية تهدف إلى بناء العقول وترشيد السلوك، وتمكّن هذا الإنسان من التفاعل السليم والحكيم مع كل ما يعاينه ويخبره في محيطه.
لعل ذلك كان مما عبّر عن حقيقة الفكرة الدينية وأعاد فورتها ووظيفتها في الفرد والمجتمع والأمة، وإن ذكرى كذكرى استشهاد إمامنا كافية لإعادة النار في جذوة المعاني التي ماتت وكان على رأسها قيمة التجديد في الفكرة الدينية تحديدًا، المنطلق من أساسيتها الثابتة وقدرتها اللانهائية على التطور في حدود الزمن، بتنظير متماسك لآلية التطورهذه، حدًّا يمكّنها من استدخال الأمة في مكانتها التاريخية التي خلقت لأجلها.
في 12 فبراير استشهد الرجل الذي بعث في الناس الإسلام بعد أن أزاح عنه سدول التاريخ حسب تعبير الفيلسوف مالك بن نبي، حيث استطاع الإمام أن يرغم التاريخ على إفساح المجال لمشروعه الحضاري الذي أسس له بكل تروّ وحكمة؛ فأحيا معالم هذا الدين الضائعة في عمق العرف والاعتياد، حين أيقن أن الدين هو البذرة القابلة للارتواء دائمًا (بطريقة إيجابية وسلبية)، وأن للتاريخ أثره التراكمي على أصل الفكرة بداخل هذه الأجيال، فبدأ من أبسط أسس التجديد وانطلق لأعقدها، متتاليًا حسب الأولوية، فنظّر للإصلاح الفردي والقيمي والإصلاح الأسري وأخيرًا الإصلاح المجتمعي القادرعلى السير بشراع الأمة في طريق الحق والاستقامة والوظيفة التاريخية المخولة والمستحقة له وللفكرة العظيمة التي يحملها.
قد كان الإنسان منذ القدم كائنًا باحثًا عن المعنى، وحيث إنْ ليس للمعنى تعبيرًا وقالبًا جاهزًا، وإنما كان ومازال ما يجب أن يُبحث ويُعثر عليه، كان الدين أول هذا المعاني، وأكثرها قدرة على الانبعاث من صلب كل فكرة ذات قيمة وحركة، إن انحيازنا البشري الفطري البسيط نحو ما يسند وجودنا إلى قيمة عليا مطلقة تصيّرنا بالضرورة إلى كائنات تبحث عن أصل الأشياء دومًا بغية إحياء نارها فينا، وكان الدين أول هذه البواعث وأولاها في بحث قيمته الديناميكية في أذهاننا، وقيمة المعنى تنبع من المعاناة في الوصول إليه، فكلما تحملتْ بالآلام حملت معها حقيقة هذه الحياة والوجود، فليس غريبًا أن استشهاد الإمام كان مضرجًا بالدم لتكتب فكرته وتجزل إثمارًا على روح هذا الدين.
لو رضي إمامنا واستكان للفكر الصلد المتراكم على إرث الدين، لوقف وجمد تصوّره وفلسفة مشروعه ولاستكان للماضي والتغني بأمجاده التاريخية التي ستُتجاوز بعد زمن وسينتهي عمرها الافتراضي القادر على تلبية حاجة الإنسان واهتماماته وأسئلته الدائمة، ولكنه آمن بتطور الفكر البشري وباستجابة الفكرة الدينية لهذا التطور الحيوي، فطوّر المنظومة القيمية والأخلاقية القادرة على النهوض بنصوص هذا الدين لبعث المعنى الكامن فينا، ولبعث الحركة الدائمة القادرة على تحطيم كل ما يشوبها، فجعل من الدين نبعًا لفكرة حية باقية نستقي منها ونرتوي لنمضي في طريق التجربة الفردية، التي ستجتمع مع كل التجارب الفردية الصادقة المخلصة لتكوين الفكرة الكاملة عن الحياة والوجود، والتي نرنو ونبحث عنها.
إن خاطبَنا يومًا إمامنا بالحق الصريح فإن هذا الحق ذاته سيظهر يومًا بصوت أنقى من صوته ذلك اليوم، ها هو بذكراه ينشد إدراكنا مرة أخرى لضرورة التنظير لإحياء روح الدين وجذوة المعرفة في الأمة كافة وأن يبقى ذلك متّقدًا في قلبها، ولم يحصر ذلك في مهمة كيان معين أو حزب ليحرس هذا الأمة ويحرس تجاربها في الوصول للحقيقة الكاملة، بل آمن بالكائن اللامحدود فينا وبأن الله غرس بذرة نباته في قلوب عباده الصادقين المخلصين ووهبها منحة الريح فتفرقت على وجه الأرض، فالطرق مختلفة، والصدق منجاة، منجاة مع الله ومع النفس ومع الوجود.
مباركة روحك التي مازالت تخاطب نورًا قديمًا في أرواحنا ومبارك شاهدك ونهجك الذي نجلو به كل درب معتم ، فإن حجبنا الموت عنك وضمّك الصمت العظيم سيشرَع حنين فكرتك في جمع الطين والزبد لحيّ، ومؤمن آخر.
“قليلاً ولا ترَوْنَني
وقليلاً وتَرَوْنني
لأن امرأة أخرى ستلدني”