عندما سمعت خبر استقالة رضا البوكادي، سفير تونس بليبيا، لم يفاجئني الأمر مطلقًا؛ فالاستقالة وحتى الإقالة كانتا أمرًا متوقعًا بعد فترة تجميد دامت خمسة أشهر .
السفير “النهضاوي” الّذي عُين مع مجئ حكومة حمادي الجبالي إثر انتخابات أكتوبر 2011 (التي فازت فيها حركة النهضة بأغلبية مقاعد المجلس الوطني التأسيسي) استطاع طوال السنوات الثلاث الأخيرة أن ينسج علاقات متينة مع طيف واسع من السياسيين وقادة الفصائل العسكريّة في ليبيا من مختلف الاتجاهات والمشارب، علاقات كانت سببًا في حل العديد من المشكلات على المعابر الحدودية بين تونس وليبيا والتي كانت تحدث من حين لآخر بسبب توتر الوضع الأمني في ليبيا، كانت أيضًا سببًا مباشرًا في إطلاق سراح الديبلوماسيين التونسيين المختطفين في ليبيا محمد بالشيخ والعروسي القنطاسي الّلذان اُختطفا تباعًا في مارس من العام الماضي في العاصمة الليبية طرابلس.
جمعني أول لقاء بالبوكادي في الأول من يوليو من العام الماضي، كان ذلك في حوار تليفزيوني مباشرة بعد إطلاق سراح الديبلوماسيين المختطفين، يومها كنت كأي صحفي أُمنّي النفس بأن يسرد السفير عليّ وعلى المشاهدين تفاصيل المفاوضات مع الخاطفين ليكون السبق من نصيبي، لكنّ ما فعله السفير كان العكس تمامًا؛ فرغم إصراري وإلحاحي على أن الإفراج عن الديبلوماسيين التونسيين لابد وأن يكون لقاء “ثمن” ما إلا أنه أصر في المقابل على أن الخاطفين أُقْنِعوا عبر وسيط بعينه بأن عملية الخطف ليست في مصلحة ذويهم المسجونين في السجون التونسية، لم يعطني السفير يومها أكثر من القول بأن مجهودات السفارة انكبت على تحرير المختطفين بدون أي مقابل أو تعهدات، ولم أقتنع برواية السفير التي كانت في رأيي التزامًا بواجب التحفظ الذي تفرضه صفته كسفير، لكن أمرًا أكيدًا كان ماثلاً أمامي وأمام الجميع، فالديبلوماسيون المختطفون عادوا إلى تونس أحرارًا والمسجونون الليبيون ظلوا في سجنهم قابعين، وكان هذا الأمر على الأقل كافيًا لأصدق كلام السفير رضا البوكادي.
شاءت الأقدار ألا التقي رضا البوكادي مجددًا إلا في حوار تليفزيوني، هذه المرة بعد استقالته من منصبه كسفير، حدسي كان يقول لي أن تركه لمنصبه سيحرر بعض المعطيات من عقالها لأفهم ويفهم الرأي العام نزرًا قليلاً من خبايا العلاقة بين البلدين ومن تفاصيل أحداث مهمة حدثت في ليبيا وأثرت تأثيرًا مباشرًا في الواقع التونسي.
سبق تسجيل الحوار اندلاع احتجاجات بمنطقة الذهيبة في محافظة تطاوين الواقعة في الجنوب التونسي، وتداولت صحف ومواقع تونسية شبهة دور ليبي في تأجيج هذه الاحتجاجات؛ فبدأت بسؤال السفير السابق عن تقييمه للعلاقات التونسية الليبية فأجاب بصراحة غير معهودة أن حكومة المهدي جمعة (الحكومة التونسية المتخلية منذ أيام والمكوّنة من مستقلين) أساءت كثيرًا للعلاقات مع ليبيا من خلال محاباتها للحكومة الليبية المنبثقة عن البرلمان الليبي برئاسة عبد الله الثني (الذي وقع حله بقرار من المحكمة الدستورية الليبية) والتي من المفترض أنها تسيطر على كامل المنطقة الشرقية الممتدة من الهلال النفطي مرورًا ببنغازي وحتى الحدود المصرية، على حساب حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة عمر الحاسي والتي تسيطر على الجهة الغربية من ليبيا انطلاقًا من سرت مرورًا بمصراطة وطرابلس حتى المعابر الحدودية مع تونس، وذلك من خلال منع سياسيين وعسكريين محسوبين على حكومة المنطقة الغربية وحكومة الإنقاذ الوطني من دخول تونس للعلاج أو الإقامة، بل إن الأمر وصل حد اعتقال البعض منهم عند مرورهم بتونس عائدين من أوروبا والتحقيق معهم من قبل محسوبين على اللواء المتقاعد خليفة حفتر، مما يؤكد وجود تنسيق أمني قوي بين الحكومة التونسية السابقة وبين حكومة عبد الله الثني ومما يطرح أكثر من سؤال حول مصداقية الخطاب الرسمي للحكومة القائل بالوقوف على الحياد بين جميع الفرقاء الليبيين .
