في عام 1919، أرسل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون باحثًا في الثيولوجيا المسيحية باسم هنري كينغ، ورجل أعمال وصناعي باسم تشارلز كرين، إلى منطقة الشرق الأوسط في إطار محاولات رسم مستقبل لها إبان سقوط الخلافة العثمانية، وكانت مهمتهما هي مسح المنطقة لمعرفة أسلوب الحكم الذي يود قاطنوها أن يعيشوا في ظله، وهي مهمة أتت في إطار سياسات ويلسون وإيمانه بحق الشعوب في تقرير مصيرها ورسم حدود واضحة لها.
بعد ثلاثة أسابيع زار فيها المبعوثان 36 مدينة، والتقيا القيادات المحلية والدينية في سوريا ولبنان وفلسطين وجنوب تركيا، اقترح فريقهما أن تنقسم الأراضي وفقًا للخريطة أعلاه، وهي اقتراحات لم تُنفَّذ بطبيعة الحال، إذ سرت الاتفاقية السرية، سايكس بيكو، بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 باعتبارهما قوتي الانتداب الرئيسيتين بالمنطقة آنذاك.
بيد أن وثيقة كينغ كرين اليوم تمثل سجلًا ثمينًا للرأي العام في هذه الفترة، إذ اشتملت على طيف واسع من الآراء المتداخلة، والمتنافرة أحيانًا، في شتى أنحاء المنطقة، كما تُعَد سباقة في رؤية الإشكاليات التي تواجهنا اليوم، لاسيما استحالة المواءمة بين الواقع على الأرض، وبين مفاهيم مثل الدولة القومية وحق تقرير المصير.
الخريطة اللاقومية: التكامل لا التجانس
تنتشر هذه الأيام حُجَج مفادها أن العنف وعدم الاستقرار الذي اتسمت به المنطقة على مدار القرن المنصرم كان يمكن تلافيه إذا نجح كل شعب في الاستقلال الكامل بعد الحرب العالمية الأولى ورسم حدوده بنفسه، ولكن ما اكتشفته لجنة كينغ كرين، ولايزال ساريًا اليوم، هو أن المجموعات الإثنية والدينية المختلفة في المنطقة لا تنقسم إلى وحدات متجانسة منفصلة عن بعضها، بل إن المنتمين لكل مجموعة لا يشتركون بالضرورة في رؤية موحدة لماهية الحكومة التي يريدونها.
تُذهلنا وثيقة كينغ كرين فيما تكشفه عن شعوب المنطقة بشكل خاص، وعن الإشكاليات التي تواجهها البشرية أثناء رسم حدود ما على الخريطة من عدمه بشكل عام، فعلى سبيل المثال، توصلت اللجنة إلى استنتاج مفاده أن تقسيم العراق إلى جيوب إثنية مختلفة أمر غريب جدًا وغير جدير بالنقاش أصلًا، وأن اليونانيين والأتراك لا يحتاجون أكثر من بلدٍ واحد يعيشون فيه معًا، وأن مسلمي ومسيحيي الشام سيتعوّدون على العيش بتناغم لأن الوعي الاجتماعي الحديث يحث على ضرورة فهم “النصف الآخر”، وهو ما لا يسع تحقيقه إلا بإقامة علاقات وطيدة.
بيد أن اللجنة أيضًا كانت تدرك أن وضع مجموعات إثنية ودينية متنوعة في دول كبيرة قد يؤدي إلى نتائج دموية؛ وهو ما دفعها إلى وضع اقتراحات سياسية تشمل دول فيدرالية ثنائية القومية، أو دول يتلاقى فيها انتداب دولتين كبيرتين، وهي رؤية يمكن القول إنها كانت لاقومية أو ما بعد قومية.
بالمثل، اقترح كينغ وكرين أن تكون القسطنطينية أرضًا دولية تديرها عصبة الأمم، حيث يرد بتقريرهما أنه لا يستطيع شعب واحد أن يضطلع بمهمة التحكّم في المدينة والمضايق المحيطة بها، “خاصة تركيا، والتي تملك سجلًا سيئًا في سوء الإدارة والحكم”، على حد قولهما، كما اقترحت اللجنة أن تكون القدس تحت إدارة سورية، لا صهيونية، نظرًا لإيمانها بأن المسلمين، والذين يعترفون بالمقدسات اليهودية والمسيحية والمسلمة، أقدر على حمايتها، وأحق بحُكمها بشكل طبيعي.
