تاريخيًا تُعد روسيا من أشد الأمم تدافعًا مع شعوب العالم الإسلامي، ولا يرجع ذلك للأسباب العقدية والأيديولوجية فحسب، وإنما لأسباب تاريخية، فضلاً عن دور الجيوسياسة في هذا الجانب.
بينما كانت الدول الاستعمارية تحتل بلدان العالم العربي والأفريقي في أواخر القرن التاسع عشر والعشرين، كانت روسيا تحت السلطة القيصرية ثم الشيوعية بعدها تستولي على بلدان وسط أسيا والقوقاز المسلمة ومنطقة البحر الأسود والقرم، واتفق الإنجليز والفرنسيون على تقسيم قلب العالم الإسلامي في العراق والشام الكبير وبلاد جنوب الأناضول في خضم الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية سنة 1915، 1916م، وقد كانت روسيا شاهدة وشريكة على هذه الاتفاقية التي عُرفت باسم سايكس بيكو، والتي غالبًا ما ينسى أو يجهل المنظّرون لها دور الروسيين فيها، إلا أن هذه الاتفاقية سُرعان ما عُدّلت فيما بعد، عقب قيام الثورة البلشفية سنة 1917م، وفضح البلاشفة لها؛ إذ كانت روسيا القيصرية ستحصل بمقتضاها على إسطنبول والمضائق المائية في مرمرة والدرنديل والمنطقة الأرمنية في أسيا الصغرى والكردية في شمال العراق وأفغانستان بعد هزيمة العثمانيين، فضلاً عن حماية ورعاية المصالح الأرثوذكسية في العراق والشام وفلسطين.
ومنذ الإعلان عن قيام الثورة البلشفية ثم قيام اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية القائمة على أفكار وكتابات كارل ماركس في المناحي الاجتماعية الاقتصادية سنة 1918، وهجومها القوي على الرأسمالية والإمبريالية الأمريكية والغربية، انتقل التحالف على تقسيم العالم الإسلامي إلى النزاع على العالم الإسلامي وأوروبا؛ ذلك أن منظّري الثورة البلشفية وعلى رأسهم تروتسكي وزير خارجية الثورة كان يرى أن أوروبا إما أن تكون مع البروليتاريا وإما أن تكون ثورة مضادة تخنق الثورة الروسية، الأمر الذي اضطر الولايات المتحدة إلى الدخول منذئذ في تعضيد موقف الحلفاء في الحرب العالمية الأولى ثم ما بين الحربين الأولى والثانية.
على أن ظهور النازية والفاشية بزعامة أدولف هتلر وحلفائه في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين قد قلّل من الخطر السوفياتي إلى حين، ثم سرعان ما قامت الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) نتيجة الحلف الذي وقع على الألمان في أوروبا وخارجها منذ الشروط القاسية التي فُرضت عليهم عقب الحرب العالمية الأولى، فتمثّل الخطر النازي في هذه الحرب على الشرق الروسي والغرب الأوروبي والأمريكي على السواء، وفشل الدبلوماسية السوفييتية في التوصل لحل مع النازيين يجنّبهم هذه الحرب، لذا اتفق الروس على التخلي عن الأيديولوجيا وقدّموا المصالح السياسية واتفقوا مع الأمريكان وأوروبا الغربية على ضرورة التوحد ضد هتلر وموسليني، وبعد القضاء على ألمانيا، وتواري فرنسا وبريطانيا في الظل بسبب الخسارة الاقتصادية الفادحة التي جرتها عليهما الحرب، صار العالم خاضعًا لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية ونفوذ السوفيات، ومنذ ذلك الحين بدأ ما يُعرف بالحرب الباردة، وفق إستراتيجية الكتل، فكل من الطرفين سعى بكل ما أوتي من قوة لبسط نفوذه السياسي والعسكري والفكري والاقتصادي، وانقسم العالم إلى قسمين: الكتلة الشرقية الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفياتي، والكتلة الغربية الرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة.
