تعتبر الثورة الإيرانية، بغض النظر عن الموقف من بنيتها الأيديولوجية، واحدة من أبرز الثورات الشعبية في القرن العشرين، وليس من الغريب أن يقارنها دارسو التاريخ الحديث والعلوم الاجتماعية بالثورة البلشفية في روسيا 1917. ثمة عدد من السمات الرئيسية التي منحت الثورة الإيرانية هذا الموقع المتقدم في تاريخ الثورات الحديثة:
- أنها كانت ثورة شعبية بامتياز، وقف فيها الشعب بقطاعاته المختلفة، في مواجهة دولة مركزية، قمعية، بالغة القوة والسيطرة، وبصورة سلمية إلى حد كبير.
- أنها، وبخلاف الثورة البلشفية، استمرت لشهور طويلة، وأظهرت بالتالي النفس الطويل للشعب وقدرته على الحفاظ على وحدة ثورته وتصعيد وتيرتها، في الوقت نفسه، وإفشال مخططات الدولة لاحتواء الثورة أو إجهاضها.
- أنها انتهت بالفعل إلى إنجاز تغيير جذري في بنية الدولة الإيرانية، ليس انتقالاً إلى الديمقراطية والتعددية السياسية بالضرورة، ولكن بالقطع مع الدولة الشاهنشاهية وطبقتها الحاكمة، وتأسيس نظام سياسي جديد كلية، يصعب في المدى المنظور إطاحته.
كانت وفاة ابن آية الله الخميني الأكبر، مصطفى، الذي صاحب والده في منفاه العراقي، في تشرين أول/اكتوبر 1977، الشرارة التي أطلقت الثورة الإيرانية. ما أثار الشبهات حول الوفاة، وما إن كانت حادثة اغتيال قام بها عملاء جهاز استخبارات نظام الشاه، السافاك، أن المفكر وعالم الاجتماعي الإيراني الشهير، علي شريعتي، توفي فجأة هو الآخر في منفاه اللندني، قبل ذلك بأربعة شهور فقط. وبدا، وكأن السافاك، الذي كان يشن حملة قمع دموية داخل البلاد، أخذ في ملاحقة المعارضين في الخارج أيضاً. أبعد الخميني من إيران عنوة في 1963، حيث انتهى به المقام في العراق، بعد موافقة حكومة الرئيس العراقي عبد السلام عارف. وخلال السنوات التالية، تحول إلى رمز للمعارضة الإسلامية لنظام الشاه. تزايدت أعداد العلماء المرتبطين به في إيران، وتوافد العلماء الشبان للالتحاق بحلقته الدراسية في العراق. ولذا، فقد أثارت حادثة وفاة ابنه والشكوك المحيطة بها ردود فعل غاضبة في أوساط أنصاره داخل البلاد. في الشهور القليلة التالية، عقدت مجالس عزاء لذكراه، طبقاً للتقاليد الإسلامية الشيعية، في أنحاء مختلفة من إيران، سيما في مراكز التعليم الديني.
في تشرين ثاني/نوفمبر، قام الشاه بزيارة للولايات المتحدة، حيث استقبلته مظاهرات غاضبة، نظمها طلاب إيرانيون في الجامعات الأميركية. وفي نهاية كانون أول/ديسمبر، أقيم مجلس عزاء حاشد لمصطفى الخميني في مدينة قم، حيث ألقى آية الله خلخالي، أحد تلاميذ الخميني، خطاباً نارياً، هاجم فيه نظام الشاه بلا هوادة. ولم يكن خافياً أن الأصوات الإسلامية المعارضة أصبحت أكثر جرأة. في 7 كانون ثاني/يناير 1978، خرجت صحيفة إطلاعات، بمقالة كتبها داريوش همايون، بعنوان ‘إيران والاستعمار الأحمر والاستعمار الأسود’. ما قصده همايون بالاستعمار الأحمر، الخطر الشيوعي، وبالأسود، الخطر الإسلامي. تضمنت المقالة إشادة بإصلاحات الشاه، وهجوماً صريحاً وحاداً على معارضيه، وعلى الخميني شخصياً، وسخرية من مجالس العزاء التي عقدت لذكرى ابنه. واختتم همايون مقالته بالدعوة إلى مزيد من الإصلاحات التقدمية، مثل إباحة الإجهاض، وإلزام النساء بالسفور، وفرض عقوبات على المحجبات. خلال ساعات من نشرها، علقت مقالة همايون كما المنشور على الأسوار في شوارع العاصمة طهران، ليراها من لم يرها؛ وفي اليوم، التالي، تحول الغضب إلى حركة تظاهر. كانت مظاهرات احتجاج محدودة، بلا شك، ولم يدرك أحد عندها أنها ستكون بداية ثورة شعبية، تستمر 13 شهراً، وتنتهي بإطاحة نظام الشاه.
