ذكرنا في المقال الماضي أن الشعور بالتميز ضروري لكل أمة ولكل حضارة، وأن هذا مضطرد في سائر الأمم التي صنعت حضارة، فليس ثمة أمة صنعت حضارة إلا وكانت ترى نفسها حاملة الهداية، وليس من حضارة إلا وكانت بدايتها هذا الشعور.
ومن ثم فلابد لمن يشرع في دراسة الغرب أن ينطلق من هذا الشعور بالتميز لكي يقف على علم الآخر وهو على أرضية صلبة من دينه، وإلا تعرض للذوبان والتغرب.
وذكرنا أن التميز الإسلامي يختلف عن سائر شعور الأمم بالتميز، في أنه حقيقة لا ادعاء، فهو لا يختلط بخرافة ولا يستمد ذلك من أساطير، وهو حقيقة شهدت بها نصوص القرآن والسنة، وشهدت بها نصوص من كتب الديانات السابقة، وشهد به جمع لا يُحدّ من غير المسلمين.
والآن ننظر في التميز الثالث من التميز الإسلامي، وهو أنه يُكتسب.
3. التميز الإسلامي يُكتسب
إن أهم ما في التميز الإسلامي أنه يُكتسب، فلهذا هو أبعد ما يكون عن العرقية والعنصرية والطبقية وما إلى ذلك، وهذا نفسه هو من التميز الذي لم يوجد مثله في غير هذه الأمة [1]، فهو تميز فريد، لا يُعطى لأحد لمجرد أصل الخِلقة أو اللون أو اللسان، وهذا هو الفارق الضخم والأهم في الطرح الإسلامي لمسألة التميز، وهو ما يعصم من الوقوع في الاستعلاء والكبر والعنصرية.
فالإسلام رحمة للعالمين، وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن نفسه فقال: “أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود … الحديث” [2]، وأعلن – صلى الله عليه وسلم – بوضوح في خطبة الوداع قائلاً: “يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى …” [3].
ولهذا فإن خيرية الأمة مشروطة بعمل، فكونها خير أمة أخرجت للناس مُفَسَّر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وكونها أمة وسطا مُفَسَّر بأنها آمنت بالله وبما أنزله في كتابه فشهدت بما آمنت على الأمم السابقة، ولهذا قال عمر بن الخطاب: “من سرَّه أن يكون من هذه الأمة، فليؤد شرط الله منها” [4].
ولئن كان الإسلام نزل على العرب ونزل القرآن بلسان عربي فإن هذا لا يحولهم إلى جنسٍ متميز من حيث كونهم عربًا، بل من حيث حملهم للرسالة، قال ابن تيمية: “كانوا (أي العرب) قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله، ليس عندهم علم منزل من السماء ولا شريعة موروثة من نبي … بمنزلة أرض جيدة في نفسها، لكن هي معطلة عن الحرث أو قد نبت فيها شجر العضاة والعوسج وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب، وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار، جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله، فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء” [5].
على أنهم وإن كانوا طبيعة قابلة للخير في أنفسهم فإن هذا لا يرتبط بجنسهم، فإن “فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، فربَّ حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش، ورب أعجمي صدق رسول الله فيما أخبر وأطاعه فيما أمر وقام بالدين الحق أن يكون أفضل من جمهور العرب وقريش” [6].
ثم إن تعريف العرب نفسه قد تعرض لتغيير، فقد اشتهر ما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، إنما هي لسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي” [7]، وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا إلا أن معناه – كما قال ابن تيمية – “ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه” [8]، ولذلك فإن ما جاء في فضل العرب يثبت لمن تحدث بالعربية “وإن كان أصله فارسيًا، وينتفي عمن لم يكن كذلك وإن كان أصله هاشميًا” [9].
ولقد تحولت هذه المبادئ إلى حقيقة عبر تاريخ الإسلام، يشهد لهذا المستشرق فيليب حِتي إذ يقول: “الحق أن الإسلام قد وُفِّق أكثر من أديان العالم جميعًا إلى القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية، وخاصة بين أبنائه، ولا شك في أن الاجتماع في موسم الحج له الفضل الأكبر في تحقيق هذه الغاية” [10].
***
وإذن، فالتميز الإسلامي عقيدة عند المسلم، وفائدته في سياق بحثنا هذا هو كونه يؤسس للقاعدة الأصيلة التي يتطلبها علم الاستغراب، وهي قاعدة الانطلاق في دراسة الغرب من رؤية ذاتية لا تأثر فيها بالغرب نفسه، فهذه “الذاتية” و”الاستقلالية” لا يمكن تحقيقها بمعزل عن هذا الشعور بالاختلاف والتميز في نفس الباحث والدارس.
ثم إن كون هذا التميز الإسلامي يمثل “حقيقة” وليس مجرد دعوى، يجعل وضع المعايير والضوابط أقرب إلى الحق المطلق، ونقول “أقرب” لأن الجهد البشري في البحث هو اجتهاد معرض للصواب والخطأ، ففيه من الحق الأساس الرباني وفيه من الخطأ بقدر ما في الباحث من بشرية غير معصومة من الزلل.
كذلك فإن كون هذا التميز الإسلامي غير محصور بعرق أو لون أو لغة يجعل رؤية البحث أوسع وأثرى وأرحب، وهو بهذا يشمل حتى الغربيين أنفسهم (بالمعنى الجغرافي والثقافي)، إذ أساس الانطلاق ليس رؤية جغرافية أو أرضية، وإنما رؤية إسلامية تعلو على هذه الخلافات الأرضية وتتأسس على قيم ومنطلقات ربانية مُتَجاوِزة.
—————————————-
[1] فحتى المسيحية – وهي من الأديان التبشيرية المتجاوزة للأعراق والفوارق – لم تنتصر على العنصرية الأوروبية، بل كان الأوروبيون يُغرون الأفارقة بالتنصر للحصول على التحرر، فإذا فعلوا قيل لهم “المسيحية تحرر الروح أما الجسد فيبقى في الرق تكفيرا عن الذنوب والخطايا التي ارتكبها الرجل الأسود”. د. عبد العزيز الكحلوت: التنصير والاستعمار في إفريقيا ص9، 10.
[2] البخاري (328)، ومسلم (521) واللفظ له.
[3] أحمد (23536) وصححه شعيب الأرناؤوط، والألباني في السلسلة الصحيحة (2700).
[4] الطبري: تفسير الطبري 7/102.
[5] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/447، 448.
[6] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/453.
[7] ابن عساكر: تاريخ دمشق 21/407، وانظر: الألباني: السلسلة الضعيفة (926).
[8] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/461.
[9] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/456.
[10] فيليب حتي: العرب تاريخ موجز ص60.