في أثناء الحرب العالمية الثانية بدأت تتجلى السياسة الروسية تجاه رعاياها من المسلمين، لقد خافت روسيا من تتار القرم، وإمكانية موالاتهم للألمان فحشدت أكثر من نصف مليون تتري في يوم واحد، ورحّلتهم إلى سيبريا وجمهوريات وسط أسيا المسلمة، ولم تسمح بعودتهم إلا منذ ستينيات القرن العشرين ثم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات من نفس القرن.
لعبت الولايات المتحدة على وتر عداء الأيديولوحيا الشيوعية للأديان، بما فيها الإسلام، والظلم والاضطهاد الذي لاقاه المسلمون في عباداتهم وعقائدهم، فبدأت تدعم الحركات المسلحة الإسلامية في وسط أسيا، وتنبه السوفييت إلى هذا الخطر، فشرعوا مرة أخرى في تقديم المصالح السياسية كأولوية على المسائل العقدية عقب وفاة ستالين ومجيء خروتشوف، وبنفس أسلوب الأمريكان، صار السوفييت يدعمون الأفكار الشيوعية في الشرق الأوسط، وأفكار القومية العربية المعادية لإسرائيل والمصالح الأمريكية، وتلاقت الأفكار الناصرية مع الاشتراكية السوفييتة في أثناء صفقة التشيك سنة 1955م، ثم التحالف المصري السوفييتي المعلن أثناء العدوان الثلاثي سنة 1956، ثم في بناء وتمويل السد العالي، فضلاً عن التسليح المتدفق على مصر، وصار عبد الناصر عماد السياسة السوفييتة في الشرق الأوسط، وحاولت الولايات المتحدة كسر هذا النفوذ الروسي بالتقارب والتحالف مع تركيا وإيران وتدعيم نفوذ حلف الناتو في البحر المتوسط، بل ومحاولة تدعيم ما سُمي بحلف بغداد الذي واجه النفوذ الشيوعي من خلال العراق وإيران وتركيا وباكستان وبريطانيا، لكن هذا الحلف سرعان ما خفت بريقه وقوته منذ ثورة عبد الكريم قاسم سنة 1958 على الملَكية، وإعلانه سياسة الحياد وتقاربه من الاتحاد السوفييتي، وتمكن السوفييت من بسط نفوذهم في مصر وسوريا واليمن الجنوبي والصومال، فضلاً عن دعمهم حركات التحرر الوطني المعادية للغرب في كل من فلسطين والجزائر.
أما ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية فقد وقف السوفييت موقف الحياد، ولطالما نصحوا الفلسطينيين ممثلين في منظمة التحرير باحترام قرارات الأمم المتحدة القاضية بحل الدولتين وإعادة المُهجَّرين خلال حرب 48، ولم تزد على ذلك، اللهم إلا وقوفها العلني مع مصر في العدوان الثلاثي وتسليحها المتدفق الذي كان بصورة ما أقلّ فاعلية من التسليح الصهيوني الأمريكي.
كانت هزيمة مصر وسوريا والأردن في نكسة 67 حافزًا لزيادة المساعدة العسكرية الروسية لهذه البلدان، وبالرغم من طرد السادات للخبراء الروس في سبتمبر 1972، إلا أن النصر الجزئي في أكتوبر 1973 قد حرّك المياه الراكدة حول الأراضي المحتلة، وشيئًا فشيء انسلخت مصر من التحالف السوفياتي، وأعلن السادات في مارس 1976 إنهاء العمل بمعاهدة الصداقة مع موسكو من جانب واحد، ثم ما أعقب ذلك من اتفاق كامب ديفيد سنة 78، وترتب على هذا عزلة مصر عربيًا، وزيادة الدعم الروسي لكل من سوريا وليبيا ومنظمة التحرير، فكان من نتائج هذا الدعم قيام الحرب الإسرائيلية اللبنانية منذ 78 إلى الاكتساح الكبير سنة 82، ولم تزد روسيا السوفيتية على القيام بدور الضغط الدبلوماسي في مجلس الأمن والأمم المتحدة.