بيد أن ما أعطى الثورة وقود الاستمرار، لم يكن مقالات أنصار الشاه والصحف الموالية لأجهزته، بل سفك الدماء. كان أول دم يسفك في 9 كانون ثاني/يناير 1978، اليوم التالي مباشرة لمظاهرات الاحتجاج على مقالة إطلاعات، عندما نظم طلاب المدارس الدينية مظاهرة حاشدة بمدينة قم في ميدان بيمارستان فاطمي. قامت قوات الأمن بإغلاق الميدان على المتظاهرين، وأطلقت النار، لتقتل 155 وتجرح المئات. منذ ما بعد واقعة قم، أخذت المظاهرات تنظم في العديد من المدن والبلدات الأخرى، احتجاجاً أو إحياء لذكرى الشهداء وأربعينياتهم. في 7 آذار/مارس، وبعد تصريح للشاه، اتهم فيه المتظاهرين بالرجعية والعداء لحقوق المرأة، شهدت مدن طهران وتبريز ومشهد مظاهرات نسائية ضخمة. وفي 10 نيسان/ابريل، أثناء مظاهرة في العاصمة طهران، أعلنت الهيئات الدينية المنظمة لحركة الاحتجاج بياناً من 14 مطلباً، بما في ذلك تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية، الإفراج عن المعتقلين، وعودة المنفيين، بما في ذلك آية الخميني. كانت تلك مطالب متواضعة، بكل المعايير، ولكنها أظهرت النمط التي ستقاد به حركة الثورة: تصعيد المطالب بتصاعد الحركة الشعبية، ثم عدم التنازل مطلقاً عن أي مطلب معلن.
بدخول أشهر الصيف الحارة وتفرغ الطلاب والشبان من تعليمهم، اتسعت الحركة الشعبية، لتطال معظم أنحاء البلاد، ولتضم كل الجماعات الأثنية والدينية: الفرس والآذريين والعرب والأكراد، والسنة والشيعة. ولأن قوات الأمن لم تعد تستطيع مواجهة المحتجين، لجأت حكومة الشاه إلى استدعاء قوات الجيش، الذي اعتبر بولائه المطلق وشبه الديني للشاه مستودع ثقة النظام، بخلاف قوات الشرطة، التي كان أغلبها من أبناء المدن والبلدات والأحياء نفسها، ولم يعد بالإمكان الاستمرار في الاعتماد عليها منفردة. وباستدعاء الجيش، تصاعدت معدلات العنف التي ووجهت به الحركة الشعبية. من جهة أخرى، ساهمت سلمية الحركة، وتدفق الصحافيين الغربيين على البلاد في اتساع مساحة التعاطف العالمي مع الشعب، سيما في الدول الغربية. لم يكن استبداد وطغيان نظام الشاه خافياً على الدول الغربية، التي كانت هي من أعادته للحكم في 1953، بعد الانقلاب على حكومة مصدق الوطنية، ولكنه كان مستبداً حليفاً. طالما استطاع الشاه الحفاظ على الاستقرار والمصالح الغربية، استمر الدعم الغربي والتغاضي عن الاستبداد، ولكن انفجار البلاد في حركة شعبية معارضة، دفع الكثيرين في الدوائر الغربية لإعادة النظر. أدرك الشاه حقيقة المتغيرات في الموقف الغربي، وفي محاولة لإرسال إنذار لحلفائه الغربيين، قامت أجهزته بتدبير حريق في دار للسينما بمدينة عبدان الجنوبية النفطية، للإيحاء بأن الحركة الشعبية تهدد مصادر النفط. أودى الحريق بحياة المئات، ولكن الحادثة أضافت المزيد من الوقود لحركة الثورة. ومع نهاية آب/أغسطس، بدأت بيانات آية الله الخميني تنادي صراحة، وللمرة الأولى، برحيل الشاه.
في يوم عيد الفطر، 4 أيلول/سبتمبر، شهدت طهران أولى المظاهرات المليونية؛ وبعد أربعة أيام حل ما سيعرف في حوليات الثورة بيوم ‘الجمعة الأسود’، عندما أطلقت قوات النظام النار على المحتشدين بميدان زالة بالعاصمة، وقتلت المئات خلال ساعات قليلة. أصبح واضحاً أن الشاه لم يعد له من مخرج، ولكنه، ولا الملتفين حوله، استطاع أن يرى حقيقة المأزق. وهذا ما دفعه إلى إرسال زوجته في 24 ايلول/سبتمبر إلى بغداد والنجف لإقناع صدام حسين بطرد الخميني وإقناع المراجع الشيعة بدعم الشاه. وليس ثمة شك أن الشاه أخطأ الحساب، فلم يؤد طرد الخميني من العراق، واستقراره بعد ذلك في بلدة نوفيل لوشاتو، قرب باريس، إلا إلى تحرير خطابه وزواره من القيود التي كان يستدعيها وجوده في العراق.