لم يكن أي من كينغ وكريع على قناعة أصلًا بالمشروع الصهيوني، إذ قالا عن وعد بلفور الإنجليزي بأنه مجرد مصطلح برّاق لمشروع مُقلق، وأن قيام دولة يهودية يعني تحويل كافة غير اليهود على أرضها إلى مواطنين من الدرجة الثانية إن لم يكن أسوأ، بالإضافة إلى الحاجة إلى رفع السلاح في مواجهة غير اليهود لتحقيقه.
صورة: وفد من الفلسطينيين في الخليل في انتظار وصول لجنة كينغ وكرين
فيما يخص المسألة السورية، عبر 80٪ ممن التقاهم كينغ وكرين عن رغبتهم في تأسيس سوريا موحّدة، وهو مطلب بالطبع كان غريبًا على لجنة كانت مهمتها رسم خطوط طبقًا لحق كل شعب في تقرير مصيره، بل ودفعت اللجنة أيضًا للتعامل بشكل مختلف مع إشكالية الأقليات، حيث قال الكثير من المسيحيين، خاصة أولئك الموجودين في جبل لبنان، إنهم يرفضون أن يكونوا جزءًا من كيان أكبر يهيمن عليه المسلمون، وهو ما دفع البعض على الناحية الأخرى للمطالبة بـ “لبنان مستقل كبير” – يماثل تقريبًا لبنان اليوم – ليكون وطنًا للمسيحيين.
كان الحل الذي توصلت له اللجنة هو منح لبنان، في إطار سوريا، قدرًا كبيرًا من الحكم الذاتي لتفادي تهديد أمن قاطنيه، دون منحه استقلالًا كاملًا، وهو ما بررته اللجنة قائلة إن “لبنان سيكون في موقع يسمح له بلعب دور أقوى، وحماية روابطه الاجتماعية والاقتصادية الأوسع، بوجوده في إطار الدولة السورية، بدلًا من البقاء خارجها والانكفاء على مشاكله الضيقة”، وبالمثل، رأت اللجنة أن يُعطَى الأكراد قدرًا من الحكم الذاتي، وتأهيلهم لاحقًا إما للاستقلال أو للانضمام إلى دولة كبيرة مثل الرافدين أو تركيا.
صورة: تشارلز كرين مع طلاب صغار بمدرسة في دمشق
وعلى عكس الكثير من وجهات النظر في الغرب، قرر كينغ وكرين الإبقاء على يونانيي ساحل المتوسط في الأناضول جزءًا من تركيا، وقد بررا ذلك في تقريرهما قائلين إن “قدرة اليونانيين على حكم أنفسهم ليست محل نقاش أبدًا، ولا ثقافتهم أو تعاليمهم، بل إن هذه السمات في الشعب اليوناني هي التي تجعل من الأفضل بقاءهم داخل الدولة التركية، على الرغم من العداوات الأخيرة بين الشعبين، لأنهما ببساطة يكمّلان بعضهما البعض”.
لم تتخل اللجنة عن موقفها العابر للقومية هذا حتى فيما يخص المسألة الأرمنية، فرُغم أنها أعطت الأرمن دولة منفصلة وأقرّت بأن الفصل بينهم وبين الأتراك حتمي لا محالة، بالنظر للمذابح البشعة التي قام بها الأتراك، فإنها استنتجت أن فصلًا كهذا ينطوي على مشكلات عديدة، وقد يعطي نتائج عكسية في المستقبل.
في المُجمَل، كان الاستنتاج الأوسع الذي توصل له كينغ وكرين عن الواقع الإنساني على الأرض يتناقض مع مبدأ تقرير المصير، وقد سبقا في ذلك كافة النقاشات التي اشتعلت مؤخرًا حول حدود شرق الأوسط وجدوى تقسيم المجموعات المختلفة الذي يدعو له الكثيرون الآن، والذي كتبا عنه منذ قرن، “لا شك أن الحل الآلي للعلاقات المتشابكة والصعبة هو تقسيمها إلى قطع مستقلة صغيرة، ولكن التقسيم والفصل الشامل في الحقيقة يعززان الفروق ويزيدان من الخصومة”.