لم تكن المنطقة العربية هي بؤرة الصراع السوفييتي الأمريكي، فبينما عزّزت واشنطن مكانتها في الشرق الأوسط بإقامة القواعد العسكرية، والإشراف على المصالحة المصرية الإسرئيلية، ثم انتشار أساطيلها في الخليج العربي منذ 1974، سارع السوفييت إلى احتلال أفغانستان سنة 1979 لتكون على مقربة من الخليج العربي، فاضطرت الولايات المتحدة مع ذلك إلى زيادة شحن العرب والمسلمين تجاه الروس، بل وشجّعت الحكومات العربية والإسلامية على الحديث عن مجاهدة السوفييت، وضرورة دحرهم من الأراضي الأفغانية المسلمة، وبهذا الخطاب، ومع توالي الوفود من المقاتلين إلى باكستان ثم أفغانستان، ونظرًا لسوء الأوضاع الاقتصادية في الداخل السوفيتي نتيجة سباق الأسلحة المحموم، ومشروع حرب النجوم الذي خططت له الولايات المتحدة لإرهاق الاقتصاد السوفييتي، فضلاً عن الاضطرابات السياسية في أوروبا الشرقية وبولندا؛ اضطر الروس إلى الخروج منهزمين شر هزيمة سنة 1989، لكنها كانت قد وطّأت أقدامها في سوريا واليمن، وكانت الحرب العراقية الإيرانية “الخليج الأولى” قد صرفت الأنظار قليلاً عن الخطر السوفييتي في الشرق الأوسط، ثم كان سقوط جدار برلين ثم تفكك الاتحاد السوفيتي سنة 1990 بداية انكفاء الروس على مشكلاتهم الداخلية إلى حين.
لقد كان الجنوب كما كان يُسمى قبل قيام الاتحاد السوفييتي أو الشرق الأوسط قبلة روسيا القيصرية والسوفييتية لما للمقدس الديني من أهمية، وكذلك القسطنطينية التي استولى عليها الأتراك العثمانيون عام 1453، وهي عاصمة الأرثوذكسية في العالم. والجنوب أيضًا مصدر قلق جراء العداء التركي العثماني الذي استمر لمئات السنين، وكان هذا العداء يُهدّد المصالح الروسية، لاسيما منها خطر إقفال الممرّات المائية التركية التي تصلها بالمياه الدافئة، حيث كانت إحدى عُقد روسيا الأربعة: جليد الشمال ومضايق الجنوب وبُعد الشرق وتهديد الغرب الدائم.
ويمكن تلخيص الركائز الإستراتيجية الروسية القيصرية والسوفيتية تجاه الشرق الأوسط فيما يلي:
- الطموح الدائم في الوصول إلى المياه الدافئة سواء كان عبر البحر الأسود وصولاً للبحر الأبيض المتوسط أو إلى مياه الخليج العربي عبر إيران.
- التسليم المشترك بأهمية الشرق الأوسط في الصراع الجيوسياسي كونه شكّل منطقة حراك للصراع الدولي عبر كل العصور.
- اعتبار المنطقة مجالاً حيويًا جنوب الأراضي الروسية، وتركها لأعدائهم يُشكِّل مصدر خطر على الأمن الروسي.
مما سبق نرى أن الشرق العربي والإسلامي لم يكن مجرد هامش في السياسة الخارجية الروسية في العهدين القيصري والسوفييتي وإنما كان مجالاً حيويًا وإستراتيجيًا لهذه الدولة، وربما ساعدت روسيا على زيادة الأزمات في هذه المنطقة حتى تنكفئ على نفسها بعيدًا؛ قاطعة بذلك الصلة بين العرب المسلمين عن بقية الأقاليم الإسلامية الأخرى التي كانت روسيا قد استولت عليها منذ عصر الإمبراطورة الشهيرة كاترينا الثانية (1762 – 1796) في وسط أسيا والقوقاز!
———————————–
[1] مصادر المقال:
ناصر زيدان: دور روسيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بطرس الأكبر حتى فلاديمير بوتين، الدار العربية للعلوم (ناشرون) – بيروت، 2013م.
ديفيد فرومكين: سلام ما بعده سلام، ولادة الشرق الأوسط 1914- 1922م، ترجمة أسعد إلياس، رياض الريس للكتب والنشر – لندن، 1992م.
الموسوعة الحرة ويكيبديا.
ندوة روسيا والشرق الأوسط، معهد بروكنجز الدوحة – ديسمبر، 2013م.