بالعودة إلى قضية اختطاف الديبلوماسيين التونسيين محمد بالشيخ والعروسي القنطاسي بعد أن ضلاّ لأكثر من شهر قيد الاختطاف يقول البوكادي إن جزاءه بعد ماراثون المفاوضات المعقدة التي أجراها للإفراج عن الديبلوماسيين المختطفين كان التهميش والازدراء من قِبل حكومة المهدي جمعة، البوكادي قال إن وزير الدفاع في حكومة المهدي، جمعة غازي الجريبي، أصدر أمرًا بمنعه من صعود الطائرة العسكرية التي نقلت الديبلوماسيين المفرج عنهما من ليبيا إلى تونس، وأكد أن رئيس الحكومة السابق المهدي جمعة كان يقصد إقصاءه من الصورة بهدف عدم نسبة نجاح العملية التفاوضية لما قام به من مجهود ولما له من حظوة وعلاقات.
لم يتوقف السفير السابق عند هذا المأخذ، فقد أكد على أن أكبر مطلوبين للعدالة التونسية في أكثر القضايا الإرهابية خطورة وهما سيف الله بن حسين المكنى بأبي عياض وأحمد الرويسي المتورطون في اغتيال السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وفي التخطيط للعديد من الهجمات الإرهابية ضد قوات الأمن والجيش التونسي قد اُعتقلا في ليبيا من طرف جهات ليبية (رفض تحديدها) وأنه أبلغ الحكومة التونسية بالأمر وطلب منها التدخل للمطالبة بتسليمهما، لكن الغريب أن الحكومة التونسية تجاهلت الأمر حتى أُطلق سراح الاثنين دون توفر معلومات عن مكان وجودهما وعن الجهات التي تخفيهما.
البوكادي أكد أنه أرسل في إطار عمله كسفير العديد من التقارير إلى وزير الخارجية حول الأوضاع في ليبيا وحول الشكل الأمثل لتعامل تونس مع هذه الأوضاع والمتغييرات، إلا أنه تبيّن بعد ذلك أن وزير الخارجية السابق المنجي حامد لم يكن يطّلع على تلك التقارير، ليُطرح السؤال هنا حول سبب تجاهل وزارة الخارجية لهذه التقارير أو عن الطرف الذي تعمّد إخفاءها عن الوزير.
تجاهل تقارير أمنية وسوء التعامل معها ليس سابقة في حكومة المهدي جمعة فقد تسبب ذلك في وقوع هجوم إرهابي بقذائف الـ “أر ب ج” على معسكر للجيش التونسي في يوليو من العام الماضي أوقع 15 قتيلاً و20 جريحًا، رغم صدور تقرير عن جهاز الاستخبارات التونسي قبل الحادث بشهر يفيد بقرب وقوع عملية إرهابية في جبال الشعانبي على الحدود مع الجزائر باستعمال هذا النوع من القذائف، ووجهت في تلك الفترة اتهامات عديدة لوزير الدفاع في حكومة المهدي جمعة غازي الجريبي بالتقصير والمسؤولية وذلك بعد إقالته لمدير الاستخبارات العسكرية في إطار خلافه مع رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزقي وتعيينه لشخص آخر من المقرّبين منه.
تصريحات السفير السابق أثارت أسئلة كثيرة خاصة فيما يتعلّق بوضعية الصحفيين المختطفين سفيان الشورابي ونذير القطاري التي قال عنها رضا البوكادي إنها كانت قابلة للحل السريع لو كان تدخل السلطات التونسية مبكرًا وجديًا، لكن دعواته لتدخل السلطات التونسية أو لتفويضه بالتدخّل لم تأخذها وزارة الخارجية على محمل الجد وبلغ الأمر حد إقصائه من خلية الأزمة المكونة داخل الوزارة لمتابعة القضية.
بعد الحوار الذي جمعني بالسفير وبعد ما صرح به من معطيات، نشرت جريدة الشروق (يومية تونسية) مقالاً يتحدث فيه أحد الأشخاص المفصولين المنتمين إلى ما يعرف بنقابة الأمن الجمهوي (نقابة أمنية تكونت بعد الثورة) على أن السّفير رضا البوكادي هو من كان يتستّر على أبو عياض وأحمد الرويسي داخل ليبيا، تصريح من المرجح أن يكون له ردات فعل إعلامية أو قضائية.
التصريحات التي أدلى بها السفير السابق في حواري التليفزيوني الأخير معه طرحت أسئلة كثيرة حول الدور الذي لعبته حكومة المهدي جمعة في الأشهر التي أمسكت فيها البلاد، والحديث اليوم لم يعد دائرًا حول الوضعية الاقتصادية الصعبة التي خلفتها كتراجع نسبة النمو وكالتراجع الكبير في قيمة الدينار التونسي أمام الدولار واليورو، بل أصبح يتناول أيضًا الدور الأمني والخارجي لمهدي جمعة وفريقه وشبهة سوء إدارة هذا الفريق لملف الثروات المنجمية والطاقية التونسية، وأيضا لمدى حياد هذه الحكومة في العملية الانتخابية الأخيرة.