بين كينغ كرين وسايكس بيكو
اعتمد اقتراح كينغ وكرين لخريطة المنطقة على الإشراف الأوروبي والأمريكي عبر نظام الانتداب، وقد استخدمته اللجنة لتحقيق أهداف توليف درجات مختلفة من السيادة وحماية الأقليات في دول متعددة القوميات، وكان ذلك أمرًا شائعًا بطبيعة الحال آنذاك، إذ اعتقد كثيرون أن إشراف عصبة الأمم والدول الكبرى أمرًا هامًا لتحقيق تقرير المصير والاستقرار وحماية الأقليات، ولم تكن بعد رؤية الوجود الأجنبي بمثابة “استعمار” رائجة في الغرب، لاسيما وهي أيضًا نابعة من الرؤية القومية، والتي وجد كينغ وكرين أنها لا تنطبق على المنطقة التي حكمها الأتراك طويلًا، فلم تكن هناك غضاضة إذن من انتداب بريطاني هنا وأمريكي هناك.
لم تكن اللجنة في هذا مختلفة عن سايكس بيكو، والتي قامت هي الأخرى على القناعة بأن وجود القوى الكبرى ضروري لحُكم المجتمعات المحلية المختلفة والفصل فيما بينها، وهي قناعة إمبريالية معادية للقومية يحنّ لها البعض الآن في المنطقة، بل إنها واحدة من الأسباب التي دفعت الإنجليز والفرنسيين إلى رسم حدود المنطقة بشكل عفوي وغير دقيق، إيمانًا منهم بأن وجودهم في المنطقة كافٍ وباقٍ، لإدارة العلاقات بينهما وبين الكيانات الموجودة تحت سيطرتهما.
هنا تتجلى أبرز الفروق بين سايكس بيكو وكينغ كرين، فبينما اعتمدت الإمبريالية الأنجلوفرنسية على ضبط الحدود وكبح مطالب الحكم الذاتي في المنطقة، فإن لجنة كينغ كرين كانت تميل إلى محاولة الموازنة بينهما، وهي ربما إشكالية لاتزال معنا إلى اليوم، وإن حلت الدول القومية الحديثة، التي رسمتها سايكس بيكو، محل الإدارة الاستعمارية، حيث ورثت عنها، على ما يبدو، الهوس بضبط الحدود وقمع الصوت المحلي الذي عبر كينغ وكرين الأميال للاستماع إليه، ولربما كانا آخر من حاول الاستماع له وأخذه في عين الاعتبار بجدية.
قد يكون ما يجري في الرافدين والشام (العراق وسوريا) كاشفًا لأهمية مقترح كينغ كرين اليوم، إذ يقول البعض إن تقسيم العراق وسوريا هو الحل الناجع للاقتتال الطائفي فيهما، في حين يقول البعض الآخر إن التخلي عن الحدود بينهما وتأسيس كيان كبير – كما تفعل داعش اليوم – هو الحل الأفضل، والحقيقة أن كلًا منهما منصب بشكل ما على رسم أو مسح الحدود، أكثر منه على محاولة تجاوزها والاشتباك مع الواقع المحلي وفهمه، فالواقع في الحالة العراقية والسورية مثلًا لن يتحسن بتوحيد تلك المساحات الشاسعة، ولا بتقسيمها إلى شراذم، وهو استنتاج توصل له كينغ وكرين منذ قرن حين فصلا بين الكيان السوري والعراقي بناءً على رغبة الكثير من السكان آنذاك.
قد يفيدنا هنا أيضًا ما جرى في إسكتلندا مؤخرًا، والتي رفضت الانفصال عن بريطانيا، دون التخلي عن الاستقلال في الكثير من شؤونها، وهو نموذج يصلح لحل الكثير من الأزمات في الشرق الأوسط، حيث يمكن خلق كيانات حكم ذاتي كثيرة في ظل دول فيدرالية كبيرة تحفظ التواصل والترابط الجغرافي والتاريخي – وهو نموذج ليس غريبًا إذ سرى في أحيان كثيرة في القرون السابقة على الاستعمار – عوضًا عن الجدال حول الانصياع أو الانفصال الصفريَّين، والمُستحيلَين.