كما كل جيوش الدول الحديثة، حقق الجيش الإيراني، حائط النظام الصلب وأداة الدولة الأكثر بطشاً، توقعات النظام. واجه الجيش، مدعوماً بجهاز السافاك وقطاعات من قوات الأمن، الشعب بقسوة بالغة، في محاولة لإخماد الحركة الشعبية السلمية. لم يقع أي انشقاق ملموس في قوات الجيش؛ وحتى بعد أن بدأت بعض قواعد القوات الجوية، سيما في مدينة طهران، بالتمرد على النظام، في ديسمبر/ كانون أول، كان أغلب جنرالات الجيش لم يزل موالياً للنظام. وبالرغم من أن عناصر في بيروقراطية الدولة انضمت للمتظاهرين، سيما في القطاع النفطي، التزمت دوائر الدولة الرئيسية في وزارتي الداخلية والخارجية والسافاك بأعمالها. ولكن إرادة النظام السياسية كانت تتداعى. جاء الشاه بشريف إمامي رئيساً للحكومة في أول محاولة لاستيعاب الحركة الشعبية؛ وعندما لم تأت المحاولة ثمارها، عين الجنرال أزهري مكانه، وأعطي حرية في اتخاذ إجراءات لمحاربة الفساد المستشري، بما في ذلك أقرب المقربين من الشاه، مثل عباس هويدا، رئيس الوزراء ورئيس الديوان الأسبق. فشل أزهري هو الآخر؛ مما دفع القوى الغربية للضغط من أجل تولية شاهبور بختيار، أحد رجال الجبهة الوطنية المعروفين. ولكن بختيار، الذي تسلم مقاليد الحكومة في 6 كانون أول/يناير 1979، اشترط لتسلم مسؤولية الحكم رحيل الشاه عن البلاد. وهو ما حدث بالفعل، عندما ترك الشاه بلاده للمرة الأخيرة في السادس عشر من الشهر نفسه.
كان الخميني سارع إلى تشكيل مجلس لقيادة الثورة في 14 كانون ثاني/يناير؛ وفي أول شباط/فبراير، عاد إلى إيران، لتستقبله حشود جماهيرية غير مسبوقة. اتخذ الخميني مدرسة في جنوب طهران مقراً له، وبدأ المعركة الأخيرة لإسقاط حكومة بختيار وما تبقى من جسم النظام. جرت المواجهة الحاسمة يومي 10 و11 شباط/فبراير، عندما رفض الخميني توسلات مساعديه بإصدار أمر للناس بمغادرة الشوارع، لتجنب المزيد من إهدار الأرواح. بدلاً من ذلك، أصدر الخميني فتوى تؤكد على أن النزول للشارع بات واجباً دينياً. ليس ثمة تقدير دقيق حتى اليوم لعدد ضحايا أشهر الثورة الثلاثة عشر، ولكن الرقم المتداول يصل إلى 200 ألف، من شعب لم يكن يتجاوز تعداده آنذاك 42 مليوناً، بينهم 20 ألفاً على الأقل سقطوا أثناء شهرين من حكم بختيار. في 11 شباط/فبراير، أعلن عن هروب بختيار، وسقط النظام.
خلال أيام قليلة، كانت إيران تشهد ولادة مؤسسة جديدة عرفت باسم حرس الثورة، تشكلت مجموعاتها الأولى من الشبان الذين نظموا استقبال الخميني وحماية مقره في أيام الثورة الأخيرة. ولأن الجيش ظل موضع شك خلال العامين أو الثلاثة التالية، لعب حرس الثورة، ولم يزل، دوراً رئيسياً في حماية نظام الثورة. ولكن الحرس لم يكن وحده ما وفر حماية نظام الجمهورية. ما جعل الردة على الثورة أمراً عسيراً، بالرغم من اكتشاف عدد من المؤامرات الانقلابية في العامين الأولين من العهد الجمهوري، كانت حملة التطهير الواسعة وبالغة العنف لأجهزة الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك الجيش. واجهت دولة الشاه شعبها بقدر هائل من العنف، وعندما انتصرت الثورة، كان رد الفعل تطهيراً سريعاً وجذرياً لأجهزة الدولة ومؤسساتها، طال الألوف، بل وعشرات الألوف، من الضباط والموظفين. ولأن الطبقة المرتبطة بنظام الشاه رأت نذر ما هو قادم، سارع مئات الألوف إلى الهروب والهجرة من البلاد. وصلت حملة التطهير ذروتها بتشكيل محكمة الثورة، التي علقت آلافاً آخرين على المشانق. كما حل جهاز السافاك كلية، وشكل جهاز قضائي جديد، قاده رجال الدين.
بيد أن عقد القوى التي شاركت في الثورة سرعان ما انفرط. وإلى جانب ضغوط الحرب العراقية الإيرانية الطويلة وباهظة التكاليف، والعقوبات التي فرضتها الولايات والمتحدة ودول غربية أخرى، لجأت منظمة مجاهدي خلق الإسلامية اليسارية، وفدائيي خلق الماركسية، إلى السلاح والاغتيالات لإطاحة رجال الخميني من الحكم. وهذا ما أدخل الجمهورية في مناخ من الخوف والتهديد، أجهض وعود الحرية التي بشرت بها الثورة، بالرغم من أن إيران أصبحت دولة مستقلة القرار.