يلفت النظر أيضًا في تقرير كينغ كرين عدم ذكر أي مجموعة إسلامية راديكالية في المنطقة، فالقائمون على اللجنة لم يلتقوا أيًا من هؤلاء ولا سمعوا عنهم، وهو ما يطرح سؤالًا آخر جوهريًا عن الشرق الأوسط اليوم، وعن طبيعة السياسات الاستعمارية ثم القومية، التي أدت لظهور هذه المجموعات، والتي تنبأ بها نوعًا ما كنيغ وكرين، إذ عبرا عن قلقهما من أن المشروع الصهيوني تحديدًا قد يستعدى محيطه بشكل يجلب معه حركة إسلامية واسعة، وهو ما دفعهما لاستنتاج أن احترام السكان المحليين والعمل معهم على قدم المساواة لتحسين أحوالهم الاقتصادية سيكون أفضل مما كان يفعله الاستعمار آنذاك.
في الحقيقة، كان يمكن لواشنطن أن تقوم بهذا الدور، إذ تمتع الأمريكيون حينها بسُمعة طيبة بين العرب باعتبارهم شعبًا حريصًا على العدالة، على العكس من الإنجليز والفرنسيين، وهو ما يعني أنه كان يمكن لهم بسهولة، إن أرادوا، الضغط نحو تطبيق مشروع كينغ كرين بدلًا من سايكس بيكو، ولكن هذا لم يحدث، إذ اختفى التقرير في أرشيف الخارجية الأمريكية لسنوات قبل أن يظهر للعلن.
مصير تقرير كينغ كرين
لم يرد ذكر التقرير لثلاث سنوات كاملة في أي منبر دولي، واختفى تمامًا خلال تلك الفترة الحرجة من تاريخ المنطقة، حتى وجد الصحافي والكاتب الأمريكي، راي ستانارد بيكِر، نسخة منه تابعة لوزارة الخارجية أثناء بحثه لكتابة كتاب عن دور الرئيس ويلسون في مؤتمر باريس للسلام، وهو ما جذب اهتمامه ليسهب في الكتابة عنه في “ووردرو ويلسون والتسوية العالمية”، الصادر عام 1922.
كيف فسّر بيكر اختفاء التقرير رغم أهميته؟ قال بيكر ببساطة إن التقرير كان صريحًا أكثر من اللازم، إذ احتوى على كلام شديد الجلاء عن الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية في الشرق الأدني (!).
بدوره، وفي كلمات كتبها بنفسه في ثلاثينيات القرن المنصرم، يقول تشارلز كرين إن “المصالح التي وقفت بوجه التقرير، خاصة اليهودية والفرنسية، نجحت في إقناع الرئيس ويلسون بألا ينشر التقرير بحجة أن الأمريكيين لن يضطلعوا بأي مسؤولية مستقبلية في فلسطين، وهو ما جعل التقرير مُهملًا في النهاية بأرشيف وزارة الخارجية”.
في ديسمبر 1922، نشرت دورية إديتور أند بابليشر تقرير كينغ كرين، وقالت في المقدمة لقرّائها، إنها واحدة من أهم الوثائق التي تم تهميشها أثناء مفاوضات السلام في تركيا، وأن “نص التقرير يكشف بجلاء لماذا تم إخفاؤه من قِبَل وزارة الخارجية (الأمريكية) المتخاذلة، والتي لو نشرته في وقته، كما كان مقررًا له، لغيّرت الكثير في سير الأحداث في تركيا، بل ولربما حوّلت من الأسلوب الأمريكي تجاه مسؤوليات ما بعد الحرب (العالمية الأولى) برمّته، فقد كان التقرير ليحررنا من الدعاية غير المسؤولة والخاطئة التي غمرتنا، ولأنقذ ربما أرواح مليون شخص لقى حتفه منذ الحرب، ولأغنانا عن مؤتمر لوزان، والحرب اليونانية التركية، والخلل الذي اتسم به تعاون الحلفاء في الشرق الأدني، وكافة الأحداث التراجيدية التي تهددنا الآن.
العالم اليوم يسير في الطريق الخاطئ لأن هناك حقائقَ تم إخفاؤها عنا، أو لي عنقها، ولو كان العالم قد رأي الوضع العالمي كما هو، دونما زيف، ومع الاطلاع على كافة المعاهدات السرية، كان يمكن أن ينحو منحًا آخر يؤدي إلى نتائج مختلفة كليًا”.
منقول بتصرف من مقدمة “إديتور أند بابليشر” لتقرير كينغ كرين عام 1922، ومن مقالين نُشرا في “ذا أتلانتك” و“واشنطن ريبورت”.